"وصال أبو الحسن" "أم أيمن" امرأة من عصر الذهب العتيق؛ حاكت حلمها بواسطة ماكينة "التريكو"، حيث صمّمت على مساعدة أسرتها وتعليم أبنائها، وكان لها ذلك بالعمل الذي لم تتركه في خطواتها الهادئة ململمة عقدها السادس.

في رحلتها مع الزوج الذي انتقل من "السويداء" إلى مدينة "حلب" للعمل؛ رسمت "وصال" لأسرتها مساراً لإيمانها بملكاتها العملية وذوقها الجميل، لتكون بصمة مشرقة لأطفال خمسة أيقنت أن التعليم طريقهم لحياة مستقرة وناجحة، وعليه بنت مشروعها الصغير الذي بدأ بماكينة "تريكو" اشترتها بالتقسيط؛ وفق حديثها لمدونة وطن "eSyria"، بتاريخ 25 شباط 2017، قائلة: «في مدينة "حلب" عندما عرض بعض الجيران على زوجي الموظف الاغتراب إلى بلد عربي لتحسين الدخل؛ أوقفته معبرة عن رفضي لفكرة السفر، فكيف يسافر وهو أب لأسرة كبيرة؟ وأخذنا نبحث عن البديل، وطلبت من جاري أن يبيعني ماكينة "التريكو" الخاصة به بالتقسيط، وبذلك هيأت نفسي لعمل جديد، اقتنعت أنه بديل عن سفر زوجي، وكان ذلك بشراء الماكينة التي لم أنتظر قدوم صاحبها ليدربني على استعمالها، كنت أقرأ دليلها وأطبق الخطوات، ليستغرب عندما زارنا بعد أسبوع أنني أنجزت قطعة لولدي بواسطة هذه الماكينة التي لم أستخدمها من قبل.

عندما عدنا إلى قريتنا كان قد توفي زوجي وأسس أولادي لحياتهم الخاصة بعد الدراسة والزواج، ومع ذلك حافظت على الماكينة، ولم أنقطع عن العمل، بل تابعت بقصد ملء وقت الفراغ، والاستعداد لتدريب الصبايا على عمل أحببته وكان مصدر عطاء لي ولأسرتي، ولغاية هذه المرحلة دائماً لدي عمل، ولا أنقطع عن التفكير بما هو جديد، وبقيت خمس سنوات أقدم عملي لمصلحة متجر في مدينة "صلخد"، لكن هذا العام ولظروف صحية اختصرت بعض الأعمال، فلم يعد بإمكاني - بعد أن قاربت على السبعين - العمل عشرين ساعة كما كنت في سنوات الشباب

وفي ذلك الزمن لم نكن فقراء إلى درجة الفاقة؛ لكن العائلة كانت كبيرة، وكان همّي رعاية أولادي ومساعدة زوجي وتحقيق حلمي الذي لم أتمكن من بلوغه قبل الزواج، حيث وافق أهلي على خطبتي وأنا في الصف السابع لأترك المدرسة من دون عودة، ويبقى التعليم أمنية لم تتحقق لأزرع الحلم بأولادي. وبلا شك كان عملي متعباً وشاقاً، تلمسته يوماً بعد آخر عندما بدأت أنتج للجيران معاطفاً وقطعاً مختلفة أشتغل بها بعد تدريس الأولاد وإطعامهم، فأسهر لإتمام عملي مع الفجر الذي رافقتُ إشراقته لسنوات طويلة».

أم أيمن أثناء العمل

من ماكينة نصف آليّة ومساعدة بعض المعارف؛ صنعت "أم أيمن" شهرة جعلت منتجاتها مطلوبة، لتُلبِس أبناء السفير الأميركي في تلك المرحلة من قطعها الصوفية، كما حدثتنا، وتابعت: «ارتدى ابني معطفاً صوفياً صممته بألوان زاهية، وأوصيته إذا سألتك المعلمة عنه، أخبرها أن أمي اشترت ماكينة وباستطاعتها الحياكة لمن يطلب، وبالفعل أوصلت المعلمة المعروفة بأناقتها رسالة جميلة إلى الجيران، وأخذوا يتوافدون لزيارتي وانطلق العمل، وكنت مع كل قطعة أكتسب خبرة جديدة، ولم أجد صعوبة في أي تصميم، فقد أعطيت للحياكة وقتها وللأسرة أيضاً؛ لتكون مهام المنزل والاعتناء بالأولاد والعمل يومية ومنظمة بالكامل.

