تنطوي شخصية الطبيب "أسعد منذر" على وقائع مدهشة؛ فقد امتهن الطبّ، ودرس الفلسفة، وبحث في التراث الشعبي والتاريخ، وألّف كتاباً بذلك، وجمع ما بين العلم التطبيقي والمعرفي، والتوثيق التاريخي والأدبي، وقدّم مبادرات أهليّة إنسانية.

مدونة وطن "eSyria" وبتاريخ 21 تشرين الأول 2016، التقت الأديب "فرحان الخطيب" عضو اتحاد الكتّاب العرب، الذي تحدّث عن معرفته بالطبيب "منذر" وما يميّزه، قائلاً: «عرفته طبيباً واثقاً من علمه، محباً لمهنته، باحثاً عن كل جديد في الطب، قلّما تجده في أوقات فراغه من دون قراءة، متنوع الثقافة والاتجاهات المعرفية، صاحب مبادرات إنسانية، وحين كان في قسم الإسعاف في المستشفيات الوطنية بمدينة "دمشق"، كان يقف إلى جانب المريض ساعة وصوله، ويوليه عناية فائقة كواجب الطبيب على مريضه، لكنه يلحّ على متابعته؛ وكأنه من عائلته، بعد نقله إلى قسم آخر، إضافة إلى إصراره في متابعة تحصيله العلمي من الناحية الأدبية بعد أن أكمل دراسة الطب والاختصاص، فدرس الفلسفة، وله رأي في مكونات الوجود وفلسفته، حتى اقتحم عالم التوثيق والتدوين من بوابة التاريخ الأوسع، لهذا أرى الدكتور "أسعد منذر" المثقّف المتنوّر الموسوعي، والطبيب الإنساني الناجع في الاحتكام بين مهنة الطب ومهنة الأخلاق، لا بل قام بمبادرات إنسانية في معالجته عشرات المرضى والذهاب إلى منازلهم للاطمئنان عليهم؛ أي إنه متابع لمرضاه؛ الأمر الذي ولّد علاقة حميمة بينه وبين أفراد مجتمعه بفئاته المتعددة».

إن عملي في مهنة الطب دفعني إلى مزيد من حالات التأمل في أعماق النفس البشرية؛ وهذا عزّز عندي الرغبة في دراسة الفلسفة، فحصلت على الشهادة الثانوية، الفرع الأدبي، ودرست الفلسفة في جامعة "دمشق"، وكنت حريصاً على ألا يعرف الطلاب والأساتذة أنني طبيب؛ وهو ما سبّب لي كثيراً من المواقف الطريفة، ومازلت أذكر عندما دخلت مكتب أحد الأساتذة لمناقشة حلقة البحث وأنا أرتدي اللباس الجامعي الموحد، فبادرني بالقول: (تفضّل دكتور، لن أناقش معك حلقة البحث، لقد قرأتها وأعطيتك علامة 19 من 20، وسوف أسألك سؤالاً واحداً وعلى ضوء الإجابة أعطيك العلامة التامة 20/20، أو أبقي على 19 علامة، ما الذي دفعك إلى دراسة الفلسفة؟) وقد كان مسروراً من قولي: إن كان الطب يدرس حالة الإنسان الجسدية، فإن الفلسفة تدرس مغامرات العقل ومحاولاته لفهم الوجود، وبدراستي للفرعين أكون قد عرفت الإنسان جسداً وعقلاً

وأوضح الدكتور "أسعد منذر" عن حياته قائلاً: «أنا من مواليد قرية "عراجة"، عام 1956، أنهيت مراحل دراستي الابتدائية والإعدادية والثانوية في مدينة "السويداء"؛ إذ كان والدي مشجعاً لتفوقي في الدراسة، وكذلك حظيت بمجموعة رائعة من المعلمين والمدرّسين الذين أحمل لهم الودّ والامتنان، وقد أصبحوا أصدقاء أعزاء لي، وعلى الرغم من ممانعة والدي كنت في أوقات العطل أعمل في أعمال البناء، ولي في هذا المجال ذكرى طريفة؛ إذ إنني تلقيت نبأ صدور نتائج "الكفاءة" وأنا أعمل في إحدى الورشات، فذهبت فوراً إلى مديرية التربية في بنائها القديم، ولم يكن ممكناً للطلاب المتجمهرين أمام لوحة الإعلانات أن يصدقوا أن الطالب "أسعد منذر"، الذي حصل على الترتيب الثاني في محافظة "السويداء" هو ذاته الذي يقف أمامهم بلباس العمل الملوث بالطين، وغبار الإسمنت يغطي وجهه وشعره، لو لم يؤكد لهم ذلك طلابٌ من مدرستي.

