الدُباسي "جمع دبسي" بفتح الدال أو بضمها، وهو طائر فراتي صغير الحجم، له تغريد جميل منسوب إلى دبس الرطب، ولونه يشبه لون ثمرة الرطب، وهذا الطير هو من فئة الحمام البري، ومنه العراقي والحجازي والمصري الذي له لون داكن. وقال الجاحظ: يقال في الحمام الوحشي من القماري والفواخت، وما أشبه ذلك "دباسي", ديوان "الصنوبري"، "دار صادر"، ص /55/، "بيروت" /1998/م..

تقع قريتي "دبسي الفرج" و"دبسي عفنان" على بعد /90/ كم غرب مدينة "الرقة"، وفيما مضى كانت الطريق المعبدة القديمة الواصلة بين مدينتي "حلب" و"الرقة" تمر بالقرب منهما، فالدبسي التي فضل السيد "ريتشارد هاربر" المنقب الأثري نعتها, بـ"دبسي الفرج"، كانت تقبع فوق قمة مرتفعة بالقرب من أطلال "أتيس" الرومانية، وهي المدينة السالفة لبلدة، أو قرية "دبسي الفرج" الحالية، كونها ملاصقة لها تماماً، وإلى الشرق منها قليلاً تقع قرية "دبسي عفنان"، وكلا القريتين أو البلدتين تحملان اسماً لعائلات محلية كان لها دور وطني، إبان الاحتلال الأجنبي لسورية.

بعد تشكل بحيرة "سد الفرات"، غمرت المياه قريتيْ "الدبسي"، حيث انتقل السكان إلى موقع جديد يبعد /9/ كم عن المكان القديم جنوباً. واليوم كلا القريتين تقعان على جانبي الطريق الجديدة الواصلة بين مدينتي "حلب" و"الرقة"، والمسافة بينهما فقط /7/ كم.

مخطط الدبسي

في عام /1972/م، وتلبية للنداء الذي أصدرته حكومة الجمهورية العربية السورية لإنقاذ آثار حوض "الفرات"، استجابت لهذا النداء تسع بعثات أثرية، حيث قامت بعثة أثرية أمريكية من "دومبارتون اوكس" وجامعة "ميشيغان" بأعمال التنقيب الأثري المنهجي في موقع "الدبسي".

شمل التنقيب جزءاً كبيراً من سور المدينة، وهو من القرن الثالث الميلادي، كما شمل منشآت مدنية (رومانية وبيزنطية وإسلامية)، وبعض المنشآت المعمارية الواقعة خارج سور المدينة. تقع قرية أو بلدة "دبسي الفرج" على الضفة الجنوبية لنهر "الفرات" على ارتفاع /295/م فوق سطح البحر، وهي تتربع فوق بروز، يشرف مباشرة على أحد مجاري "الفرات" القديمة. وهذا البروز يتكون من كتل كبيرة من الصخر الكلسي، تتوضع فوقها طبقة كتيمة وقوية من الصخر الرسوبي المعروف عالمياً بـ"الكونغلوميرا"، وتكتنف هذه الكتل بعض المجروفات الصوانية تتخللها الكثير من الشعاب الفراتية القديمة.

بدت المعالم الأولية لهذا الموقع، تظهر على شكل قلعة، وإلى الجنوب منها توجد بلدة قديمة محاطة بخندق زالت أغلب معالمه، وإلى الغرب من هذه القلعة توجد مقبرة حديثة نسبياً. يلاحظ للوهلة الأولى أنَّ هناك ثمة بيوت قروية جاثمة فوق القلعة القديمة، ومن خلال التقسيمات الفنية الطبوغرافية للموقع، أمكن التعرف على الحالة المعمارية للموقع في العصرين الروماني والبيزنطي.

ففي القطاع الأول وجدت بقايا وآثار معمارية من الفترتين الرومانية والبيزنطية مثل الجدران والأقواس، وبعض أبراج سور المدينة، وصهاريج المياه والتمديدات الصحية القديمة، كما أنه تم العثور على غرف مفروشة بحصائر الفسيفساء بعضها متآكل، وتم التعرف أيضاً على طرق التدفئة المركزية بطريقة الـ"هيبوكوست" المحمول على أساطين أعمدة من مادة القرميد في القطاعين الثاني والثالث من الموقع، وهذه الطريقة كانت شائعة في جميع أنحاء سورية القديمة، وظلت مستعملة حتى نهاية الفترة العربية الإسلامية، وقد ظهر مثيل لها في أغلب المواقع الأثرية من الفترات الرومانية والبيزنطية السورية، مثل موقع "الأندرين" القرن السادس الميلادي.

ومن الفترة العربية الإسلامية وجد لها مثيل في موقع "خراب سيار" بالقرب من "تل خويرة"، شمال شرق مدينة "الرقة" /130/ كم. كما ظهرت مجموعة من أبراج سور المدينة القديمة وجزء من السور نفسه، إلى جانب بقايا بيوت سكنية من القرن الثاني حتى القرن السابع الميلادي. وفي القطاع الثالث تم التعرف على حمام روماني، تبين أنه ظل مستخدماً حتى العصر الإسلامي، وعثر في داخل هذا الحمام على أرضية فسيفساء عليها صورة "الربة هيجيا"، ربة الصحة، وعُثر على آثار من مختلف العهود الرومانية والبيزنطية والعربية, تتضمن مجموعة من اللقى الخزفية والفخارية والمعدنية، وفي القطاعات المتبقية عثر على بقايا آثار معمارية من العهود الثلاثة العربية والبيزنطية والرومانية, أهمها أبراج دفاعية تعود لعهد الإمبراطور "جوستنيان".

