عشق الفسيفساء، وملك مفاتيح المتعة برصّ مكعباتها، ليقدم الفنان "مهند الطويل" في عمل نادر "آلهة البحر"، وأعمالاً أخرى ثبتت مشروعه لإحياء هذا الفن، وتخليد حضوره في الحياة المعاصرة.

في حواره مع مدونة وطن "eSyria" بتاريخ 29 نيسان 2017، أعادنا إلى مراحل تاريخية تألق فيها هذا الفن، ورغبته بنشره على الرغم من صعوبة إنتاجه، ليبقى معروفاً وقابلاً للتطبيق كوسيلة تعبير خالدة، وقال: «بدأ إعجابي بفن "الفسيفساء" منذ رأيت اللوحات الخالدة في متحف "شهبا"، حيث أسرت ناظري بجمالها، ثم تعمق حبي أثناء دراستي وزيادة معرفتي به كفن تصويري رائع، وذاك العقل الميثولوجي المبدع لإنسان الحضارات القديمة بدأت أساطيره وقصصه وجميع آلهته تتسلل إلى داخلي لتعمّق وتُنضج هذا الحب.

أفضّل الاعتماد بوجه أساسي على الإحساس الفني ومتعة العمل والابتعاد عن الأسلوب التجاري؛ وهذا ما يجعل وقت تنفيذ اللوحة أطول وأصعب؛ ففي لوحتي الأخيرة "الزنبق" واجهتني تفاصيل أكثر صعوبة من اللوحات السابقة تتعلق بموضع الانسجام اللوني والظل والإضاءة، فكان علي أن أصل إلى عمل مقبول مع قلة الألوان المتوفرة لدي وتدرجاتها، ومن حيث الأسلوب، فقد نفذتها بأسلوب عكس سطح اللوحة نحو الأسفل، وذلك بسبب عدم انتظام مقاسات الحجارة المتبقية لدي؛ وهذا ما جعل العمل أكثر صعوبة، فلم يكن بالإمكان رؤية سطح اللوحة حتى الانتهاء من العمل، وقلب اللوحة بعد تسوية خلفيتها

وبعد تخرجي في الجامعة بدأت العمل في مجال ترميم الفسيفساء، وكان لقائي الأول الأكثر قرباً من هذا الفن وملامسة أناملي لحجارته الصغيرة الملونة، وشخوصه وآلهته ومواضيعه والتعرف عن كثب إلى تقنيات تصنيعه. وبعد عدة سنوات من العمل في هذا التخصص، ومن إدراكي بأن الفن هو الوسيلة الوحيدة للخلود، والأمثل للتعبير عن الحب والرقي قررت البدء في تصنيع الفسيفساء، فلا بد من استمراريته وإبقائه حيّاً، خاصةً في هذه المحافظة الغنية به في العصر الروماني».

آلهة البحر العمل الأول للفنان مهند الطويل

اقترن العمل لإنتاج لوحة تحاكي تلك العصور بالجهد والصبر، لكن ذلك لم يثنه عن المتابعة وصقل خبرته الذاتية، كما أضاف: «نظراً إلى عراقة الفسيفساء بوصفه فناً زخرفياً منذ نهاية الألف الرابع قبل الميلاد، وتطوره وتطور تقنياته عبر العصور ليصل في القرن الثاني قبل الميلاد إلى شكل المكعبات الحجرية الصغيرة الملونة، ثم إلى قمة الإبداع والتطور في العصر الروماني من حيث الغنى اللوني وتدرجه، والإيحاء، والحركة، وإظهار الانفعالات النفسية والجسدية والبعد الثالث، وظهور المشهد التمثيلي والمسرحي بشكل حقيقي، والتوافق المتقن بين اللون والضوء، حيث عُرفت في هذا العصر تقنيات عديدة وصلت إلى تسع تقنيات أو أكثر، وابتدعوا لها تسميات تتعلق بمواصفات المواد المكونة لها، والنظام الفني لرصف هذه المواد، واستمرار هذا الفن حتى يومنا الحالي.

لذلك فإن الإلمام الجيد بتاريخه وجميع تقنيات تنفيذه مهم جداً على الرغم من عدم سهولة تطبيقه واقعيّاً؛ لأنه يحتاج إلى الصبر والجهد العقلي والعضلي وتركيز الحواس الفنية؛ لذلك لا بد من التجربة والعمل المستمر، وتنويعه لاكتساب المهارة والخبرة لإنتاج لوحة فنية جيدة».