الأديب فرحان الخطيب

بعد الشهادة الثانوية ترددت كثيراً في اختيار الفرع الجامعي؛ إذ إن ميولي كانت متساوية بين الفروع المختلفة بما فيها الأدبية، وخصوصاً الأدب العربي، وأخيراً اخترت دراسة الطب، وقد أحببت الدراسة في هذه الكلية بعد أن تجاوزت سريعاً المرض النفسي الذي سبّبه لي الدرس العملي الأول في مادة التشريح».

ويتابع: «مع دراستي الجامعية تابعت المطالعة في المجالات الأدبية والفكرية، كما أنني لم أتوقف عن العمل في أيام العطل، تخرجت في الكلية عام 1981، وكان ترتيبي الطبيب 71 في محافظة "السويداء"، ألزمت نفسي متابعة التخصص في أمراض الكلية، وحصلت على شهادة الاختصاص عام 1986 لأكون واحداً من عشرة أطباء كلية في "سورية"، مارست المهنة برغبة وشغف، وكانت الممارسة العملية للطب تجربة معرفية ووجدانية وأخلاقية غنية، فقد عشت عن قرب فرح الولادة وحزن الموت، ولمست معاناة المرض وسعادة الشفاء واستعادة الصحة، واجهت العواطف الإنسانية الصادقة، وتلك المجاملة المصطنَعة، وأدركت كم من الضروري أن يلتزم الطبيب بقسم "أبقراط"، وأن يتفاعل مع المريض ويتعامل معه بروح أبوية، يحرص على ما يفيده أكثر مما يرضيه؛ لأن كل ما يفيده سوف يرضيه، لكن بعض ما يرضيه سوف يؤذيه، على أن يطبق الطبيب كل هذا بروح أبوية حانية رقيقة، وأذكر أنني في إحدى محاضراتي قد أوصيت زملائي الأطباء المتدربين في قسم الإسعاف أن تفاعلهم مع المريض الذي يصل قسم الإسعاف يجب أن يكون بسرعة سيارة الإسعاف التي تنقله؛ فهو منعكس لجمال مهنة الطب».

الدكتور أسعد منذر

أما عن دراسته للفلسفة، فيتابع: «إن عملي في مهنة الطب دفعني إلى مزيد من حالات التأمل في أعماق النفس البشرية؛ وهذا عزّز عندي الرغبة في دراسة الفلسفة، فحصلت على الشهادة الثانوية، الفرع الأدبي، ودرست الفلسفة في جامعة "دمشق"، وكنت حريصاً على ألا يعرف الطلاب والأساتذة أنني طبيب؛ وهو ما سبّب لي كثيراً من المواقف الطريفة، ومازلت أذكر عندما دخلت مكتب أحد الأساتذة لمناقشة حلقة البحث وأنا أرتدي اللباس الجامعي الموحد، فبادرني بالقول: (تفضّل دكتور، لن أناقش معك حلقة البحث، لقد قرأتها وأعطيتك علامة 19 من 20، وسوف أسألك سؤالاً واحداً وعلى ضوء الإجابة أعطيك العلامة التامة 20/20، أو أبقي على 19 علامة، ما الذي دفعك إلى دراسة الفلسفة؟) وقد كان مسروراً من قولي: إن كان الطب يدرس حالة الإنسان الجسدية، فإن الفلسفة تدرس مغامرات العقل ومحاولاته لفهم الوجود، وبدراستي للفرعين أكون قد عرفت الإنسان جسداً وعقلاً».

وعن عودته بعد غربة عقدين من الزمن، بيّن قائلاً: «بعد 21 سنة متقطعة في الغربة، قرّرت العودة إلى الوطن في زمن الهجرة، وكنت سعيداً بعودتي وترحيب الأهل والأصدقاء، وفي الوقت نفسه كنت وما زلت أتفادى الإجابة عن سؤال: "شو رجعك بهالظروف؟" أضحك أو أهز رأسي وأبتسم، ولسان حالي يقول: (لو أنه يستطيع فهم الجواب، لما طرح السؤال)، فأنا أعود إلى أهلي وأصدقائي، أعود لممارسة مهنتي ومتابعة اهتماماتي العلمية والثقافية والاجتماعية، أعود لأتنفس هواء مرابع الصبا وأعيش ذكريات الطفولة والشباب، أهتمّ بمن لهم عليّ حق الخدمة والاهتمام، وأكون حيث يجب أن أكون، وحيث الانتماء الذي لا تلغيه أيام ولا تمحوه مسافات، باحثاً في التوثيق والتدوين الأدبي والشعبي والعامي عبر صفحات التاريخ، وما قدمه الأهل والأجداد لننعم بتاريخ وطني مشرف، وأصدرت كتاباً بعنوان: "البعد الوطني في الشعر العامي لجبل العرب بين عامي 1837 و1937" مستشهداً بما قدّمه الشعراء بالصور والتعابير التدوينية عن تلك المرحلة الزمنية».

من مؤلفاته التوثيقية