يقع "تل حبوبة" كبيرة، و"حبوبة" صغيرة على الضفة اليمنى لنهر الفرات, وإلى الجنوب الشرقي من قمة جبل "عرودة"، قبالة "تل الممباقة" على الضفة اليسرى لنهر الفرات.. تم التنقيب في هذا الموقع منذ نهاية ستينيات القرن الماضي من قبل بعثة ألمانية برئاسة السيدة الفاضلة والعالمة المرموقة "إيفا شترومنغر", وبعد تشكل بحيرة "سد الفرات" (بحيرة الأسد) غمرت المياه كامل الموقع..

وتعتبر مدينة "حبوبة كبيرة" التي تم الكشف عنها, من المدن ذات المساحة الضيقة نسبياً, إذ يبلغ عرضها بحدود /160/ إلى /180/م، من الشرق إلى الغرب, وطولها بحدود واحد كم تقريباً, وبذلك يكون امتداد المدينة يباري الحافة الشرقية لهضبة وادي حوض الفرات طولانياً.

.. والمكتشف في "تل قناص" الذي أصبح بعد اكتشافنا للسور جزءاً من مدينة "حبوبة" كبيرة

إنّ أهم الظواهر في هذا الموقع هو منطقة المعبد والمباني الحكومية "الإدارية", الواقعة في مركز المدينة تقريباً.

ختم اسطواني

تتألف هضبة حوض وادي "الفرات" من عدد من الجروف والوديان العميقة, ومن خلال عمليات الرصد والاستكشاف التي قامت بها البعثة الأثرية المنقبة في نهاية ستينيات وبداية سبعينيات القرن الماضي, لوحظ وجود طرق في الأودية الجافة تصعد من شاطئ "الفرات" باتجاه المدينة, ويكون الطريق الصاعد من الوادي الشمالي هو صلة الوصل بين شاطئ "الفرات"، والمنطقة الشمالية من المدينة, كما أنّ الطريق الصاعد من الوادي في جهته الجنوبية يرتبط بجنوب المدينة ويتصل بالشارع الذي يوصل إلى بوابة المدينة الوحيدة.

وبشكل عام فإنّ جميع الشوارع في المدينة مرصوفة بالحصى الحجرية الصغيرة, واتجاهاتها تتواءم مع سير نهر الفرات واتجاه سير سور المدينة أيضاً. وسور المدينة مشيد من مادة اللبن المجفف تحت أشعة الشمس، من القطع ذات الحجم الكبير, تبلغ سماكته بحدود /3,40/م, وهو معزز بأبراج على مسافات منتظمة لها أشكال مستطيلة، وفي داخلها غرف صغيرة, عُثر فيها على أوانٍ وأدوات منزلية مصنوعة من الفخار، وتشير الرسومات الهندسية للسور والمباني الإدارية أنّ سور المدينة في الجهة الشمالية ينطلق من منحدر هضبة وادي "الفرات" في الشرق, ليتجه باستقامة واحدة باتجاه الغرب, وبعد أن يقطع مسافة /140/م ينكسر بزاوية حادة ليتجه جنوباً، ويظل مستمراً حتى مشارف "تل قناص" المجاور للموقع, حيث تضيع معالمه الأثرية بشكل تدريجي.

الممباقة ويبدو قبالته جبل عرودة

وبالعودة إلى الأبراج التي تعزز سور المدينة, نجد أنّ واجهاتها الخارجية مزودة بمحاريب صماء وضيفتها تزيينية فقط. وعلى مسافة معينة من السور الرئيسي من الجهة الخارجية نجد سوراً آخر تبلغ سماكته /70/سم، ومشيد من أحجار اللبن المجفف الصغيرة، ذات الشكل المستطيل..

كانت مدينة "حبوبة" الكبيرة التي يعود تاريخها إلى النصف الثاني من الألف الرابع قبل الميلاد, مزوّدة بشبكة تصريف تم التعرف على بقايا هذه الشبكة من خلال مجاري تصريف المياه القادمة من شبكة المدينة، مخترقةً الأسوار لتصب في الأودية المجاورة للمدينة.. أما البوابة الوحيدة التي مرّ ذكرها سابقاً, حيث تقول السيدة "إيفا شترومنغر" في تقريرها الأثري المقتضب عن حفريات عام/1975/م: «.. تقع بوابة المدينة الوحيدة حتى الآن على بعد /400/م, وبعد البرج الحادي والعشرين من الزاوية الشمالية الغربية للسور».

مقابر رومانية

وتكون واجهة البوابة محصورة بين برجين جانبيين, يعلو المدخل فيها محاريب تزيينية صماء, ويبدو أنّ هذه المحاريب التزيينية الصماء ما هي إلاّ نوع من الإشارة إلى منطقة المعبد الرئيسي للمدينة: «.. والمكتشف في "تل قناص" الذي أصبح بعد اكتشافنا للسور جزءاً من مدينة "حبوبة" كبيرة».

كما ويشاهد وجود هذه المحاريب الصماء على جدران المنشآت المعمارية الواقعة على جانبي الشارع القادم من الوادي الجنوبي، مخترقاً كامل المدينة، ومنتهياً عند البوابة الرئيسة والوحيدة, وباحتمال أنّ هذه الواجهة كانت هي الحد الفاصل بين القطاع الديني المقدس والمدني العادي.

