تساءل التاريخ مع الحياة يوماً، كيف استطاع ساكني الجبال أن يأخذوا صفحات من سجلي الخالد رغم اخترق الفقر والجوع لأوساطهم، والصمود، أمام الاحتلال العثماني والفرنسي والإسرائيلي ومقاومته دون سلاح أو بأسلحة تقليدية بسيطة، في منطقة يكثر فيها الكهوف والمغاور والشتاء القارص العاصف، بدلالة ارتفاعها..؟ قد تكون إرادة الإنسان فيها مستمد من قوة طبيعتها وصخورها؟»

الحديث كان للأستاذ "محمد الحجلي" رئيس مجلس البلدة "قلعة جندل" لموقع eSyria بتاريخ 19/9/2009 وأضاف قائلاً: «لعل التاريخ يستجد بالتدوين الشفهي النابع من الصدور ليسجل في سجله ما يريد من الحياة، وربما تكون ولادة الشعور الثوري ناجمة عن قساوة الطبيعة المناخية والتمسك بالأرض الأمر الذي ولدّ الإرادة لدحر الحملات العسكرية الفرنسية التي توافدت إلى "قلعة جندل" والتي تجاوز عدد جنودها600 جندي، مقابل سكان يحملون أسلحة تقليدية لا يتجاوز عددهم بضع مئات يتخللهم الشيوخ والنساء والأطفال، ولكن ما حكاية المعركة المنتصرة، لابد من معاصر يجيب على ذلك، وفي قريتنا "قلعة جندل" المعمر الذي تجاوز العقد التاسع من العمر الشيخ "أبو حمد حسون راشد" هو القادر على نقل الوقائع بمصداقية لأنه معاصر لها».

لأنها طحنت الجيش الفرنسي إذ كان واحداً من الجنود الفرنسيين المشاركين آنذاك بمعركة القلعة

موقعنا زار المعمر الشيخ "أبو حمد حسون راشد" الذي أوضح قائلاً: «ولدت في "قلعة جندل" عام 1917 لأب فلاح يتعامل مع الأرض بحب وعلاقة فهو رجل دين ناسك، استطاع أن يعلمني القراءة والكتابة في زمن الفرنسيين حينما كنا نجلس على جلود المواشي في دار عربية، رغم الاحتلال "الفرنسي" الذي لم يترك لنا فرصة التعلم أو راحة البال، حتى إذا جاء بحملته العسكرية التي تجاوزت "600" عسكري وقيادة الشباب إلى سجنه وتعذيبهم واستشهاد العديد منهم تحت التعذيب، دفع بأهل القرية شبابها وشيابها وبأسلحة يدوية الهجوم على مراكز الفرنسيين ليأسروا عدد منهم ويقتلوا الكثير، بعدها أرسل حملة مجهزة بعتاد أحدث مما سبق، حينها أطلقنا مجموعة من الشباب شعارنا المعتاد في دق طبول الحرب بمقولتنا المتعارف عليها "يا غيرة الدين" للحفاظ على الأرض والعرض، لتكون المعركة الكبرى والتي استمرت ثلاثة أيام متواصلة انتهت عند الساعة الثامنة مساءً، وبعد انكسار الجيش الفرنسي، أعدوا حملة كبيرة وحاصروا القرية بالدبابات والمدافع ليقصفوها كحرب إبادية، ومن أجل إعلام المناطق المجاورة عمد الشباب على الغناء والأهازيج التي تتضمن النخوة مع إشعال النيران ليلاً وهذا دليل على طلب المساعدة، حتى دب الرعب في صفوفهم، وانسحبوا مدحورين، في المعركة استشهد من قريتنا 71 شهيد و3 النساء اللواتي كن وراء الثوار، فقد كانت لهن دور هام حينما كانت تزغرد لبث الشعور والحماس الوطني، إضافة للخبز والماء ومعالجة الجرحى».

الأستاذ محمد الحجلي

وتابع الشيخ " أبو حمد حسون راشد" بالقول: «بعد مرور أعوام كثيرة شاهدت بالصدفة احد المغاربة في "دمشق" وعرفته أنني من "قلعة جندل" فقال لي: «هذه "القلعة السوداء" وقلت له : لماذا؟»..

أجاب: «لأنها طحنت الجيش الفرنسي إذ كان واحداً من الجنود الفرنسيين المشاركين آنذاك بمعركة القلعة».

الشيخ حسون راشد بجانب جذر شجرته

لم يكتف الشيخ "حسون راشد" بالمشاركة بشبابه ضد الفرنسيين بل بحرب الاستنزاف عام 1973 كان له دور إذ بين قائلاً: «في معركة الشرف والكرامة والتحرير كنت مختاراً ما يزيد على 17 سنة للقرية وطريق جبل الشيخ يمر من قريتنا بحكم طبيعة المنطقة، قصف العدو الإسرائيلي ما يزيد على 500 قذيفة، وقعت الأهالي في ضيقة كبيرة وقريتنا تتقاسم النبع والزرع مع القرى المجاورة مثل "بيت تيما وغيرها" حينها قرروا الأهالي النزوح إلى "دمشق"، فكرت طويلاً وبلحظة حاسمة من القرار وقفت في ساحة القرية والناس مستعدين للرحيل وصحت بهم: "حرام وغضب الله علي بيترك بيته وأرضه، وبيكون محرم اجتماعياً وإنسانياً وأخلاقياً وطنياً، يا جماعة العمر محتوم والرزق مقسوم والمقدر مكتوب وما منه مهروب وهذه أرضنا وارض أجدادنا منموت فيها ولا منتركها" عندها قامت النخوات العربية والهتاف وعاد الكل إلى منزله لينقلوا الأسلحة والذخيرة والجرحى من قمم "جبل الشيخ" على ظهر الحيوانات "البغال" في جوٍ عاصف بالثلج».

وتابع الشيخ "حسون راشد" وهو يرفع عكازه وكأنه يعيد مجده قائلاً: «يا بني سوف أروي لك هذه الحادثة، في إحدى العواصف الثلجية التي غطت القمم أدى قوتها سقوط الخيم على الجيش، هبت الأهالي لنجدة الجنود العرب وقاموا باستضافتهم في منازلهم لأن الشعور الوطني والقومي ملتهباً في النفوس والعروق ولا يمكن لأي عربي يحمل الدم العربي السوري أن يرى أخيه في مأزق ويقف مكتوف الأيدي هي لحظات عزة وكرامة لا تنساها الذاكرة».

يحيى راشد

ومن جيل الشباب السيد "يحيى حسن راشد" الذي حضر الحديث وقال: «تأكيداً على ناحية الشعور القومي والوطني سأروي: "أنني كنت صغيراً في تلك الفترة لكنني مدرك للأحداث حين استضاف والدي "حسن راشد" في منزله جنود من المغرب العربي، كانت والدتي تلد، حتى إذا ما وضعت مولدها الجديد بدأ الجنود بالهتاف والفرح والتهاني، وهذا دليل على الشعور القومي المتبادل بين الدول العربية، والمعمر الشيخ "حسون راشد" هو واحد من المعاصرين الذين وثقوا تلك الأحداث فهو كبير أهل البلد وله مساهمات في حل الخلافات والنزاع بين الناس بل بين المنطقة لتاريخه وعراقته، ولهذا فكل كلمة من كلماته هي وثيقة»

يذكر أن المعمر الشيخ "أبو حمد حسون راشد" له أسرة مؤلفة من 5 شباب وسبع بنات ويعد من كبار الشخصيات التي تحظى بالحضور الاجتماعي وما زال إلى يومنا يشارك الناس في أفراحهم وأتراحهم.