وفي داخل القلعة وجدت منشآت معمارية أقدمها من الفترة الرومانية، وبعض الكتل الحجرية عليها كتابات أسماء جنود رومان مثل "لوسيوس كريسبوس"، و"يوليوس جرمانوس". وظهرت في القطاع الأخير منشآت دفاعية من القرنين الثالث والرابع الميلاديين، وبالقرب منها عثر على بقايا معمارية لكنيسة من نمط البازليك من أخر القرن الرابع الميلادي، ولهذه الكنيسة أبعاد طولانية /45×24/م، يمتد جناحها الرئيسي نحو الغرب، ويحيط بها رواقان معمَّدان، ولها أرضية من الفسيفساء.

وعثرت البعثة المنقبة على لوحة من الفسيفساء تسد أحد أبواب هذه الكنيسة، وعليها تاريخ سلوقي مؤرخة بعام /764/، الموافق لـ/ 452/م، وفي أحد المواسم اللاحقة عثر المنقبون على لوحة من الفسيفساء، تتوضع فوق سوية هي أخفض من السويات التي وجدت، مبلطة بفسيفساء أخرى عام /1972/م. وكانت هذه اللوحة مزينة بمشهد أسد يهاجم غزالاً وبعض الحيوانات والطيور الأخرى، وقد سميت هذه اللوحة المهاجم (Qoupos)، كما عثر المنقبون على كمية من النقود الرومانية والبيزنطية والعربية، ومجموعة طيبة من الزجاج والفخار والعظم المزخرف وبعض المصنوعات الأخرى.

النظام الدفاعي في موقع مدينة "آتيس" الرومانية، كانت "دبسي الفرج"، "آتيس" الرومانية"، ذات أهمية عسكرية واقتصادية لاسيما في الفترتين اللتين قام فيهما كل من الإمبراطورين "ديوقليسيان" و"جوستنيان"، بتحصين المدن والنقاط العسكرية الواقعة على "الفرات", ففي "دبسي الفرج" تم كشف أربعة أبواب للمدينة، على جانبي كل باب يوجد برجان، وكان الباب الرئيس من جهة الجنوب، أما الأبواب الثلاثة الأخرى الباقية، فكانت تقع ضمن الجدار الشمالي الشرقي، وأنَّ كل الأبواب الأربعة تعود في بنائها إلى المرحلة الأولى, أما برجا الباب الرئيسي فقد بنيا من مادة القرميد، وهي في شكلها النهائي تشبه إلى حد بعيد بوابة "حلبية" على "الفرات" الأدنى التي شيدت في عهد الإمبراطور "جوستنيان". كانت الأبواب الشمالية الثلاثة في توضعها, مرتبطة بمخطط الشوارع الذي تقع عليه الأبنية الرئيسة، وهذا المخطط يتحاشى الأبنية القديمة, والبيوت المشيدة في الحقول الأخرى.

كانت الأبراج التي تتكأ على سور المدينة لها أشكال مختلفة، وقد خضعت هي الأخرى لتغيرات هامة خاصة في عهد "ديوقليسيان"، حيث تحولت بعض الأبراج قي عهده إلى أشكال سداسية إلى جانب الأبراج المربعة الشكل، والأبراج ذات الشكل الخماسي..

كانت "دبسي الفرج"، "آتيس" الرومانية مزوَّدة بنظام دفاعي قوي ومتين، إلى جانب أنَّ جغرافية المنطقة كانت تشكل حالة دفاع طبيعية، وكان للمدينة امتداد آخر، لكن لم يكن الزمن كافياً لإجراء تنقيبات أثرية واسعة, وفي الضواحي القريبة من "الدبسي" قامت البعثة الأثرية المنقبة في الموقع, بإجراء حفريات طارئه في منطقة الوادي الكبير الواقع شرقي القرية, إذ أنه تم العثور على آثار قناة, كانت أرضيتها وجدرانها مكسوة بمادة الجص المأخوذ من المقالع الجصية المحلية, مما يؤكد ويدل على أنَّ هذا الوادي كان في الماضي قناة كبيرة للري.

كما أنّ أعمال المسح الأثري للمنطقة المحيطة بـ"دبسي الفرج", أكدت وجود مواقع تعود إلى عصر ما قبل التاريخ, وفي المنطقة الواقعة غربي "الدبسي", وجدت آثار ولقى تعود إلى العصر الحجري القديم على جانب ضفة الوادي المسمى بوادي "الصفا", ونستطيع أن نجمل تاريخ موقع "الدبسي"، "تابيسي" أو "آتيس" الرومانية, وذلك حسب الشواهد والظواهر الأثرية التي تم التنقيب فيها من القرن الرابع قبل الميلاد، ولغاية القرن الثالث عشر الميلادي, وهي الفترة التي تم فيها تدمير أغلب المدن السورية من قبل المغول الغزاة.