غمرت مياه "الفرات" مواقع أثرية عدّة بعد تشكل بحيرة "الأسد" في سبعينيات القرن العشرين، وتضم هذه الأوابد حضارات اندثرت، شكلت عبر التاريخ أساً حضارياً للإنسانية، حيث كانت الموطن البشري الأول قبل أكثر من عشرة آلاف سنة خلت، والتي شهدت بوادر التدجين الزراعي والحيواني الأول.

من أشهر التلال الأثرية التي غمرتها مياه بحيرة "الأسد" تل "عناب السفينة"، وللحديث عن هذا التل التقى موقع eRaqqa بتاريخ 16/1/2012 الباحث الآثاري "محمد العزو" الذي حدثنا بداية عن سبب تسميته وموقعه، قائلاً: «يقع تل "عناب السفينة" بجوار تل العبد، ولا يفصل بينهما سوى وادٍ قادم من جهة الشرق، ويصب في نهر "الفرات"، ويبعد عن مدينة "الرقة" حوالي /100/ كم غرباً، ويقع على الضفة اليسرى لنهر "الفرات" في الجهة الجزرية، كما أنه يبعد عن مدينة "الثورة" حوالي /50/كم شمال غرب و/2/ كم إلى الشمال من قرية "زريجية شمس الدين".

بعثة "تل عناب السفينة" عثرت على نماذج عدة من هذا النوع، أهمها الحلقة "د و ز" وكانت هذه الحلقات منهوبة بالكامل، وهذه الحلقات تشبه إلى حد كبير ما كشف في بلاد اليونان وإيطاليا وروسيا. وحقيقة وجود مثل هذا النوع من المقابر، يُعزى إلى التأثيرات المتبادلة بين الشرق والغرب، أو ربما يعود أيضاً إلى وجود وسكن مجموعات عرقية في المنطقة في أواخر الفترة الهلنستية وبداية الفترة الرومانية، علماً أنَّ مثل هذه العرقيات كانت متواجدة في المنطقة منذ بداية العصر الهلنستي العام

سمي التل بهذا الاسم، كما يقول أهل المنطقة، لأنَّ سفينة لعبور نهر "الفرات" كانت ترسو عند التل في العهد العثماني، أما كلمة "عناب" فهي كلمة محلية، قد تعني تل أو مكان مرتفع أو أي شيء آخر له علاقة بالتضاريس، وفي معاجم اللغة أن كلمة "عناب" تعني الرجل عظيم الأنف، والجبل الطويل المستدير، وهذه دلالة تقارب المعنى المحلي، وأيضاً "العناب" من الأشجار الشوكية، ولا تدل المؤشرات على وجود مثل هذا النبات في المنطقة، وفي المأثور الشعري، يقول الشاعر:

من مدافن الفرات

وَأَمْطَرَتْ لُؤْلُؤأً مِنْ نَرْجِسٍ وَسَقَتْ وَرْداً وَعَضَّتْ عَلَى العُنَّابِ بِالبَرَدِ

وينسب هذا البيت ضمن قصيدة طويلة لـ"يزيد بن معاوية".

مدفن على ضفاف بحيرة الأسد

وللوهلة الأولى فإنَّ هذا المرتفع لا يثير الانتباه، ولا تظهر عليه معالم أثرية واضحة المعالم، إلاَّ أنّ التنقيبات الأثرية فيه، كانت تحمل مفاجآت هامة ومتعددة لعلماء الآثار».