أما السور الثانوي الصغير فيواصل سيره باتجاه الجنوب ليحد منطقة أخرى من المدينة, وربما تكون منطقة توسعية تابعة للمدينة. وتذكر السيدة "شترومنغر" أنّ معالم هذا السور الثانوي اختفت كلياً بسبب وجود مقبرة من العصر "الروماني"، تم العثور عليها في أقصى الجنوب. وعند نقطة اختفاء معالم السور الثانوي في أقصى الجنوب, نفذت البعثة أسبار أخرى أسفرت عن وجود معالم وبقايا معمارية سكنية, هي من نفس النمط المعماري الذي ظهر في قلب المدينة.

النمط المعماري: تزدحم مدينة "حبوبة" كبيرة بالمباني والمنشآت المعمارية، وتخترقها مجموعة من الشوارع الموجهة من الشرق إلى الغرب, ومن الشمال إلى الجنوب, وتتميز البيوت السكنية فيها بحجمومها الكبيرة نسبياً, وهي مشيدة من مادة اللبن المجفف على أشعة الشمس ذو الشكل المستطيل والحجم الصغير, وبالتدقيق في الشكل المعماري تبين وجود مخططين نموذجيين رئيسيين, أولهما يتكون من قاعة متوسطة ذات شكل مستطيل, وعلى جانب ضلعيها الطولانيين تتمحور حجرتان بنفس العرض، كما تم الكشف عن بيوت ذات مخطط ثلاثي التقسيم على هيئة حرف (T) وفي أغلب أرضيات القاعات المتوسطة يوجد موقد للنار..

إنّ مثل هذه المخططات التي تعتمد على البيت لثلاث مساحات معروفة في المدن السومرية ولاسيما في "أوروك", حتى أنّ المعبد الذي تم العثور عليه في "تل قناص" يعتمد على مثل هذا المخطط.. ومن المعروف أنّ أغلب العلماء يؤكدون على أنّ مخطط المعابد السومرية مستمدة أصلاً من مخططات البيوت السكنية.

أماّ النموذج الثاني لمخططات بيوت "حبوبة" السكنية, فهي تتألف من باحة سماوية واسعة المساحة, وترتصف على ضلعيها أو على ثلاثة من أضلاعها غرف عريضة، وهذه الغرف هي الأخرى مزوّدة بمواقد، وكما هو الحال في النموذج الأول.

اللقى الفخارية والأثرية: عَثر المنقبون في أحد غرفتيْ بوابة المدينة على مخزن للأسلحة, في جرة فخارية في نفس المكان مغروسة في أرضية الغرفة، وجد المئات من الحجر المقدس على شكل كرات طينية بيضوية الشكل تستعمل للرمي في المقلاع. وعَثر المنقبون أيضاً على كميات طيبة من الأواني الفخارية الكاملة من النوع (السومري والعيلامي) القديم, التي عثر على أنواع منها في كل من "أوروك" و"سوزة " في العراق القديم,

وتشتمل هذه الأواني على أنواع مختلفة, فمنها القناني المزوّدة بمصبات أفقية وطويلة, والجرار ذوات الآذان الأربعة، وبعضها مصبوغة باللون الأحمر, وهناك أوان عليها حزوز أفقية على الكتف.

كما عَثر المنقبون على أوانٍ مصنوعة من الحجر، وهذا النوع من الأواني كثر إنتاجه في تلك الفترة ودليل عملي على المستوى الطيب الذي وصل فن النحت الحجري. كما أنّ أعمال التنقيب الأثري زوّدت المنقبين بلقى عديدة أخرى أهمها, الأختام الاسطوانية التي كثر صنعها اعتباراً من فترة "آ" عصر الطبقات /6ـ4/ في "الوركاء", حيث طرأ تطور ملموس على صناعة الأختام الاسطوانية, والختم الأسطواني هو عبارة عن أسطوانة حجرية جعل الفنان النحات من سطحها مجالاً لعمله, وهذا السطح الاسطواني يوفر مساحة للنقش أوسع من الختم المنبسط.

وبعد انتهاء النحات من عمله تبدو الصورة فيه عبارة عن شريط نهايته مثل بدايته, وحين يضغط به على الطين ينتج إفريزاً متصلاً, والختم الأسطواني هو ابتكار في غاية الأهمية, ويظل الختم الأسطواني الطابع المميز للحضارة السومرية بالتوازي مع اختراع الكتابة المسمارية.

وبالعودة إلى الأختام الأسطوانية التي تم العثور عليها في "حبوبة كبيرة", نجدها من النوع الذي نقشت عليه موضوعات محلية محورة عن الواقع مثل الثيران التي تستعمل لحراثة الأرض, وبعضها تحمل صوراً لشخوص في حالة القرفصاء وسنابل القمح وصور بعض الحيوانات الأليفة..

ومن المكتشفات الجديدة كلياً عثر المنقبون على تعويذتين من مادة حجر "الالباتر" الأخضر تمثلان أسداً رابضاً وثوراً جالساً، وكل واحدة مزوّدة بثقب لمرور خيط التعليق لحامليهما, وهذا النوع من التعاويذ كثر صنعه واستعماله في تلك الفترة الزمنية، وقد عثر على مثيلٍ لها في مكتشفات معبد "العيون" في تل "براك", وكذلك في مكتشفات تل "حمو كار" في الأعوام /1999/ و/2000م/.