تحدث في الماضي البعيد الكاتب "بروكوبيوس"، من "القيصرية"، كاتب بلاط القيصر "جوستنيان" في كتاب "تاريخ نشوء المدن"، واصفاً كنيسة مكرسة للقديس الشهير "سركيس"، والبعض الآخر يسميه "سرجيوس"، بقوله: «.. توجد في منطقة "الفرات" كنيسة مكرسة للقديس الشهير "سركيس"، والسكان الأقدمون سموا هذا المكان توقيراً وخشوعاً وأحاطوه بتحصين بسيط.. وفيما بعد أصبح هذا البناء المقدس غنياً بالهبات الغالية الثمينة وموضع إعجاب عام.

وقد أخذ القيصر "جوستنيان" هذا الأمر بعين الاعتبار وأولاه على الفور اهتمامه: فأحاط المكان بسور منيع منعةً فائقة، وبنى خزانات للماء تفيض عن حاجة السكان. وشيد بالإضافة إلى هذا بيوتاً وقاعات استقبال وأبنية أخرى مما يزين عادة المدينة. ووضع هناك وحدة عسكرية بجانب السور المغلق عند الضرورة».

.. هناك وحدة من الفرسان المحليين داخل القلعة التي كانت لا تزال بسيطة آنذاك

بهذه الكلمات البسيطة والهادئة حدد "بروكوبيوس" تاريخ نشوء مدينة "الرصافة"، "سرجيو بوليس"، وشكلها على "الفرات" في الشمال الشرقي من سورية بالقرب من "الرقة"، وهذه المدينة هي نفسها التي ورد ذكرها عند الآشوريين "ر.ص.ف"، في القرن التاسع قبل الميلاد، ومع ذلك ليس هناك من دلائل أركيولوجية لمثل هذه المستوطنة الراجعة إلى تلك الفترة المبكرة، وبهذا نستطيع القول إننا لا نقف على أرضية تاريخية ثابتة إلاّ في أواخر عصر الأوائل، ففي هذا العصر تنال "الرصافة" أهمية إستراتيجية كبيرة، كونها كانت تشكل حصنناً منيعاً، تقف عند حدود الإمبراطورية الرومانية لدرء "الفرس" و"البارثيين".

كنيسة القديس سرجيوس

في هذا المكان القابع في بادية مترامية الأطراف، والماء بعيد عنه مسافة مسير يوم كامل، كانت تقيم فيه وحدة من الفرسان المحليين، وهم على الأغلب من العرب "الغساسنة"، داخل أسوار المدينة، أما الباحث الأثري "تيلو أولبرت" فيقول: «.. هناك وحدة من الفرسان المحليين داخل القلعة التي كانت لا تزال بسيطة آنذاك». "الآثار السورية"، "مؤسسة البريد الدولي للصحافة والنشر"، دار"فورفيرتس"، "فيينا" النمسا، /1985/م، ص /373/.

وهو بذلك يطلق على مدينة مسوّرة أبعادها /450×430/م اسم القلعة، ومهما يكن الأمر، فهذه القلعة بدءاً من بداية القرن الرابع الميلادي، وهو الزمن الذي استشهد فيه ضابط سوري يخدم في وحدة الفرسان القيصرية، التابعة للإمبراطورية الرومانية، أصبحت معروفة أكثر فأكثر. كان قبر هذا القديس يقع خارج أسوار المدينة، وكانت المدينة محاطة بمضارب البدو الذين كانوا يعتنقون الديانة المسيحية، ولما كان قبر هذا القديس يقع وسط برية وفي مكان مفتوح، فقد تحوّل هذا القبر إلى مزار مشهور في كل منطقة البحر الأبيض المتوسط. ويعتقد السيد "تيلو أولبرت" أنّ هذا المزار دخل ضمن سجل الزيارات الدينية آنذاك بقوله: «.. إلاّ أنه يبدو أنّ زيارة قبر "سركيس" قد دخلت غالباً في عداد برنامج رحلات الحج إلى بلاد الشام.»، المصدر السابق.

الكنيسة الكبرى (البازليكا)

لقد نشأت في "الرصافة" كنائس ومنازل فاخرة، وأصبحت المدينة غنية، وتحولت إلى مركز أسقفية، أي مدينة "متروبوليتية". وبفضل توافد الحجاج إليها تطور وضع المدينة نحو الأفضل، إذ توسعت أسواقها إلى خارج الأسوار في العراء الطلق، وهذا ما أغرى الفرس المجاورين بغزوها، مما دعا القيصر الروماني بتدعيمها بتقوية أسوارها، وزيادة عدد العسس فيها.

ومع الفتح العربي الإسلامي لمدينة "الرصافة"، التي كانت مزاراً دينياً ومقر حاكم، في القرن السابع الميلادي، شهدت المدينة فترة ازدهار عظيم، إذ أنها أصبحت في ظل حكم الخليفة "هشام بن عبد الملك" مدينة مقر الخلافة آنذاك. وشيد الخليفة الأموي قصوراً كثيرة حول المدينة المسيحية تقدر مساحة هذه القصور بحوالي /2000×2000/م2، كما وأنه قام بترميم أسوارها، وكنائسها، وخزانات المياه، وشيد بملاصقة الجدار الشمالي لـ"بازليكا" القديس "سركيس" مسجداً جامعاً، ومن هنا نستشف أنّ ما حدث في "دمشق" إبان حكم "الوليد بن عبد الملك"، عندما شيد المسجد الأموي، وبجانبه كنيسة، حدث أيضاً هنا في "الرصافة"، حيث تميزت هذه المدينة في القرون الوسطى بالتعايش السلمي بين المسحية والإسلام، وهذا ما يشهده وطننا العزيز سورية الحبيبة في أيامنا هذه.

جانب من آثار الرصافة

المراجع:

1ـ "الآثار السورية"، طبع "مؤسسة البريد الدولي للصحافة والنشر"، ودار "فور فرتس" للطباعة، "فيينا"، النمسا، /1985/.

2ـ الأب "سهيل قاشا"، "أثر الكتابات البابلية"، الناشر "بيسان"، ط: /1998/م، "بيروت"، لبنان.