وحول التنقيبات الأثرية في تل "عناب السفينة"، يقول "العزو": «عثر المنقبون في تل "عناب السفينة" على نمط فخار طور "العبيد"، التي كانت تملأ جوانب كثيرة من التل، وعلى أعماق تصل إلى مترين في بعض الأحيان. ولسنا ندري هل إنسان طور "العبيد" سكن الموقع في الألف الرابع قبل الميلاد، لكن الثابت أنه صنع أو اقتنى الفخار البديع ذو الجدران الرفيعة، والمدهون باللون الأسود أو الأحمر البني، الذي يغلب على ما اكتشف في مواقع أخرى من الجزيرة السورية العليا، مثل تل "براك" في "الحسكة"، وتل "برسيب" على "الفرات"، وفي الداخل السوري سهل "العمق"، "آفاميا"، "رأس شمرة" وغيرها، وأثناء مجريات التنقيب الأثري في الموقع، تم الكشف عن مجموعة من المدافن التي تعود إلى الفترتين الرومانية البيزنطية».

الباحث الآثاري محمد العزو أمام الموقع

وحول المدفن الروماني البيزنطي، يضيف "العزو"، قائلاً: «كشفت مجريات التنقيب الأثري في تل "عناب السفينة"، عن بضعة قبور من الفترة العربية الإسلامية فوق أحد هذه القبور شاهد قبر مدون عليه "ذا قبر مر" بخط قديم دون معرفة نوعه وتحديد تاريخه، ومباشرة بعد القبور الإسلامية أخذت تظهر جماجم مجمعة بشكل ثنائي وثلاثي ورباعي، ثم تبين فيما بعد أنه مدفن جماعي من العهد البيزنطي، يضم مئات الهياكل العظمية، دفنت دون نظام معين ضمن صناديق من الخشب، جميعها قد تفتت بالكامل وبعض الهياكل دفنت بدون صناديق. وكعادة قدماء البشر، عثر المنقبون مع هذه الهياكل، على مجموعة كبيرة من المصابيح الفخارية، كي يستعملها المتوفى لإنارة قبره المظلم في حياته الثانية.

كانت هذه المصابيح الفخارية من النمط المسيحي، وتتصف بدقة الصنعة وعليها زخارف نافرة كالصليب مثلاً، وقد تجاوز عدد السليم من هذه الأسرجة مئة سراج، ويشير التقرير العلمي للبعثة أنَّه يمكن ردها إلى عشرة أصناف تؤرخ ما بين القرن الرابع الميلادي والقرن السابع، كما عُثر في هذا المدفن الجماعي على أوانٍ فخارية وكؤوس زجاجية من النوع المسيحي، مع مصباح وأساور زجاجية وأخرى معدنية، إلى جانب مجموعة من اللقى الأثرية المتنوعة، مثل الخرز الملون من أشكال وألوان مختلفة، وكذلك الأبازيم البرونزية والصلبان، وتعاويذ مألوفة بعضها مزخرف مثل التعويذة التي لها شكل سلحفاة، والتي ترمز إلى التفاؤل بطول العمر، والمدهش في الأمر هنا هو أنَّ المنقبين في "تل الممباقة" المجاور لعناب السفينة، قد عثروا على آنية فخارية على شكل سلحفاة يعود تاريخ صنعها إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وبعض التعاويذ عليها إشارة رمز القديس "سمعان العمودي".

كانت المفاجأة الثانية هي العثور على مدفن آخر مزدوج الشكل، مشيد من الحجارة الكلسية المحلية ذات اللون الأبيض، ويتألف هذا المدفن من قسمين وخمس واجهات للدفن، كامل المدفن مبني من الحجارة المنحوتة. كانت أرضية هذا المدفن بالأصل منخفضة عن مستوى الأرض المجاورة، وجزؤه العلوي كان منسوبه فوق مستوى الأرض، ويتألف المدفن من غرفتين مخصصتين للدفن ومتجاورتين، الحجرة الأولى تقع في الجهة الغربية أبعادها /350 ×340/سم، وقد رمز لها بالحرف "آ"، والحجرة الثانية واقعة في الجهة الشرقية أبعادها /356×276/سم، وتنخفض أرضيتها عن أرضية الحجرة الأولى بحوالي /25/سم، وقد رمز لها بالحرف الأبجدي "ب" وبين الغرفتين فصيل، هو عبارة عن مدخل أبعاده /140×60/سم، وعلى المدماك العلوي الجنوبي للمدخل مدون بعض العبارات التذكارية بطريقة الحز العميق بلغات ثلاث هي، اليونانية والسريانية والعربية.