الزنبق عمله الأخير بطريقة الفسيفساء الأصيلة

وعن أعماله، يضيف: «اللوحة الأولى التي نفذتها كانت في بداية عام 2015، وهي "ربة البحر" بقياس 40×40سم، بمادة عجينة السيراميك، ثم لوحة أخرى لعصفورين بقياس 15×25سم بنفس المادة، لأنتقل بعدها إلى استخدام الرخام، الذي طالما وجدت فيه -على الرغم من صعوبة قصّه- متعة كبيرة، حيث يمنحني السكينة والطاقة الإيجابية طوال مدة العمل، فهو من الطبيعة ونتاج انفعالاتها عبر العصور. كما أنه يمنحني شعور البقاء على تماس وتواصل مع الفسيفساء القديمة التي نفذت به، إضافة إلى أن عمره طويل جداً، وألوانه الطبيعية غير قابلة للتغير، فتأثير العوامل المحيطة عليه تكاد تكون معدومة، فنفذت به أربع لوحات: "البطة" وقطرها 57سم، و"الدولفين" 60×45سم، و"الساعة" وقطرها 35سم، و"الزنبق" 85×65سم».

اهتمامه بالابتعاد عن الأسلوب التجاري والتركيز على الحس الفني غاية يعمل بجدّ من أجلها، وقال: «أفضّل الاعتماد بوجه أساسي على الإحساس الفني ومتعة العمل والابتعاد عن الأسلوب التجاري؛ وهذا ما يجعل وقت تنفيذ اللوحة أطول وأصعب؛ ففي لوحتي الأخيرة "الزنبق" واجهتني تفاصيل أكثر صعوبة من اللوحات السابقة تتعلق بموضع الانسجام اللوني والظل والإضاءة، فكان علي أن أصل إلى عمل مقبول مع قلة الألوان المتوفرة لدي وتدرجاتها، ومن حيث الأسلوب، فقد نفذتها بأسلوب عكس سطح اللوحة نحو الأسفل، وذلك بسبب عدم انتظام مقاسات الحجارة المتبقية لدي؛ وهذا ما جعل العمل أكثر صعوبة، فلم يكن بالإمكان رؤية سطح اللوحة حتى الانتهاء من العمل، وقلب اللوحة بعد تسوية خلفيتها».

ماهر الجباعي مدير المخابر العلمية والترميم في المديرية العامة للآثار والمتاحف

جسّد روح الفسيفساء بالطريقة الأصيلة وفق حديث "ماهر الجباعي" مدير المخابر العلمية والترميم في المديرية العامة للآثار والمتاحف، وقال: «على الرغم من تجربته التي ما زالت في بداياتها، إلا أنه قدم أعمالاً لافتة ورائعة وتعكس حبه وولعه وشغفه. اللافت بأعماله أنها تماشت مع تقنيات تصنيع اللوحة الفسيفسائية القديمة من حيث أسلوب الرصف وتقطيع المكعبات، فاللوحات التي تعتمد الأسلوب القديم لها جماليتها الخاصة من حيث الأصالة والإحساس بالبعد الفني والتاريخي لها، والفنان "مهند الطويل" يتبع هذا الأسلوب في إنتاجاته. وعمله الأول الذي جسّد فيه "آلهة البحر" "تيثس" يعدّ من الروائع، وبرأيي هو أفضل من جسد هذه اللوحة، بسبب الدقة في تنفيذ تفاصيل الأشكال على الرغم من الحجم الصغير للوحة، والتفوق في عملية المزج اللوني للمكعبات، وأصبح لديه تنوعاً في الإنتاج واختيار المواضيع.

له مشاركات عديدة في دورات ومؤتمرات خاصة بحفظ وصيانة لوحات الفسيفساء، بمعنى أن هذا الفن متجذر في كل تفاصيل حياته؛ وهذا يجعله أقرب من غيره من الفنانين الحديثين إلى أساليب وتقنيات هذا الفن بأصالتها وثقافتها وروحها القديمة، وتجربته هذه رائعة وضرورية لإعادة إحياء فن الفسيفساء في محافظة "السويداء"؛ لأننا نرى قلة في عدد المحترفات الخاصة بهذا الفن».

ما يجدر ذكره، أنّ الفنان "مهند الطويل" من مواليد "شهبا" عام 1980، تخرج في كلية الآداب، قسم الآثار عام 2002، يعمل آثاري ورئيس شعبة الترميم في دائرة آثار "السويداء". شارك في معرض أقيم في المركز الثقافي بـ"شهبا" عام 2016 بلوحة "الدولفين".