بروح مغامرة باحثة عن المعرفة عقدت "رندة جمال" العزم على تسلّق قمة "كليمنجارو"، لتعيش مشاعر أبطال رواية أثّرت بها، هي تجربة امرأة عشقت المغامرة، وأثبتت أن الحلم والمغامرة عنوان حياة.

تجربة سورية جديدة نقلب معاً بعض تفاصيلها، التي تبدأ من رحلة لسيدة سورية تشق مع أسرتها الطريق بالعمل والمثابرة، حاولت فيها مهادنة الغربة وخلق جسور تلاقٍ تحملها لتحقيق أهدافها والتعايش مع ظروفها، هذا التعايش الذي خلق شخصية جديدة قارئة وباحثة عن المعرفة في أوقات فراغ من العمل قد لا تتجاوز ساعات قليلة. هي إحدى الأفكار التي تحدثت بها "رندة جمال" متسلقة قمة "كليمنجارو" في عقدها الرابع، وقالت: «بقدر عشقي للسفر كنت من معارضي الغربة، وكنت مولعة بالبلد ومرتبطة بالأهل، لكن شاءت الأقدار ورحلت بعمر التاسعة عشرة لأستقر مع زوجي في "أستراليا".

بقدر عشقي للسفر كنت من معارضي الغربة، وكنت مولعة بالبلد ومرتبطة بالأهل، لكن شاءت الأقدار ورحلت بعمر التاسعة عشرة لأستقر مع زوجي في "أستراليا". البداية كانت صعبة؛ فلم تستطع البلد الجميلة الرحبة ولا محبة زوجي المطلقة، ولا حتى الجالية الصغيرة التي أصبحت لاحقاً عائلتي، أن تخفف من ألم الغربة والفراق، لكنني اليوم أتطلع إلى تلك الصبية داخلي، وأشعر بالفخر؛ فالغربة صنعت مني إنسانة مزجت بين حضارتين أعتزّ بهما وأحترمهما. وعززت داخلي الشعور بأن الغربة غربة الروح، وأتوقع أنني نجحت في أن أحصّن نفسي كي لا أشعر بذلك إطلاقاً

البداية كانت صعبة؛ فلم تستطع البلد الجميلة الرحبة ولا محبة زوجي المطلقة، ولا حتى الجالية الصغيرة التي أصبحت لاحقاً عائلتي، أن تخفف من ألم الغربة والفراق، لكنني اليوم أتطلع إلى تلك الصبية داخلي، وأشعر بالفخر؛ فالغربة صنعت مني إنسانة مزجت بين حضارتين أعتزّ بهما وأحترمهما. وعززت داخلي الشعور بأن الغربة غربة الروح، وأتوقع أنني نجحت في أن أحصّن نفسي كي لا أشعر بذلك إطلاقاً».

رندة جمال أثناء رحلتها إلى كيلمنجارو

مغامرة جميلة هدفها اقتناص لحظات من الزمن واختبار مشاعر بطلة رواية أثّرت بها، وحفرت عميقاً في نفسها، مع العلم أنها لا تمتلك خبرة التسلّق، قالت عنها: «تأثّرت كثير برواية "أرواح كيلمنجارو" للكاتب "إبراهيم نصر الله"، إلى درجة أنني لم أفكر بأي شيء سلبي، لقناعتي بأن كل عمل لا يخلو من الخطورة. ولأنني من عشاق السفر؛ كان القرار تبعاً لعلاقتي مع الجبل التي تطورت في قلبي، وثقتي بأنه لن يسبّب لي الأذى؛ شعور سيطر على أفكاري، مع العلم أنني لا أمتلك أي تجربة بالمشي أو التسلق، واعتمدت على ثقتي بنفسي وأنني قادرة على أي عمل جسدي أو ذهني، وعلى الرغم من تحذيرات الطبيب وبعض الشباب والصبايا من المحال التي ابتعت مستلزمات السفر منها، الذين قالوا متعجبين: "كيلمنجارو" مباشرة! اختبري التسلق للتلال والجبال المنخفضة في البداية.

لكن ذلك الشيء الموجود في داخلي كان نقيض ذلك، وأكملت خطوتي».

مع أصدقاء الرحلة

متعة الصعود إلى قمتها الحلم تصفها بالقول: «أنا من عشاق الكلمات، ومما قرأته أن هناك عطراً باسم "إيفوريا"، أعجبتني الكلمة جداً، وبحثت عن معناها، وهو حالة من السعادة المفرطة التي ليس لها سبب أو تبرير. هذه كانت حالتي من لحظة الصعود حتى النهاية. لم أكن أفكر بالقمة، كنت أستمتع بكل لحظة، وإن كانت صعبة.

