يذكر الفنان التشكيلي "فؤاد أبو ترابة" أن الفنان يعيش طفولته في لهوٍ ولعب مثل كل الأطفال، ولكن قد يتميز عن رفاقه بالفضول، لمعرفة ألعابه أولاً وتركيبها وصولاً إلى أغراض منزله ثم الاطلاع على محيطه ومجتمعه بالعادات والتقاليد ويرى الأشياء بحساسية أكثر، ويشكل معها علاقة تأخذ صفة الديمومة إذ تعيش معه ويعايشها لحظة بلحظة.

وبيّن الفنان التشكيلي "ملهم نصر" أن تلة "شعف" بلدة الفنان "عامر الخطيب" التي لعب على أرضها وترابها، ونهل من بيئتها كانت بداية عشقه وإلهامه، إذ ليست البيئة المحلية لأي فنان يعشق فنه وإبداعه إلا إلهاماً له ولمدرسته، ولعمري هي مقدرة أن يستطيع الفن التشكيلي أن يوصل رسالته إلى من يحب.

موقع eSuweda وبتاريخ 2/7/2008 التقى الفنان التشكيلي "عامر الخطيب"، في منزله الذي رغم دراسته للقانون (محامي) إلا أنه استطاع أن يتعامل مع الصورة والريشة أيضاً، وأجرى معه الحوار التالي:

الفنان فؤاد ابو ترابة

  • ما البداية الفنية لديك، وماذا تحمل ذاكرتك من طفولة فنية؟..
  • ** لقد ولدت من أسرة مستورة ومحافظة في قرية نائية من قرى جبل العرب اسمها "شعف" حيث تتعمشق بيوتها البازلتية السوداء الممزوجة بألوان الطيف الأزرق قمة التلة حتى رأسها الذي يتجاوز ارتفاعه عن سطح البحر( 1640) م وقد كان لهذا الارتفاع الشاهق الأثر البالغ في رصد وتأمل البعيد والقريب، وما زالت ألوان التراب المعتق وأحجار البازلت القاسية تداعب ذاكرتي البصرية وتؤلب في نفسي التوق الكثير لتصوير الواقع المحلي المميز، ولصياغة أحجار بيوتها العفوي في كثير من الأحيان رونقاً خاصاً مميزاً يضرم في داخلي الكثير من المشاعر والأحاسيس والأسئلة والقليل من الأجوبة. التربة البنية المعتقة بالأحمر القاني لها تأثير كبير في نفسي، وكنت أهتم بجمع النفايات واللقى على ندرتها وابحث عن المجسمات الحجرية الطبيعية التي تشبه أجساد الحيوانات لأقلد أهل القرية في أعمالهم الموسمية من حصد ودرس ونقل المحاصيل.

    والد الفنان بريشته

    واستخدم بقايا النباتات الهشة المتيبسة في صناعة أدواتي في اللعب واحفر على ألواح الصابون وقطع الإسفنج وما شابه.

    دخلت المدرسة وأنا انتظر درس الرسم بشغف وشوق وكثيراً ما يتبخر حلمي عندما يطلب المعلم منا إملاء ساعة الفراغ هذه وكنت اسمع والدتي تردد أمام سامعيها أنها شاهدتني وقد غادرتُ فراشي من عز النوم وبدأت ارسم على جدار منزلنا الترابي.

    عامر الخطيب محامياً

  • ما اللوحة الأولى لك ؟...
  • ** لا أنسى أول لوحة رسمتها بالألوان الزيتية حيث كنت اسمع أن هناك تصويراً زيتياً ولا أعرفه، عندما استرقت من قطرميز المكدوس كمية من الزيت على شحها ورحت أمدد ألواني المتعبة الخجولة على لوحة قياس(100×70) سم ولشدة اهتمامي بها نطرتها لعدة أيام مرمية في باحة الدار الخارجية حتى تتبخر الرائحة وتجف الألوان.

  • هل شاركت في معارض مدرسية أثناء دراستك؟.
  • ** نعم شاركت في العديد من المعارض المدرسية ولكن قدومي إلى "دمشق" غير وبدل لدي الكثير من المفاهيم والتقنيات والأدوات، وأخذت رائحة البيوت الشامية القديمة وحواريها تقلق ما هجع في أعماقي وتبعثها تعلقاً إلى حد الانصهار بالتراث ومفرداته الغنية النادرة وترسل تقاطعاتها البيئية حيناً مع بيوت ضيعتنا وحيناً تبرز من شرفاتها المزركشة بالجوري والياسمين التمايز التقني والحضاري المختلف والمختلف جداً. وبدأت بالإضافة إلى دراسة الجامعية (كلية الحقوق) لا أترك فرصة إلا وأستغلها في سبيل ذلك.

    وكان لقائي ومعرفتي بالفنان التشكيلي "باسل الأيوبي" قد شكل لي منعطفاً هاماً في مسيرتي الفنية وأكسبني بفضله خبرة كبيرة.

