لا تزال تلك الصورة حاضرة في أذهان الكثيرين، تلك الجدة وهي تغزل الصوف وتصنع القش والخبز وتغني أجمل الأغاني، صورة التقطتها عين الفنان أما صوتها فهو الذي مازال خافياً وتستحضره الذاكرة من غياهب النسيان.

كانت تغني أجمل ما اختزنته ذاكرة ذاك الزمان وأجمل ما حفظته من أغاني الأعراس والأفراح، والتي لا يزال إلى الآن عبقها ينشر أريجه في الأجواء، ولا تتزين أعراسنا إلا بها ولا يحلو حصادنا إلا بسماع أغاني الحصاد التي تبعث على الحماسة والنشاط، وعلى الرغم مما نسمعه اليوم من موسيقا وألحان... إلا أن الحنين والشوق يجذبنا لتلك الكلمات وتلك الألحان.

الأغنية الشعبية هي تعبير داخلي ينبع من نفس الإنسان، ليعبر فيها عن الفرح أو الحزن أو التعاون أو المحبة، وكذلك يعبر من خلالها عن النواحي العاطفية أو العروبة وحب الوطن، فالأغنية هي شعور الإنسان تجاه ما يعبر عنه، فأغنية الفرح قد انتشرت في الأعراس، ابتهاجاً وتعبيراً عن مشاعر الفرح

ولأن الآباء والأجداد هم ذاكرة ناطقة لتلك الحقبة من الزمن، علينا الحفاظ عليها من الضياع والنسيان وهذا ما يدفعنا لتدوينها وتوثيقها لتبقى حاضرة بيننا وننقلها لأبنائنا من بعدنا، ومن هذا المنطلق فقد أضحى الاهتمام بالتراث وجمعه هاجساً لدى الكثيرين، ولكن من يهتم بالتفاصيل ويعمد إلى التوثيق السليم والصحيح عدد قليل جداً، حيث تكون المعلومات منقوصة إذا أهملنا المصدر والمناسبة وهذه تحتاج لثقافة واسعة وقراءات متعددة في التاريخ، ولعل أجمل ما نحتفظ به من هذا الموروث الغني هو الأغاني الشعبية والتي لا زالت إلى يومنا هذا تحرك في داخلنا الكثير من الأحاسيس الجميلة وتذكرنا بالأيام الخوالي.

الأستاذ "جمال أبو جهجاه"

يقول الكاتب في التاريخ وعضو لجنة جمع تراث الثورة السورية الكبرى الأستاذ "جمال أبو جهجاه" لموقع eSuweda عن الأغنية الشعبية وتاريخها في جبل العرب: «الأغنية الشعبية هي تعبير داخلي ينبع من نفس الإنسان، ليعبر فيها عن الفرح أو الحزن أو التعاون أو المحبة، وكذلك يعبر من خلالها عن النواحي العاطفية أو العروبة وحب الوطن، فالأغنية هي شعور الإنسان تجاه ما يعبر عنه، فأغنية الفرح قد انتشرت في الأعراس، ابتهاجاً وتعبيراً عن مشاعر الفرح».

ولأن قوت يومهم يتوقف على مواسم الحصاد، فهي فرح ولكن من نوع آخر، حيث لا زالت إلى اليوم تحتفظ بالكثير من الأغاني وعنها أضاف الأستاذ "أبو جهجاه": «ففي موسم الحصاد كان الناس يعبرون في تجمعاتهم في الحقول عن التعاون القائم بينهم ومساعدة بعضهم بعضاً، الجميع في حقولهم وقلما تجد حقلاً خالياً من أصحابه يجمعون غلاله، فالأغنية تشد العزيمة وتقوي الهمة وتبعث في النفوس الحمية والشجاعة وتثير الرغبة في العمل، من هذه الأغنيات على سبيل المثال أثناء الحصاد: "زرعنا... وحنا صحابو... بالمناجل ما نهابو

الأستاذ "حسين خويص"

يا شباب اطفوا بياضو... والبدر نزل برياضو

والحاضر يعلم الغايب... بهالحصيدة مش طايب"

الجدة وهي تصنع القش... وتغني

وبعد موسم الحصاد يأتي موعد "الدراس" وهو لفصل الحب عن القش، ويشقى العاملون الذين يقفون ساعات طويلة يومياً على اللوح الخشبي الذي يدرس فيه القمح، وكانت تأتي أغاني "الدراويس" لتبعدهم عن الملل وتنسيهم بعض التعب، ومنها هذه الأغنية وتقول كلماتها: "واكرج يا حمام يما... واكرج يا حمام ليش/ من روس الجبال يما... من روس الجال ليش

يا طير الحمام يما... يا طير الحمام ليش"».