أصدقاء الرحلة تعرفوا إليّ وزوجي وأولادي وأهلي وعملي و"سورية" بجمالها وأحزانها. ولا أظن أنني توقفت عن الحديث إلا للتأمل. كانوا صامتين أغلب الوقت لتوفير طاقتهم، في حين شعرت بأن لديّ طاقة كافية لتحيط "كيلي" الجبل كما يسميه سكان "تنزانيا" عدة مرات. المرة الوحيدة التي سيطرت عليّ فيها حالة من الحزن، كانت في الليلة الأولى بالمخيم؛ لأن البرد والشتاء داهمنا واضطررنا لارتداء طبقات عدة، والنوم باكراً. حينئذٍ طارت أفكاري برفقة قلبي نحو آلاف اللاجئين، الذين تحتضنهم الخيام غير المهيأة لردّ البرد وأي شيء آخر. شعرت بخجل من إنسانيتنا ومن الأرض. بعدها أبعدت كل ذلك عني، وأنا أشعر بالعجز، ونمت. وفي الأيام التالية، ركزت على الطريق، واستمتعت بكل لحظة».

راغدة عساف زين الدين

بعد الرحلة عادت إلى عملها وأسرتها عازمة على مفاجأة الحياة؛ فهناك الكثير من الأحلام، وتختتم بالقول: «بعد جمع ذخيرة جميلة من الأفكار والمعارف عدت إلى عملي المعتاد مع أسرتي، فنحن نملك مطعماً للمأكولات البحرية؛ عمل صعب نعطيه كل جهدنا ليوفر لنا حياة مستقرة، وقد لا يخلو الأمر من التذمر من الساعات الطويلة والتعب الجسدي والفكري، لكننا استطعنا أن نبني في حينا سمعة طيبة وصداقات، ومن الناحية الأخرى، لولا هذا العمل لما استطعنا السفر والتعليم والعيش "مستورين" على رأي أمهاتنا. باختصار، شأننا شأن كل من يغترب، العمل الشاق من أجل لقمة العيش، لكن لم أجعله يوماً يعترض الاستمتاع بالحياة، وهي من وجهة نظري أكبر مغامرة، وأنا دائمة البحث، ما دامت مكتبتي عامرة، وهناك عدة أسفار في ذهني؛ كل واحدة منها مرتبطة بكتاب، ولا أدري ماذا تخبّئ الأيام، لكنني أعلم وأثق أن لدي العزيمة لأخوض التجربة».

تعيش أجواء الرواية وتعيدها قصة بسرد جميل، كذلك رحلتها كانت بالنسبة لنا قصة مشوقة عايشناها بولع وشغف، كما حدثتنا الشاعرة "راغدة عساف زين الدين"، وقالت: «تعرّفت إلى "رندة" عندما جمعتنا الغربة في بلد واحد منذ خمسة وعشرين عاماً، ومنذ ذلك التاريخ بقيت الأقرب إلى روحي، وهي المغامرة الطموحة بشغف للحياة، وما تمتلك من تفاؤل وطاقة إيجابية، أتصوّر أنها أهلتها للنجاح في تحقيق حلمها في هذه الرحلة، وخطوات سابقة.

ولم أستغرب أن تتحمس لهذه التجربة، فأنا أسميها قاصة ممتازة؛ لأنها تسرد القصص بروح الراوية القديرة، وتعيش تفاصيلها، وتأخذها روح المغامرة إلى الغوص والتعمق أكثر، هذه العزيمة العالية عند "رندة" والطموح والإحساس العالي بالإنسانية والتحدي لذاتها، كل ذلك جعلها تقرر الرحلة، وتتحمل مسؤولية قرارها بجدية كاملة، وكانت النتائج مميزة تبعاً لثقتها بنفسها.

هذه الرحلة أعدّها نتيجة يجب أن نستفيد منها كنساء، وإن التصميم في أي مرحلة من مراحل العمر يحقق المعجزات، المهم أن نمتلك الطاقة ونجددها وندعمها بالعمل كما تفعل هذه المغامرة، التي أتوقع لها تجارب قادمة، تبعاً لما تمتلكه من أفكار وأحلام كبيرة، أتمنى لها التوفيق بتحقيقها».

ما يجدر ذكره، أن "رندة جمال" من مواليد عام 1973 في قرية "عرمان"، وهي مغتربة في "أستراليا".