  • ما المدرسة التي تنتمي إليها وكيف تنظر إلى التجريد الفني؟
  • ** إنني أنتمي إلى مدرسة إحساسي وهوايتي ولا أصنف نفسي ولا أستحسن تصنيفي ضمن هذه المدرسة أو تلك، إن مفهوم المدارس الفنية مفهوم غربي بحت كان نتاج تطور اجتماعي صناعي وديني أيضاً لم يمر به المجتمع السوري أو المجتمعات العربية الأخرى، وإن كان قد حاول كبار المبدعين أن يسد هذه الثغرة وينتج أدباً وشعراً أو فناً مدرسياً، وهو تقليد الضعيف للقوي، وهذا ما قام به أمير الشعراء "أحمد شوقي" على مستوى الشعر والأدب. وفي هذا المقام أرى أن الفن التشكيلي في الغرب وخاصة في أوروبا واكب المجتمع بكل تحولاته وتطوراته أما في مجتمعنا فلم نلمس هذه المواكبة وإن كان الأمر لا يخلو من بعض الاجتهادات الفردية وهذا ما يؤكد وجود الشرخ الكبير بين العمل الفني التشكيلي وبين المتلقي الذي قد لا يعنيه حضور معرض فني أو اقتناء لوحة أو فهم معنى لوني.

    وغياب النقد الفني الحقيقي الموضوعي البناء بشكل ملحوظ جعل من النادر أن تجد ناقداً سورياً يتناول عملاً فنياً (لأنه عمل فني فقط) ويقرؤه قراءة تشكيلية نقدية بناءة مفيدة، وإذا حصل ذلك فيكون بناء على معرفة سابقة بصاحب العمل أو صداقة أو مصلحة.

    أما رؤيتي للفن التجريدي فقد تكون خاصة إلى حد ما، لأن الكثير من الفنانين التشكيليين يعتبرون اللوحة المجردة هي فن متقدم وللنخبة ولا يستطيع العامة الوصول إلى فهمها ومعرفتها واستيعاب رموزها ومعانيها وقد تكون هذه النظرية منطقية في الغرب بسبب ما سبق ذكره من أن الفن واكب تطور المجتمع وملأ زواياه وجنباته واشبعها نحتا وتصويرا وحفرا.... الخ، أما في مجتمعنا العربي فيثير هذا المفهوم عدة تساؤلات أهمها: ما التجريد؟.. وما النخبة؟.. واين هي؟.. وما علاقة كل منهما بالمجتمع؟.. وكيف توصلنا إلى اللوحة التجريدية؟

    إن الفنان التشكيلي عندما ينغمس في التجريد الفني فإنه يصوغ مفهوماً لونياً فلسفياً خاصا بالمعنى واللون والموضوع والحياة، والمتلقي الذي يبحث عن مشارب الفكر والمعرفة يعلم تمام العلم أن لكل معرفة مورداً، فإذا ما أراد الباحث أن يطلع في علوم الفلسفة فسرعان ما يجد نفسه بين كتب المعرفة والمنطق والفلسفة ولا نجد متلقياً واحداً يبحث عن الفلسفة ويذهب إلى شراء لوحة تجريدية ليجد فيها ضالته.

    وبهذا المعنى من يغرق في التجريد اللوني فإنما يحاول أن يجد مفهوماً تقليدياً آخر لمفهوم أصلي ولا يمكن للتقليد أن يحمل مواصفات الأصل.

  • ما علاقة المجتمع بالفنون التشكيلية؟
  • ** إن مجتمعنا العربي السوري ليس بينه وبين الفن التشكيلي علاقة حميمة فاعلة وان كنا نجد بوادر ايجابية حديثة العهد في هذا المجال، وعلى رأس هذا المجتمع المؤسسات الثقافية المعنية، ومن خلال التجربة أثبتت أنها أبعد ما تكون عن الاعتناء بهذا الجانب الهام من الإبداع، لقد قمنا كمجموعة من الفنانين التشكيليين السوريين ببادرة تكاد تكون فريدة من نوعها على مستوى الفن التشكيلي بتكريم كبار المبدعين السوريين والعرب أمثال " نزار قباني ومحمد الماغوط وفاتح المدرس وفيروز والرحابنة وحنا مينا"... الخ وقد أقمنا العديد من المعارض تكريماً لهولاء وبرعاية المؤسسات الثقافية ولم نسمع أن الجهات المعنية أقدمت على اقتناء لوحة واحدة لأحد زملائنا، وهذا يبين مدى التشجيع الذي يلقاه الفنان التشكيلي من المجتمع على المستويين الأهلي والرسمي.

  • كيف تكون اللوحة الفنية التشكيلية وما طابعها المميز؟
  • ** إن أجمل اللوحات هي اللوحة التي تعبق بالألوان والحياة والمعنى، ذات الانتماء الراقي والسامي إلى كل ما هو محلي وأصيل ووطني، اللوحة التي تحاكي بالمتلقي مفرداته وأشياءه المبعثرة الكامنة في أعماق وجدانه وتستوقف أمامها مختلف الأبصار والثقافات والأفكار والأحاسيس، وأجمل اللوحات هي اللوحة التي تعيد توزيع ألوان قوس قزح بمفهومها الأزلي لترسل في معنى سفر تكوينها الأبدي الضوء المشعشع المتفق عبر أستار الدجى والجامع لكل ألوان الطبيعة والحياة.