وكذلك أغاني الأولاد الذين يدرسون القش على البيدر، وهي من تأليف آبائهم منها أغنية عن الفرس التي تدرس وقد يكون لونها أحمر: "يا حمرا يا لواحة... لونك لون التفاحة"

وهناك أغاني التعاون أو ما يسمى بلغة أهل الجبل "الفزعة"، وهي حين يقوم الجيران بمساعدة المقصر في عمله من أهل القرية، كأن يقولوا: "يا إماني ريتك بور... ريتك مرعى للزرزور"

أو تراهم ينشدون وهم يحنون ظهورهم، والزرع يابس أمامهم: "طار الإمان غنوا لو... طارت حجولو.. غنوا لو".

وكذلك ترى المواطنون يساعدون بعضهم بعضاً في رفع حجارة سقف بيت أحدهم وهم ينشدون تعبيراً عن التعاون القائم بينهم وهم يسقفون بيت أحدهم ويرفعون "الربد" والتي هي عبارة عن حجارة مستطيلة».

وبالنسبة للاغاني الوطنية وظهورها في جبل العرب، تابع قائلاً: «الأغاني الوطنية فقد انتشرت في الربع الأول من القرن العشرين، وقبل ذلك التاريخ قلما تسمع تعابير تدعو إلى الوطن، وذلك لأن المواطن قبل ذلك التاريخ كان مرتبطاً بالباب العالي أو بالخليفة، وكل من يعبر مخالفاً تعاليم السلطان العثماني فهو كافر أو خارج عن التعاليم الدينية، ولكن بعد معركة "المزرعة" التي قادها قائد الثورة السورية الكبرى "سلطان باشا الأطرش" ضد قوى الاستعمار الفرنسي، ظهرت المشاعر واضحة في بيانات الثورة التي تدعو المواطنين إلى الثورة والدفاع عن الوطن، وأصبح قائد الثورة رمزاً للوطن والوطنية، فتركزت الأغاني الوطنية عليه كقائد عربي يدافع عن العروبة والوطن، ومن الأغاني التي أطلقها المواطنون يوم أخذت الطائرات الفرنسية تلاحق "سلطان باشا الأطرش" وتقصف بلدة "القريا" يوم أراد إطلاق سراح "أدهم خنجر" عام 1922 : "يا أهل الجبل... "بالقريا" علقاني

والعذر ما ينقبل... علقت بيها النيران"».

الأستاذ "حسين خويص" الصحفي والباحث في التراث الشعبي بأهازيجه وأغانيه وحكاياته، أضاف قائلاً عن بعض ما وثقه عن الأغاني الشعبية وبشكل خاص الأغاني الوطنية: «تعتبر الأغنية الشعبية جزء من التراث الشعبي العربي، والغناء الشعبي هو صورة صادقة تعبر عن حياة الشعب الذي عاصر أدواراً متعاقبة من القوة والضعف، وتتنوع مواضيع الأغاني الشعبية بتنوع مواضيع الحياة نفسها، فالأغنية الشعبية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بحياة الإنسان من المهد إلى اللحد، جاءت منطوقة باللهجة العامية وعلى عدة بحور وأوزان تفوق بحور الشعر الفصيح وأوزانه، كما أنها شملت وغطت جميع نواحي الحياة».

وللأغنية الشعبية أنواع متعددة صنفت تبعاً لنوعية الغناء والمناسبة التي غني فيها، وعنها أضاف الأستاذ "حسين": «أول الغناء وأقدمه عند العرب هو ما سمي "الحداء" ويغنيه الفرسان على صهوات الخيل، يبعث في نفوسهم العزيمة والحماس ويحثهم على القتال والاستبسال، وهذه الأبيات مما قيل في حداء الثورة السورية الكبرى: "يا أم الوحيد وابكي عليه

والموت ما يرحم حدا

لابد ما تنعي عليه

إن كان اليوم ولا غدا"

"الجوفية" وهي عبارة عن أغاني حماسية وطنية، وهذه الأبيات للشاعر الشعبي "صالح عمار" من قرية "عرمان" حيث قال: غربي "السويداء" سوق الحرب مفتوح