للغرفة الأولى "آ" ثلاث واجهات في كل واجهة يوجد قبرين فوق بعضهما البعض، الأعلى منهما لم يبق منه إلاَّ القاعدة، أما القبر الأسفل، فكان كاملاً وبحالة سليمة، باستثناء الساكف المزخرف بزهرة جميلة، ومزين بزخارف نباتية محورة عن الطبيعة، فهو مكسور وعليه بعض التشويهات، ويحفُّ بالقبرين في واجهتهما منحوتتان على شكل "بسيثة" مجنحة بغدائر تنحدر على خديها، وتبدو عليها علائم الحزن واضحة، من خلال نظرتها السارحة في الأفق البعيد، كما أنها تلبس ثوباً طويلاً متثنياً ومتجاوباً مع الجاذبية وترتكز بيدها اليسرى على مذبح صغير الحجم، وتضع اليد الأخرى تحت أو فوق اليد اليمنى، بينما نجدها قد ثنت إحدى ركبتيها واتكأت بكامل ثقلها على رجلها الثانية، وهذا الدافع نجده قد تكرر عند مصوري ونحاتي عصر النهضة في إيطاليا في القرن الرابع عشر ميلادي.

الغرفة "ب": لها واجهتان متماثلتان مع واجهتي الغرفة "آ"، حتى إنَّ ساكفها مكسور ويشبه الساكف في الغرفة الأولى حتى في زخرفته، لكن هذه الغرفة تختلف مع الأولى بمنحوتاتها، إذ نجد أنَّ القبرين محفوفان بمنحوتتين على هيئة "اسفنكس" أو "سفنج"، وهذا الشكل عند اليونانيين عبارة عن امرأة مجنحة لها ثديان كبيران وجسم أنثى الأسد "لبوة"، تقعي على قائمتيها الأماميتين وجاثية على مؤخرتها.. هذه الحجرة مزودة بمدخل من الجهة الشرقية أبعاده /72×90/سم فيه مزلاجين عرض الواحد منهما /30/سم، أما الأقسام العلوية لهذا المدفن، فقد هدمت قصداً من قبل لصوص وتجار الآثار، كما أنَّ أغلب الحجارة التي تحمل زخارف نباتية هي الأخرى قد سرقت، ولم يبق منها إلاَّ بعض الزخارف القليلة التي لا تمكن الدارس من أخذ أو إعطاء فكرة عن نوعية السقف الذي كان يغطي المدفن.

إنَّ التخريب الذي طال هذا المدفن أدى إلى اختلاف في ارتفاعات بقايا الجدران بين /130ـ180/سم، كما أنَّ أرضية المدفن كانت مبلطة بالحجارة المنحوتة وجدر الغرفتين، مزينة من الأسفل بنعول حجرية ترتفع عن أرضيته بين بحوالي /30/سم، ويبرز عن الجدار قرابة /10/سم، وهذا النوع من الزخرفة يذكرنا بما عرفناه عند الحثيين "الأورتستات" زخرفة جدر المعابد من الأسفل. وبشكل عام يمكن القول إنَّ هذا المدفن بنمط بنائه وبزخرفته وتماثيله، هو وثني الرموز ويمكن رده إلى الفترة الرومانية، حتى إنَّ التماثيل التي هي على هيئة "بسيثه"، النفس الحزينة، وكذلك تماثيل "الاسفنكس" أو "السفنج"، جميعها منحوتة وفق الدوافع والتقاليد اليونانية الكلاسيكية، و"الاسفنكس" في المقابر يرمز إلى الموت المفترس، وبعض العلماء يرى أنه هنا يرمز إلى طرد الشر أو الحراسة.. ويمكن اعتبار التقاليد والرموز الوثنية وبشكل آخر ظلت مستمرة بعد إعطائها الصفة الروحية في الفترة المسيحية، وأنَّها لم تمنع من استعمال مثل هذه المدافن في الفترتين المسيحية المبكرة والبيزنطية، مما يؤكد لنا تواصل المفاهيم والأفكار والتقاليد مع تغير المعتقدات عبر التاريخ».

