عُرف عن الراحلة "خولة يوسف أبو عاصي" بأنها كانت مقصد المحتاجين في "نجران"، ورجاء السائلين، والمرجع الذي لديه الإجابة لكل حائر، والأهم من ذلك كله أنها قادت بعقلها كتيبة من الرجال الأشداء غيّروا مجرى الأحداث في بداية معركة "المزرعة" الشهيرة.

يقول الأديب "فوزات رزق" عن تلك المناضلة: «لم تحمل سيفاً، لكنها فعلت أكثر مما لو قادت كتيبة من الفرسان؛ فالمجاهدة "خولة أبو عاصي" زوجة المجاهد "عباس أبو عاصي"، وليسمح لي المجاهدون الذين حملوا البيارق أن أضم إلى صفوفهم هذه المرأة المجاهدة التي ألهبت الحماسة في نفوس المقاتلين ذات عشاء».

لم تحمل سيفاً، لكنها فعلت أكثر مما لو قادت كتيبة من الفرسان؛ فالمجاهدة "خولة أبو عاصي" زوجة المجاهد "عباس أبو عاصي"، وليسمح لي المجاهدون الذين حملوا البيارق أن أضم إلى صفوفهم هذه المرأة المجاهدة التي ألهبت الحماسة في نفوس المقاتلين ذات عشاء

بدأ جيش "فرنسا" بقيادة الجنرال "ميشو" الزحف إلى مدينة "السويداء"، وكان تعداد الحملة ثلاثة عشر ألف جندي وضابط فرنسي، قابلهم الثوار الذي بلغ عددهم نحو 400 ثائر بقيادة "سلطان الأطرش" قرب قرية "المزرعة".

كانت مهمة النساء نقل الماء للثوار

يقول المجاهد "سلطان الأطرش" قائد "الثورة السورية الكبرى" في كتابه "أحداث الثورة السورية الكبرى": «في صبيحة 31 تموز، كانت بداية المعركة الأولى بيننا وبين الحملة الفرنسية؛ إذ اصطدم جناحنا الأيمن بطلائعها المتقدّمة في هذه الجهة، وتمكّن من اقتناص بعض ضباطها وجنودها في الدقائق الأولى من الاصطدام، ثم انقضّ عليها فرساننا والتحموا معها، واستمرّ القتال العنيف دائراً بينهم وبيننا حتى وصلت في تقهقرها ضحوة النهار، إلى مشارف "بصر الحرير". وفي اليوم الأول من شهر آب عام 1925، أخذت قوات العدو تتقدّم بسرعة كبيرة، فطلبت من مواقعنا عدم إطلاق النار عليها إلا بعد وصول آلياتها المدرّعة إلى مفرق طريق (الدور ـ قراصة). وعندئذ حمي وطيس المعركة، فراحت الطائرات تحوم فوقنا وتقذفنا بقنابلها الكبيرة التي زلزلت الأرض تحت أقدامنا، وجعلت الذعر يدبّ في خيولنا، وكانت قذائف مدفعية الميدان تتناثر بغزارة على خطوطنا، فتحيل متاريسنا ركاماً. وفي الوقت نفسه، بدأت خيالة العدو تضغط بقوة هائلة على جناحنا الأيسر، جنوبي قرية "الدور"، بعد أن جعلت من "تل الخروف" منطلقاً لغاراتها الكاسحة. كان الوقت ظهراً، وأشعة الشمس المحرقة تلفح وجوهنا وتعرّق أجسادنا المنهكة، وقنابل الطائرات وقذائف المدفعية والآليات المدرعة تتساقط علينا من كل جانب، حيث أحسسنا وكأن النهار قد أمسى ظلاماً دامساً من دخان البارود المتفجّر والغبار المتكاثف في جوّ المعركة، حتى إن الصخور البازلتية المنتشرة في المنطقة، التي اتخذنا في ثناياها مراكزنا الدفاعية، قد أخذت تتحوّل إلى شظايا متطايرة كالعصافير المذعورة، وكيفما توجه الإنسان يقع نظره على قتيل يسبح بدمه، وجريح يستصرخ أهل المروءة لإسعافه ونقله، لم يكن بوسعنا، بعد أن أصاب جبهتنا ذلك التصدع والانهيار، إلاّ أن نترك الجناح الأيمن من قواتنا متمركزاً في مواقعه الأولى، على أمل أن يشد أزره ببقية القرى المجاورة، وفي مقدمتها "نجران"، وأن نتراجع بالقوات الباقية أمام الجيش الفرنسي الجرار، لنتخذّ لأنفسنا مواقع جديدة نحمي بها طريق "السويداء"».

