ترقى المناطق الأثرية الواقعة على ضفاف بحيرة "الأسد" إلى الألف التاسعة قبل الميلاد، وتتركز المعطيات التاريخية في خبايا التلول المنتشرة في المنطقة، والتي كشفت عنها معاول التنقيب، كما تنتشر في هذه المناطق حضارات تلت مراحل الاستيطان البشري الأول، وصولاً إلى السويات الأثرية التي تبرز معطيات الحضارة الهلنيستية والبيزنطية والرومانية.

فقد انتشرت المدافن في المنطقة، وبعض المدافن المسيحية، وتكثر هذه المدافن في جبل "السن"، ومعظمها خضعت لحفريات سرية في الطبقات الأثرية العليا من قبل تجار الآثار، فقلبت الطبقات رأساً على عقب مقتلعةً بذلك الجدران وحتى الأرضيات.

تم العمل في أربعة مدافن منهوبة قد تعرضت للحفر السري سابقاً، ومن خلال نزح الأتربة من داخلها لوحظ بداخل أحدها هياكل عظمية، عددها سبعة، وعثرت البعثة على مجموعة خرز مختلفة الأحجام والأشكال والألوان، وأسرجة فخارية، وأدوات معدنية صدئة، وحلق معدني، وخاتم معدني، ومجموعة كسر معدنية لأساور، وأجزاء من أسرجة، وبعض الكسر الفخارية

وعن جبل "السن"، تحدث لموقع eRaqqa بتاريخ 5/1/2011 الباحث "محمد العزو"، قائلاً: «جبل "السن"، أحد المواقع الأثرية المهمة في محافظة "الرقة"، ويقع غرب "الرقة" بنحو /100/كم، ويتوضع بالقرب من تل "الممباقة"، مملكة "إيكالتا"، على الجهة اليسرى لبحيرة "الأسد"، ويقابله من الجهة الثانية جبل "عرودة"، الذي له دلالات في الذاكرة الشعبية الرقية، حيث قيل فيه:

اللقى الأثرية المكتشفة بجبل السن

حطـم قبـري بعـرودة/ وفوق رجم عالي

وبلجي الحلوة تمر من هين/ والفاتحة تقرالي.

أحد المدافن المكتشفة

وقد ازدهرت أجزاء من هذا الموقع الممتد على ضفة "الفرات" في طور أو آخر من أطوار التاريخ، وتعاقبت عليه حضارات، انتهت بالحضارة الإسلامية، حيث عٌثر على شواهد عديدة تؤكد ذلك».

وحول أشكال المدافن المستخدمة، وأعمال البعثات الأثرية منذ سبعينيات القرن العشرين، يقول "العزو": «تنتشر المدافن في منطقة وادي "الفرات" بأشكال ثلاثة، أولها المدفن الروماني ـ البيزنطي، فقد كشفت مجريات التنقيب الأثري عن بضعة قبور من الفترة العربية الإسلامية دون معرفة نوعه وتحديد تاريخه، ومباشرة بعد هذه القبور أخذت تظهر جماجم مجمعة بشكل ثنائي وثلاثي ورباعي، ثم تبين فيما بعد أنه مدفن جماعي من العهد البيزنطي، يضم مئات الهياكل العظمية، دفنت دون نظام معين ضمن صناديق من الخشب، جميعها قد تفتت بالكامل، وبعض الهياكل دفنت بدون صناديق. وكعادة قدماء البشر، عثر المنقبون مع هذه الهياكل، على مجموعة كبيرة من المصابيح الفخارية، كي يستعملها المتوفى لإنارة قبره المظلم في حياته الثانية، كانت هذه المصابيح الفخارية من النمط المسيحي، وتتصف بدقة الصنعة وعليها زخارف نافرة كالصليب مثلاً، وقد تجاوز عدد السليم منها المائة سراج، وتشير التقارير العلمية للبعثات المنقبة أنَّه يمكن ردها إلى عشرة أصناف تؤرخ ما بين القرن الرابع الميلادي والقرن السابع، كما عُثر في هذا المدفن الجماعي على أوان فخارية وكؤوس زجاجية من النوع المسيحي، مع مصباح وأساور زجاجية وأخرى معدنية، إلى جانب مجموعة من اللقى الأثرية المتنوعة، مثل الخرز الملون من أشكال وألوان مختلفة، وكذلك الأبازيم البرونزية والصلبان، وتعاويذ مألوفة، وبعضها عليها إشارة رمز القديس "سمعان العمودي"..

