عشقت عيناه قلعة "المرقب"، وطبع وعائلته بصمة في قصر "موسى المعماري"، وعاد ليبني قلعته البازلتية في قريته "الكارس" على أنقاض دير قديم يعدّه "غالب الورهاني" ذخيرة حلمه البازلتي الجميل.

منذ الطفولة اقتنع أن لديه القدرة على التعامل مع حجارة البازلت الصماء، وحملت ذاكرته صوراً لكل القلاع التي زارها بحكم التنقل ليرسم في مخيلته أقواساً وأدراجاً كوّنها بيديه، وأحب أن تكون رسالته والأثر الباقي عنه وعن أسرته عشاق الفن، بالعمل مع البازلت، هو "غالب شاهر الورهاني" ابن قرية "الكارس" المجاورة لمدينة "صلخد"، الذي حاول إحياء قريته وآثارها العائدة إلى عهود قديمة بعمل معماري وفني تراثي شاق التجربة وهين على من امتلك الإرادة، وجسدها في علاقته مع حجارة المنطقة السوداء، كما عبر عندما تحدث لمدونة وطن "eSyria" بتاريخ 16 شباط 2017، وقال: «تعودت الغدو باكراً على شرفات تطل على قلعة "المرقب"، حيث عشنا في المنطقة بحكم عمل الوالد مع "الدرك" في تلك المرحلة، وكان للصباح بهجة كبيرة عندما أتأمل هذه القلعة، وبهاء ارتسم على حجارتها، ففي كل مكان زرته كانت الآثار تنقلني إلى خيال أوسع يعزز ثقتي بأنني قادر على التعامل مع البازلت، ويدي تشتاق إلى إزميل وطرقات قاسية ولطيفة تشكل ما أرسم في الخيال، وبالفعل بعمر الثامنة عشرة وفي "لبنان" حيث أقمنا في منطقة "دير القمر" نحت أول عمل وكان وجه إنسان.

أعمال نحتية حاولت تجسيدها لتكمل مشروعي، وهي اليوم تحتل مواقع جميلة على الشرفات، أنجزتها على مراحل زمنية متلاحقة ولدي الكثير بعد لأنجزه، هذه الأعمال أخذت تستقطب الزوار والأصدقاء، فهذه القلعة من المواقع المميزة في المنطقة، لكن المشروع لم يكتمل بعد، وبات محور اهتمامي؛ فأنا أعشق العمل، ويومي يبدأ في الساعة الرابعة والنصف صباحاً؛ أمارس رياضة المشي، وأبدأ يوماً جديداً بين النحت والزراعة، وأختمه في التاسعة مساء

في تلك المنطقة عشنا تجربة فنية أنا ووالدي الذي كان قريباً بالمكان من "موسى المعماري" صاحب قصر "موسى"، وكان رفيقه في العمل، حيث رسما حجارته على علبة كبريت كتصميم أولي للعمل نفذه والدي معه، وكان والدي صاحب ومنفذ عدة أفكار في هذا القصر، وكذلك شاركت وإخوتي بعدة أعمال لم يعترف بها المعماري، لكن من رافقنا في تلك المرحلة يعرف جيداً أن ما نفذ كان بيدينا.

غالب الورهاني في منزله الذي بناه على شكل قلعة

فقد شاركت بنحت وجوه في قسم التراث الشعبي، وحنطت بعض الكائنات، لكن العمل الأكبر كان بالنحت، وتقاضينا أجراً، لكن أجرنا الحقيقي كعائلة كان كلمة اعتراف بعملنا الفني للإنصاف لكوننا عشاق فن، وفي هذا المجال لم نجد أمراً يصعب علينا، فقد عملنا بكد وشجعنا حلم "المعماري" لأننا نثق بأهمية الفن والجمال؛ فالفن رسالة إنسانية تبقى، وفي حياتي لم أتعامل مع الفن لغاية العمل والاحتراف، إذ عملت في أعمال كثيرة لأكسب لقمة العيش، وبقي الفن موهبة أمارسها تلبية لحاجتي الذاتية وتكريساً للجمال».

منزله قلعة تعددت أركانها جسدها بحرفية وصبر بعمل يدوي صرف، كما يقول: «بعد "لبنان" كانت لي ولإخوتي رحلة طويلة في "ليبيا" لغاية العمل، وفي الثمانينات عدت إلى قريتي ومنزل العائلة القديم القائم على أنقاض دير وثني تعود تسميته إلى العهد البيزنطي، لهذا المكان ذكريات وشعور بالعراقة تنطق بها كل زاوية فيه، من هنا بدأ حلمي، حيث كنت أتخيل قناطر وجدراناً وبوابات، وبدأت تشكيله وفق خيالي، وما التصق بمخيلة الطفل من رؤى قلاع شاهقة، لأصمم المداخل والجدران العالية، وأنحت حجارتها وأكونها وأبنيها على طريقة عقد الريش وفنوننا المعمارية القديمة بالمنطقة، بما ينسجم مع الصورة التراثية لتعبر عن ثقافة البناء في هذه المنطقة، وبقيت لسنوات أعمل بهدوء إلى جانب هوايتي بالزراعة ومتابعة الكروم، لأصل إلى مرحلة بات فيها ما يقارب 600 متر مربع؛ وهي مساحة بيتي الذي عاد إلى طقسه القديم، المنزل أخذ شكل قلعة نحتها بصبر وجهد لم أقيده بزمن، وهو تجسيد للموهبة التي اقتبست منها الهدوء والراحة وصفاء الفكر.