من هنا تبدأ قصة المجاهدة "خولة أبوعاصي" المولودة في قرية "نجران" عام 1887م، وزوجة المجاهد الراحل "عباس حسين أبو عاصي"، حيث قال المهندس "وائل أبو عاصي" لمدونة وطن "eSyria" بتاريخ 30 تموز 2017، عن قصة جدته المجاهدة: «بعد أن عاد الثوار وتراجعوا بفعل الضغط في الجبهة، حلّوا ضيوفاً في دار المجاهد "عباس أبو عاصي"، الذي عرف عنه الشجاعة والإقدام والكرم، فقدمت الضيافة لهم من الميسور، وعندما وضعت "المناسف"، همّت صاحبة البيت التي كانوا يلقبونها بـ"أم حمد" إلى زوجها قائلة: (لي عندك طلب يا بو حمد، فقال: ابشري، قالت عندي كلام أريد أن أخاطب الثوار فيه، فهلّا سمحت لي بأن أقفر على الزاد؟) والتقفير عادة من عادات "جبل العرب" المشهورة المخصصة لكبار القوم من الرجال.

القائد العام للثورة

ولما كانت "أم حمد" صاحبة رأي ومعروفة باتزانها وهيبتها، لم يجد زوجها حرجاً في تلبية طلبها والسماح لها بـ(التقفير على الزاد)، وقال: (والله أنك أخت رجال، ولك ما طلبت)، فدخلت وبيدها "الكبشة"، وبعد أن دارت السمن على "المنسف" الأول، قالت مخاطبة الثوار: (اسمعوا يا رجال، هذا الزاد لمن يعاود العرضي ويحمي العرض غداً في "المزرعة"، فمن يجد بنفسه الكفاءة، فليتفضّل ويقدم على الزاد).

فما كان من الرجال إلا أن هبّوا هبّة رجل واحد، وبدأت النخوات، وعلت صيحاتهم: (عند عيونك يا أم حمد)، فأعادت "الكبشة" إلى زوجها "عباس أبو عاصي" ليكمل (التقفير على الزاد).

ثائرون على الرغم من كل المصاعب

وما لبثت أن وصلت الأخبار إلى قرية "سليم" مكان وجود قائد الثورة، فقال في مذكراته: «ولما رأى الثوار الآخرون ما رأوه من فعلهم، انقضوا بدورهم على مجموعات أخرى من فصائل الجند، وكان في مقدمتهم فرسان قرية "نجران" الأشاوس، فخاضوا معركة عنيفة حققوا فيها نصراً مؤزراً، وغنموا كميات كبيرة من الأسلحة والعتاد الحربي والبغال، وساقوا معهم عشرات الأسرى، وبعد ذلك، قام بعض رجال القرى الأخرى بهجمات مماثلة موفقة، كـ"سميع، والدور، وقراصة، وكفر اللحف، ومجدل الهنيدات، وريمة الفخور، والثعلة، والسجن، وتعارة، والدويرة، وحرّان، ولبّين، وجرين، وداما، وصميد، ومجادل، والخرسا، ووقم"».

كان لهذه الحادثة الدور الأساسي في عودة الثوار إلى أرض المعركة، وقتل العدد الأكبر من جنود الاحتلال الفرنسي، وتكبيده الخسائر الكبيرة، واندحرت الحملة الفرنسية، وتبعثرت جثث قتلاها وهياكل مدرعاتها، وآلياتها المختلفة وأسلحتها الثقيلة بين السهول الممتدة من "المزرعة" شرقاً، حتى قرية "الدور" ومشارف "بصر الحرير" غرباً.