إطلالة من جبل السن على جبل عرودة

كانت المفاجأة الثانية هي العثور على مدفن آخر مزدوج الشكل، مشيد من الحجارة الكلسية المحلية ذات اللون الأبيض، ويتألف هذا المدفن من قسمين وخمس واجهات للدفن، كامل المدفن مبني من الحجارة المنحوتة. كانت أرضية هذا المدفن بالأصل منخفضة عن مستوى الأرض المجاورة، وجزئه العلوي كان منسوبه فوق مستوى الأرض، ويتألف المدفن من غرفتين مخصصتين للدفن ومتجاورتين، وعلى المدماك العلوي الجنوبي للمدخل مدون بعض العبارات التذكارية بطريقة الحز العميق بلغات ثلاث هي، اليونانية والسريانية والعربية.

أما الأقسام العلوية لهذه المدافن، فقد هدمت قصداً من قبل لصوص وتجار الآثار، كما أنَّ أغلب الحجارة التي تحمل زخارف نباتية هي الأخرى سُرقت، ولم يبق منها إلاَّ بعض الزخارف القليلة التي لا تمكن الدارس من أخذ أو إعطاء فكرة عن نوعية السقف الذي كان يغطي المدفن».

ويتابع "العزو" حديثه، قائلاً: «المدفن الثاني البيزنطـي، وهو أصغر حجماً من القبر الروماني ـ البيزنطي، وقد تعرضت كغيرها من المدافن الأخرى للنهب من قبل لصوص وتجار الآثار السريين. والمدافن مبنية من حجارة الفرات الكلسية الناصعة البياض، وهو على عمق يتراوح ما بين /20-60/سم، أبعاده /325×325/سم، ويتم الولوج إليه عبر دهليز واقع في الجهة الجنوبية من المدفن. وتمتد شرقاً غرباً، واحدها مبلط بمادة الأجر، ولم يبق من محتوياتها إلاَّ النزر اليسير من بعض الأسرجة الفخارية، وبعض الكسر الأخرى».

وحول النوع الثالث للمدافن، يضيف "العزو"، قائلاً: «هناك المدافن ذات الشكل الثالث، وهي المــدافن الحلقيــة، وتشكل الكم الأكبر بين أنواع القبور المكتشفة خلال موسم عام/1972/م. وهذا النوع من المقابر هو على شكل حلقات مخروطية، وهي أنواع معروفة لدى الآثاريين باسم "التومولوس TUMULUS" وهذا النوع من المقابر منتشر بشكل واسع في جميع أنحاء منطقة "الرقة"، وعثر على أنواع منه على ضفتي نهر "الفرات"، وتتألف هذه القبور من حلقات حجرية كبيرة ومستديرة الشكل يصل قطرها أحياناً إلى تسعة أمتار، يحفر في وسط كل منها قبرين وأحياناً أكثر، والقبور تكون مشيدة من مادة الحجر أو اللبن، يجمع فوقها التراب وتطلى جدرانها بمادة الجص الأبيض من الداخل، وحقيقة وجود مثل هذا النوع من المقابر، يُعزى إلى التأثيرات المتبادلة بين الشرق والغرب، أو ربما يعود أيضاً إلى وجود وسكن مجموعات عرقية في المنطقة في أواخر الفترة الهلنستية، وبداية الفترة الرومانية، علماً أنَّ مثل هذه العرقيات كانت متواجدة في المنطقة منذ بداية العصر الهلنستي».

وحول أعمال البعثة الوطنية الطارئة العاملة في منطقة جبل "السن" ومدافنه، وما عثرت عليه من لقى أثرية متنوعة، يتحدث لموقعنا السيد "محمد سرحان الأحمد"، قائلاً: «قامت دائرة آثار "الرقة" في نهاية عام /2010/م بالشخوص إلى موقع منطقة جبل "السن"، وتل "العبد" الأثري إثر إخبار أحد المواطنين بالمنطقة، وبعد الكشف على المدافن التي تعرضت سابقاً لأعمال الحفر السري من قبل لصوص الآثار، حيث قامت الدائرة بتأكيد وجود مدافن مهمة، تحتاج إلى التدخل السريع للعمل الطارئ في الموقع لإنقاذ المدافن، وتم تشكيل البعثة الوطنية التي باشرت بأعمال التنقيب الطارئة هناك.