من أعماله التي وثقها المصور الفوتوغرافي أجود الزغير

بالحرص على المحافظة على تصميم ينسجم مع تصاميم القلاع درست كل ركن وأنجزته بهدوء، وقد استهلك الكثير من الوقت، وقارنت عملي بمخططات للمكان الذي سمي دير "مكاريوس" في العهد البيزنطي، مع أنني لا أقتنع بالتسمية، فلم أعثر على اسم لراهب بهذا الاسم لكونه قيل إنه سمي باسم راهب في المنطقة، وبناء على كل ما جمعته من معلومات أعدت بناء الأدراج، وكانت عملية شاقة لأحصل على ما يسمى في منطقتنا بالرقق الحجرية، وهي قطع صخرية صلبة لها تكوين يمكن الاستفادة منه لتكوين الدرجات بشكل مستوٍ، تعاملت معها وكان القص بوسائل يدوية لتأخذ المقاس والشكل المطلوب؛ ليتراءى لمن يصعد الدرج أنه في زمن قديم لا وسيلة للبناء فيه غير الحجر، هذا الزمن رافقني وحاولت اقتناص ومضات منه، ليبقى رسالتي لأولادي وقريتي لتعرف وتشتهر بأن فيها منزلاً حوله خيال عاشق للفن إلى قلعة».

أعمال نحتية زينت الشرفات والمداخل، يخبرنا عنها: «أعمال نحتية حاولت تجسيدها لتكمل مشروعي، وهي اليوم تحتل مواقع جميلة على الشرفات، أنجزتها على مراحل زمنية متلاحقة ولدي الكثير بعد لأنجزه، هذه الأعمال أخذت تستقطب الزوار والأصدقاء، فهذه القلعة من المواقع المميزة في المنطقة، لكن المشروع لم يكتمل بعد، وبات محور اهتمامي؛ فأنا أعشق العمل، ويومي يبدأ في الساعة الرابعة والنصف صباحاً؛ أمارس رياضة المشي، وأبدأ يوماً جديداً بين النحت والزراعة، وأختمه في التاسعة مساء».

مع الباحث كمال الشوفاني ونموذج عقد الريش الذي بناه بيديه

تابعه عن قرب نظراً لأهمية ما أنجزه من جمالية تراثية، تحدث عنه الباحث "كمال الشوفاني" وقال: «موهبة فريدة يتمتع بها ابن قرية "الكارس" السبعيني "غالب الورهاني"، تجمع بين فني النحت والعمارة، فإضافة إلى المنحوتات الجميلة التي يبدعها بإزميله ومطرقته، هو "معمرجي" تقليدي بامتياز يبني البيوت والجدران من الأحجار التي ينحتها بنفسه. وهو سليل عائلة تتمتع بنفس صفاته الإبداعية هذه؛ فقد كان والده نحاتاً ومعمارياً مثله، وشقيقه الفنان العالمي "فؤاد الورهاني" المقيم في "أستراليا" منذ سنوات طويلة. من أجمل ما يبدع في بنائه هو سقف "عقد الريش" حيث يكون السقف على شكل قنطرة، مستمرة إضافة إلى الجدران الدائرية الملأى بالزخرفات والنقوش، وجميعها من عمله الخاص.

زرته عدة مرات بحكم الصداقة، والتعرف أكثر إلى هذه التجربة، وفي كل مرة أجد ما يستحق الزيارة لمكان تمكن بجدارة من نقله إلى دائرة الضوء والتميز».

من أجمل المواقع التي أثرت به كمصور ومكان وثق لجزء مهم من تراث المنطقة، حيث يقول المصور الفوتوغرافي "أجود الزغير": «تعرفت إليه بعد أن جذبني شكل البناء، وزرته بقصد التعرف والاستمتاع بجمال وفن باد على المكان، وقد حدثني عن تجربته وما أنتجه من أعمال نحتية مميزة، والأجمل فنون البناء القديم التي جسدتها بالقناطر والواجهات التي كونها بمفرده وعمل لا ينجزه إلا عاشق للفن.

التقطت في هذه القلعة -ولن أقول المنزل- لقطات مميزة تعبر عن حالة فنية فطرية، تستحق الإضاءة والتعريف بها كتجربة لها جذور، ولم يطورها بقصد الحصول على عمل أو الربح؛ هنا صورة حقيقية لمن عمل لتكريس الجمال، أتمنى أن يحظى بالاهتمام المطلوب؛ فهذا المكان ينتسب إلى الأماكن التراثية، والأجمل أن من أنجزها على قيد العمل، ونتوقع منه أعمالاً جديدة ومميزة؛ لأن العزيمة متوفرة».

ما يجدر ذكره، أن "غالب الورهاني" من مواليد "الكارس" عام 1943، مستقر في قريته بعد رحلة طويلة في عدة دول، أنتج عدة أعمال فنية نحتية، وفي زيارته إلى أستراليا قدم لأخيه الفنان العالمي "فؤاد الورهاني" مجموعة من الأعمال، وحيد نفسه عن المشاركات في المعارض؛ لأنه يتعاطى مع الفن كموهبة خاصة لا يطلب منها الشهرة.