والطيارات تسمع دوي عناها

حنا يوم الحرايب ترخص الروح

اسألوا فرنسا بكم معركة حاربناها"

ومن أنواع الغناء الشعبي أيضاً هو ما أطلق عليه اسم "الشروقي" ومما قيل فيه:

"حمر البيارق جردت مثل الرعاف

ربعك على دحر الأعادي نشامه

الي هوى على بلادنا بذيل محذاف

نرميه لو بالغيم يلطخ سنامه"

أما بالنسبة "لقصائد الفن"، فقد نظمت بمناسبات عديدة في الحب والحماس والحياة الاجتماعية والقضايا الوطنية، ومن القصائد الشعبية قصيدة "صاح الوطن" للشاعر المجاهد "سلمان برق رزق" من قرية "عرمان" نظمها بعد عودة قائد الثورة السورية الكبرى "سلطان باشا الأطرش" من المنفى عام 1937 ومن أبياتها: "صاح الوطن ياالله بني ينخينا

وين النشامه إلي يردوا وينا

وين النشامه إلي لهن عادات

ما تسمعوا داعي الشرف يدعينا"

هذا ورافقت معارك الثوار قصائد تحدثت بلسانها وكانت أجمل من وصفها ودونها، ومنها قصيدة بمناسبة معركة "الكفر" عام 1925 لشاعر الثورة المجاهد "صالح عمار" من قرية "عرمان" قال فيها يصف المعركة:

"البارحة جانا خبر

ربك فتل دولابها

"عرمان" وسالت على "الكفر"

ذبح العراضي دابها

صربة "ملح" توطى الخطر

حس المصوت جابها"

وبعد انتصارات حرب تشرين التحريرية نظم الشاعر الشعبي "سلمان نفاع" من قرية "امتان" قصيدته المعروفة "بالروح نفدي وطنا" والتي أصبحت من أشهر الأغاني الشعبية فيما بعد.

وللحب جانب مميز في قصائدنا الشعبية وهذه الأبيات تصف الجفا والفراق: "الله معك يا صاحبي... الله معك

كثر الملامي على الجفا ما ينفعك

كثر الملامي على الجفا قلبي قسي

ضيعت عمري وكنت قادر ضيعك"».

هذا ولا زالت تحتفظ بالكثير... ومم يميز محافظة "السويداء" في موروثها من الغناء الشعبي هي أغاني "الهولية" وهي نوع من الغناء يرافقه دبكة خاصة يغنى في الأعراس والأفراح، والأعراس التي لا تعقد فيها حلقات "الهولية" لا تتصف بالطابع الشعبي، وعن أغاني "الهولية" تابع "خويص": «تتألف حلقة "الهولية" من شباب وصبايا يصطفون في دائرة مغلقة متكاتفين ويشدون على أكتاف بعضهم بعضاً بالأيدي، بحيث تتشابك الأيدي والأكتاف مع التحرك بدبكة منظمة وخطوات موزونة أثناء الدوران للحلقة الواحدة، ولأغاني "الهولية" نوعان: نوع يغنى على الميزان الثلاثي وآخر يغنى على الميزان الرباعي.

وبالنسبة للغناء فهو جماعي حيث تقوم مجموعة صغيرة من الحلقة بغناء من الأغنية في البداية والمجموعة الأكبر تردد نفس المقطع.. وهكذا، وأغاني الهولية متنوعة منها:

"الدلعونة" حيث يقال: "على دلعونا... على دلعونا

راحوا الحبايب وما ودعونا

راحوا الحبايب والقلب ذايب

دمعي سكايب على أسمر اللونا" هذا بالإضافة إلى "الميجنا" و"الهوارة".

وهناك شكل من "الهولية" يسمى "اللوحة" تؤديه الفتيات غالباً في الأعراس والأفراح، ومن أغاني هذا اللون: "لاكتب ورق وارسلك

يلي مفارق خلك

بديرتي بعد وجفا

بديرتي أحسنلك"

ونوع آخر يقول: "ومن الشبابيك.. رشوا علينا الهيل... ومن الشبابيك

ما أقدر احاكيك.. أمي وأبوي بالبيت... ما أقدر احاكيك"».

هذا غيض من فيض، ويبقى في الذاكرة تفاصيل لا تنسى وحكايات لا تنسى وأغاني أيضاً، نحفظها ونرددها فهي قوت يعيننا على متابعة الحياة وينسينا القليل من همومها.