جبل "السن" هو عبارة عن مدينة أثرية أبنيتها من الحجر الكلسي الأبيض، ولوحظ وجود خزانات مياه، وعشرات المدافن التي تعود للفترة البيزنطية، منها ما تعرض للنهب من قبل لصوص الآثار سابقاً، لكن هناك مغاور عدة، هي عبارة عن مدافن جماعية لم تفتح بعد، وتحتاج إلى أعمال تنقيب بعثة وطنية دائمة بالمنطقة المذكورة، نظراً لأهمية المدافن ووجود آبار وغرف سكنية».

ويتابع "الأحمد"، قائلاً: «تم العمل في أربعة مدافن منهوبة قد تعرضت للحفر السري سابقاً، ومن خلال نزح الأتربة من داخلها لوحظ بداخل أحدها هياكل عظمية، عددها سبعة، وعثرت البعثة على مجموعة خرز مختلفة الأحجام والأشكال والألوان، وأسرجة فخارية، وأدوات معدنية صدئة، وحلق معدني، وخاتم معدني، ومجموعة كسر معدنية لأساور، وأجزاء من أسرجة، وبعض الكسر الفخارية».

وحول المنطقة الحراجية المجاورة لجبل "السن، يقول الأحمد": «يوجد عشرات المدافن على طار الجبل، وضمن منطقة الحراج، وتحتاج إلى عمل موسمي مستمر للكشف عن كل المدافن، وما تحتويه من لقى أثرية هامة تعود لذات الفترة البيزنطية، وان توزع المدافن على طار جبل "السن"، يدل على أن المنطقة تعود لمراكز سكن حضارات متعاقبة في المنطقة ولعصور ما قبل التاريخ، وإن أهمية الموقع ترجع لقربه من موقعي تل "العبد" وتل "الممباقة" الأثريين اللذان يعودان إلى الألف الثاني والثالث قبل الميلاد».

وحول مقترحاته للحفاظ على الموقع، يقول "الأحمد": «لابد من تعيين حارسين لمنطقة جبل "السن"، وتل "العبد" الأثري، لأن تل "العبد" عندما تنحسر عنه مياه البحيرة، تظهر التوابيت الفخارية، ويمكن الوصول إليها بسهولة مما يشجع لصوص الآثار بالتعدي على هذه المواقع مستقبلاً، وأيضاً لابد من تخصيص الموقع ببعثة وطنية دائمة تعمل بشكل موسمي أسوة بالبعثات الوطنية العاملة بالمحافظة، مثل "سورا"، وموقع "خرائب بني سيار"».

وفي حديث هاتفي مع المواطن "ثابت العلي"، من أهالي قرية "زريجية شمس الدين"، المجاورة لجبل "السن"، قال: «منطقتنا غنية بالآثار، ونتيجة لذلك نشهد يومياً توافد أناس غرباء إليها، حيث تتركز حفرياتهم السرية في موقع تل "العبد" المجاور لقريتنا، ولكن هذه المرة طالت معاولهم لتنال من المدافن والمغاور الموجودة في جبل "السن"، الذي لا يبتعد كثيراً عن بيتي، وقد منعناهم أكثر من مرة، ولكن في أحد الأيام استيقظنا لنرى آثار المعاول في أماكن عدّة، وقد قمت بالاتصال مع مديرية آثار "الرقة"، وأخبرتهم بموضوع سارقي الآثار، وأبلغوني بتشديد المراقبة ريثما يتم تشكيل البعثة الطارئة، ووعدوني بالعمل معهم، وبالفعل شاركت في أعمال البعثة الأثرية، وأنا سعيد جداً بهذه المشاركة، وبأنني ساهمت بالإخبار عن اللصوص، الذين يحاولون سرقة تاريخ الوطن وبيعه لتجار الآثار».