وعن المدفن البيزنطـي في منطقة "عناب السفينة"، يقول: «في الموسم التنقيبي في تل "عناب السفينة" عام /1972/م، قامت البعثة المنقبة بتنفيذ عدة أسبار، من نتيجتها أنَّ البعثة كشفت عن مدفن من الفترة البيزنطية، وهو أصغر حجماً من القبر الروماني، البيزنطي الذي ورد ذكره سابقاً، وقد تعرض المدفن كغيره من المدافن الأخرى للنهب من قبل لصوص وتجار الآثار السريين. والمدفن مبني من حجارة الفرات الكلسية الناصعة البياض، وهو على عمق يتراوح ما بين /20-60/سم أبعاده /325×325/سم، ويتم الولوج إليه عبر دهليز واقع في الجهة الجنوبية من المدفن. عُثر في المدفن على أربعة قبور، ثلاثة منها ذات امتداد طولاني شمالاً جنوباً وأبعادها/180×55/سم، أما القبر الرابع فهو عرضاني وأعمق من القبور الأخرى ويمتد شرقاً غرباً، واحدها مبلط بمادة الآجر ولم يبق من محتويات المدفن، إلاَّ النزر اليسير من بعض الأسرجة الفخارية "فقط سراجين كاملين" وبعض الكسر الأخرى».

وعن المــدافن الحلقيــة الموجودة بالقرب من موقع التل، يقول "العزو: «هناك المدافن الحلقية، وهي تشكل الكم الأكبر بين أنواع القبور المكتشفة خلال الموسم التنقيبي عام/1972/م. وهذا النوع من المقابر هو على شكل حلقات مخروطية، وهي أنواع معروفة لدى الآثاريين باسم "التومولوس"، وهذا النوع من المقابر منتشر بشكل واسع في جميع أنحاء منطقة "الرقة"، وعثر على أنواع منه على ضفتي نهر "الفرات"، ولهذا النوع من المقابر مخطط ظريف، وليس له مثيل في سورية إلاَّ في منطقة وادي حوض "الفرات" في تلال "الحبوبات"، و"الممباقة"، و"السلنكحية".

تتألف هذه القبور من حلقات حجرية كبيرة ومستديرة الشكل يصل قطرها أحياناً إلى تسعة أمتار، يحفر في وسط كل منها قبرين وأحياناً أكثر، والقبور تكون مشيدة من مادة الحجر أو اللبن، يجمع فوقها التراب وتطلى جدرانها بمادة الجص الأبيض من الداخل، وأقرب مثال على مثل هذا النوع من القبور ما يطلق عليه أهل "الرقة" خطأً بـ"تلول نايل"، وهي في الحقيقة قبور حلقية، وعددها ثلاثة قبور في حالة جيدة، ومكانها في قرية "الحمرات" بطالع "الرقة" من الشرق».

ويختتم "العزو" حديثه، قائلاً: «بعثة "تل عناب السفينة" عثرت على نماذج عدة من هذا النوع، أهمها الحلقة "د و ز" وكانت هذه الحلقات منهوبة بالكامل، وهذه الحلقات تشبه إلى حد كبير ما كشف في بلاد اليونان وإيطاليا وروسيا. وحقيقة وجود مثل هذا النوع من المقابر، يُعزى إلى التأثيرات المتبادلة بين الشرق والغرب، أو ربما يعود أيضاً إلى وجود وسكن مجموعات عرقية في المنطقة في أواخر الفترة الهلنستية وبداية الفترة الرومانية، علماً أنَّ مثل هذه العرقيات كانت متواجدة في المنطقة منذ بداية العصر الهلنستي العام».