ولفترات طويلة كان إنتاجي اليومي يصل إلى خمس عشرة قطعة، وباتت السيدات تقصدنني وتنتقين التصاميم. وبعد عامين استطعت تطوير الماكينة لأتمكن من إنتاج قطع من تصميمي؛ وهذا ما حقق لي شهرة في المنطقة، لأجد في أحد الأيام زوجة السفير الأميركي في تلك المرحلة تزورني وأولادها لأحيك لهم عدداً كبيراً من القطع، وبعدها عملت لمصلحة متجر وسيدة تخصصت بالمعارض أنتجت لها مئات القطع، واستمر العمل بالتوازي مع تعليم الأبناء؛ ليتجاوزوا الثانوي، وبعدها يدخلون الجامعة في تخصصات الطب والهندسة والبحوث العلمية، وكانوا متفهمين لظروف العمل، ومنهم من تعلم الحياكة، وكان يساعدني في أوقات الفراغ لنكون معاً في مواجهة الحياة، ونرسم مستقبلنا ونحقق الكفاية التي كنا ننشدها بتعبنا وجهدنا، ويتعلم أولادي معنى الحياة بالعمل الشريف والإخلاص».

مع زوجها وأطفالها وهم صغار

عادت إلى قريتها "عرمان" في "السويداء"، وبقيت الماكينة الصديقة والرفيقة لسنوات العمل التي تجاوزت الستين، وقالت: «عندما عدنا إلى قريتنا كان قد توفي زوجي وأسس أولادي لحياتهم الخاصة بعد الدراسة والزواج، ومع ذلك حافظت على الماكينة، ولم أنقطع عن العمل، بل تابعت بقصد ملء وقت الفراغ، والاستعداد لتدريب الصبايا على عمل أحببته وكان مصدر عطاء لي ولأسرتي، ولغاية هذه المرحلة دائماً لدي عمل، ولا أنقطع عن التفكير بما هو جديد، وبقيت خمس سنوات أقدم عملي لمصلحة متجر في مدينة "صلخد"، لكن هذا العام ولظروف صحية اختصرت بعض الأعمال، فلم يعد بإمكاني - بعد أن قاربت على السبعين - العمل عشرين ساعة كما كنت في سنوات الشباب».

تجربة مميزة وصفها "زياد المقت" جارها في قرية "عرمان" قائلاً: «"أم أيمن" نموذج للمرأة التي يرتقي المجتمع بوجودها، اشتهرت في "حلب" وبدأت بتطوير نفسها، وأصبح العمل لديها يميل إلى الاحتراف والخبرة، لتبتكر أجمل التصاميم من كنزات الصوف والفساتين، وبقيت تعمل لساعات طويلة لعدة عقود، ولم تنسَ أسرتها وأطفالها؛ فهي والدة الدكتور المعروف "أسامة الزغير"، طبيب القلبية المشهور، وطبيبة الأطفال "إيمان الزغير"، وأيضاً ابنها الثاني الحاصل على شهادة الهندسة في البحوث العلمية، ومخبري أسنان، وابنتها الصغرى خريجة أدب عربي. وبعد إنهاء زوجها العمل في "حلب"، عادت إلى بلدتها "عرمان"، وتوفي زوجها، فحملت على عاتقها جميع المسؤوليات، وهي لغاية هذه اللحظة تتابع عملها في منزلها بكل همّة ونشاط».

زياد المقت

ما يجدر ذكره، أنّ "وصال نجيب أبو الحسن" من مواليد بلدة "عرمان"، عام 1948.