يقول الأديب والباحث "نصر أبو إسماعيل" عن هذه الحادثة، التي عدّها المؤرخون نقطة التحول في سير معركة "المزرعة": «كان الرجال في طريقهم إلى ميادين القتال، وساعة مرّوا في "نجران"، استضافهم الثائر "عباس حسين أبو عاصي" في بيته، وكانت زوجته سيّدة كريمة، ذات هيبة ووقار وحكمة، ورأي حازم، وبصيرة نافذة، وعقل راجح، ونفس أبيّة يشغلها عشق الأرض.

وضع زوجها "مناسف" القرى أمام ضيوفه، ورأت "خولة" أن تعمّد الذاهبين إلى المعركة بالعاصفة، وتقتلع الوهن من صدورهم إذا وُجد، فاستأذنت زوجها في أن تنوب عنه في سكب "القفرة" على طعام "المناسف"، فلم يمانع لثقته فيما ترنو إليه.

أدارت "خولة" السمن على "المنسف" الأوّل، ثمّ رفعت رأسها، وخاطبت الرجال قائلة: (يا إخوتي، هذا الطعام مخصّص لمن يرى في نفسه استعداداً لخوض المعركة ببسالة وثبات حتّى الموت. إنّ حماية العرض والأرض أمانة في أعناقكم، فمن كان مستعدّاً لذلك فليتقدّم، وليأكل من طعامه هنيئاً مريئاً.

هنا تفجّرت رعود واشتعلت بروق في صدور الرجال، وارتفعت صيحات النخوة: (لعينيك أمّ حمد.. تربة وطنّا ما نبيعا بالذهب)».

يقول الشاعر والكاتب الكبير "سلامة عبيد" في كتابه "الثورة السورية": «كانت معركة "تل الخروف" صدمة للثوار أقلقت نفوسهم؛ لذلك فترت همّتهم، فثبتوا حتى الظهر، ثم تراجعوا تحت وطأة المدفعية والطائرات، فاتجه قسم منهم بقيادة "سلطان الأطرش" نحو "ماء المزرعة"، ومنها انتقل إلى قرية "سليم"، في حين تراجعت القوى الأخرى يائسة نحو الجبال.

اعتبر المجاهدون أن المعركة قد انتهت، وأن طريق "السويداء" أصبح مفتوحاً، غير أن الخيالة المرابطين في "نجران" وحول "نبعة قراصة" لم ييأسوا، بل انقضوا عند الظهيرة على "ساقة الجيش" من الجهة الشمالية، وكانت "الساقة" مؤلفة من مشاة وزنوج سنغاليين وعدد من السيارات والدواب تحمل الأرزاق والذخيرة.

اشترك في الانقضاض على ساقة الجيش المرابطون من "نجران" و"قراصة"، وبعضهم بتحريض من زوجة المجاهد "عباس أبو عاصي" من "نجران" بعد أن رفضت أن يمد أي ثائر يده على الزاد الذي أعدّته لهم إلا إذا وعد بالعودة إلى ساحة القتال».

يقول الشاعر "ميسر الشحف" وهو يصف الحادثة:

"بتل الخروف ويا عُظْمِ هول"ن" حصل... حتّى الأصيلة ما أسعفت خيالها

ضـبو البيارق بالــــخجل زاد الزعل... أبطال شــــافوا من عــظيم هوالها

وعباس حالف عالربع وأهل المحل... عالزاد يا اهل الــخير حطو رحالها

إخت النشــاما تكفّي عن مية رجــل... خولة بوعــــاصي يا عُظُم منزالها

تأخذ إزن مـــــن ابن عمها وترتجل... تقفر قـــــــفار العز تنخي بطالـها

يا ولاد عمي عزوتي شفار النصل... من راد نجــمة بالأعالي يطـــالـها

تزغرد وتنخي القوم وتشـد الحمل... "الــمزرعة" تنشد شرف يزهالـها

الزاد للي يعــاود الــعرضي ويفل... "ميشو" وطنكاتو ويخفي ظـلالـها

لعيون خولة نجيب نجمة من زحل... علق النخا وإحمى لهيب سجالها"».

*الصورة من خيال الفنان "فرزان شرف" بعد بحث مضنٍ عن تفاصيل الشخصية من كبار السنّ الذين عاصروها، علماً أنها رحلت عام 1961.