مرت عادات وتقاليد واجب العزاء بثلاث مراحل في "جبل العرب"، مستندة إلى التطور المتسارع في الحياة العامة، مع المحافظة على تلك القيم الأصيلة بما يتطلبه الواجب الاجتماعي، وتعاضد الأهالي مع من أصابهم مكروه، فكانت صناديق "لقمة العزاء"، على أمل أن يتعاضدوا في الأفراح.

مدونة وطن "eSyria" التقت بتاريخ 24 أيار 2018، الباحث "جمال مهنا" جامع التراث المادي واللا مادي في "السويداء"، وعن أولى تلك المراحل يقول: «بعد أن كانت النسوة يطبخن الطعام من أجل المعزين القادمين من القرى البعيدة سيراً على الأقدام، أو بواسطة وسائل الركوب كالخيل وسواها، تم إلغاء تلك العادة التي تحمل الكثير من القسوة، وبقيت هذه العادة سائدة حتى الستينات من القرن الماضي، فعند الوفاة كان "الناعي" يصل إلى أقصى مكان ممكن لإبلاغ أقارب وأصدقاء المتوفى الذي يصلون بعد يوم إلى مكان العزاء على ظهور الخيل أو الدواب المتوفرة، وكان أول ما يتم عمله في هذه الحالات قيام النساء الأقرب إلى المتوفى بتحضير الطعام، فبدلاً من تركهن لحزنهن والبكاء على فقيدهن، يقمن بالطبخ والجلوس وراء النار ساعات طوال من أجل إطعام المعزين القادمين من مكان بعيد، ويمكن أن يبقوا أياماً حتى يقرر الوافدون الرحيل. غير أن تطور وسائل النقل، وشعور الجميع بقسوة هذه الأعمال على النساء، قد ألغاها تماماً. وبدأت المرحلة الثانية التي كان يتكفل من خلالها الجيران وعدد من أقارب وأصدقاء المتوفى بهذه الأعمال، فجزء من الجيران يقوم بواجب إطعام النساء، وجزء آخر يقوم بدعوة أهل "الحريبة" للذهاب إلى بيوتهم من أجل الطعام، وتدعى "لقمة المتوفى" التي لها طقوسها أيضاً».

في بلدتنا هنالك لجنة خاصة تقدم طعام العزاء لمدة ثلاثة أيام فقط. كل يوم "منسف" واحد متواضع ومن دون أي مبالغة، حيث تجمع الاشتراكات سنوياً من كافة الأهالي، بمبلغ زهيد قدره ألف ليرة سورية عن كل عائلة، كل شيء منظم ومدون في حسابات دقيقة بواسطة لجنة موثوقة ومؤتمنة، كانت فكرة ناجحة جداً، وهي تحافظ على عاداتنا الجميلة في المؤازرة، ولا تكلف أحداً على حساب أحد

وجاءت فكرة الصناديق المخصصة لإطعام "أهل الحريبة" بعد أن باتت هذه العادة الجميلة عبئاً على بعض الناس، ومن الضروري المحافظة عليها لأهميتها في تثبيت أواصر الألفة والمحبة والتعاضد بين أبناء الحي الواحد، أو بين الجيران والأقارب في القرية، يقول "مروان أبو خير" المنحدر من بلدة "عرمان"، التي تتميز بتكاتف أهلها اللا محدود: «أسّس هذا الصندوق لهدف واحد فقط، وهو تمويل الطعام عند حدوث أي وفاة في بلدتنا. لقد كان هذا القرار في إنشاء الصندوق من وجهة نظري خطوة مهمة نحو تعزيز الألفة والمحبة بين الناس، والحفاظ على الموروث الجيد للعادات والتقاليد. وخاصة في هذه المرحلة المهمة من التاريخ السوري الذي يمر فيه المواطن بظروف اقتصادية صعبة.

من طقوس "لقمة العزاء"

اعتاد الجيران والأصدقاء في "الحريبة" على إعداد الطعام للمعزين الذين لا يقلون عن عشرين أو ثلاثين شخصاً، والموجودين طوال الليل والنهار لاستقبال التعازي. فمن منهم يستطيع ولديه الوقت، وربما النفس لإعداد طعام بهذه الكمية. هذه العادة الجميلة التي تعزز روابط الجيرة، وتشعر المكلومين بأنهم ليسوا وحدهم، وهنالك من يشعر معهم بهذا الألم ويؤازرهم، وجاء الصندوق الذي له لجنة خاصة مؤلفة من عدة أشخاص مهمتهم جمع وتوثيق وتدقيق الحسابات والاشتراكات من كل بيوت البلدة، حيث يدفع كل بيت ألفي ليرة سورية في السنة. وبرأيي الصندوق المخصص لهذا الأمر يريح من هم غير ميسوري الحال. ويصبح مسؤولية حي كامل، أو عائلة كاملة اجتمعت على هذا الشيء. بعض العادات يجب تصحيحها حسب ما جد من تغييرات في المجتمع».

وأضافت "سلوى أبو سيف" المنحدرة من بلدة "الكفر" عن ذات الموضوع: «في بلدتنا هنالك لجنة خاصة تقدم طعام العزاء لمدة ثلاثة أيام فقط. كل يوم "منسف" واحد متواضع ومن دون أي مبالغة، حيث تجمع الاشتراكات سنوياً من كافة الأهالي، بمبلغ زهيد قدره ألف ليرة سورية عن كل عائلة، كل شيء منظم ومدون في حسابات دقيقة بواسطة لجنة موثوقة ومؤتمنة، كانت فكرة ناجحة جداً، وهي تحافظ على عاداتنا الجميلة في المؤازرة، ولا تكلف أحداً على حساب أحد».