تتمتع المنطقة الواقعة إلى الشمال من مدينة "الرقة" بأهمية خاصة، كونها تضم مجموعة من الهضاب والتبات في منطقة "الشنينة"، على الضفة اليمنى لنهر البليخ، وقد أثبتت الدراسات العلمية والأثرية، أنه منذ أكثر من /350000/ سنة خلت، قامت في هذه المنطقة، وفي منطقة "القلمون" بالقرب من "دمشق" ثقافة تميزت بتقنية الأدوات المصنوعة من الشظايا، بالإضافة إلى صناعة الفؤوس الحجرية النادرة.

وهذه الثقافة أعقبت الثقافة الآشولية، حصراً في المشرق العربي، وقد أطلق عليها اسمي الثقافة "الشنينية" و"اليبرودية" نسبة إلى منطقة "يبرود" في جبال "القلمون" بالقرب من "دمشق"، حيث تكثر المغاور والكهوف التي سكنها إنسان العصر الحجري القديم.

إنّ تلك الصناعات تميزت بكثرة الأدوات من الشظايا، ولا سيما تلك التي يسميها علماء الآثار بـ"المكاشط" السميكة، وأحياناً تبدو هذه الأدوات منحرفة الشكل، ولها رتوش خاصة تبدو على شكل درج. ومن هذه الصناعات أيضاً الفؤوس الحجرية النادرة، وهذه الفؤوس تختلف نسبياً في تقنيتها في أماكن صناعتها في كل من: منطقة "الشنينة" على "البليخ" في منطقة "الرقة"، وفي "الكوم" عند الحدود الإدارية بين محافظتي "حمص" و"الرقة" على بعد/90/كم. بيد أنّ الفؤوس اليبرودية قد نتجت عن تطور النموذج الآشولي ذو الشكل أو السحنة "ب".

كهوف السويدية

في منطقة "الكوم" عدد كبير من المواقع، التي عثر فيها على نماذج من الصناعات اليبرودية، و"الشنينية" على"البليخ" في العراء الطلق، بينما نجد في مناطق مختلفة من الشرق الأدنى القديم، أنه مثل هذه الصناعات عرفت بشكل خاص في داخل الكهوف أو تحت المغاور..

وعلى الرغم من أنّ الثقافة "الشنينية" على "البليخ" بالقرب من "الرقة"، والثقافة "اليبرودية" سواءً تلك التي عُثر في كهوف "يبرود" أو في منطقة "الكوم"، تشبه بعض الصناعات الأوربية التي تعود إلى نهاية "الباليوليت" القديم "الميكوكي"، أو العائدة إلى زمن "الباليوليت" الأوسط "الموستيري" المتمثل بنموذج "كينا"، إلاّ أنها تعود إلى زمن أقدم في منطقة الشرق الأدنى لأنها تعاصر آخر العصر الآشولي.. لقد أثبت البحث العلمي الخاص بهذه الثقافة "اليبرودية" و"الشنينية"، التي تم الكشف عنها في كل من منطقة "الكوم" و"شنينة" على "البليخ" بالقرب من "الرقة"، هناك تشابه ملحوظ بينها، وبين الثقافات الأوربية الأكثر حداثة من تلك الثقافات، وهذه تقود إلى احتمال هجرة شعوب من منطقة "الكوم" عبر "الفرات"، أو احتمال هجرة لشعوب من منطقة الشرق الأوسط نحو أوروبا الشرقية، وحوض الدانوب الأوسط والأعلى بحدود المأتي ألف سنة ق.م.

جانب آخر من كهوف السويدية

أما ثقافة "الباليوليت القديم الأدنى"، فقد أطلق عليها إسم الثقافة "الآشولية"، أو ثقافة "تقنية الفأس اليدوي"، فقد بدأت من مليون سنة إلى/250000/سنة مضت، ومع بداية الإستيطانات الكبيرة التي جاءت في بداية الزمن الآشولي المبكر، وفي هذا الزمن الموغل في القدم ظهرت صناعات تميزت بأداة على شكل فأس ذات وجهين حادين صنعت من الحجر الصواني.. وهذه الصناعة التي عرفت في أفريقيا، قد طورت في منطقة الشرق الأدنى، وقد عُرف لها مثيل في أوروبا الغربية أيضاً.. ومع مسيرة تطور مثل هذه الصناعات، يلاحظ تطور ملموس على هذه الفؤوس في منطقة "الكوم"، حيث عثر في أقدم السويات الموجودة في أنحاء من سورية، على فؤوس كبيرة وضخمة، ذات تقنية خاصة اتصفت بأنها دائماً مطروقة في طرفها الحاد، بواسطة مطرقة حجرية ضخمة..

كما عثر المنقبون على فؤوس حجرية متطاولة، ومطروقة بواسطة مدقات حجرية ضخمة بعدة ضربات، نتج عن ذلك شكلين مختلفين الأول على شكل حربة سمكة، والثاني يبدو على شكل معول ثلاثي السطوح، وهذه الفؤوس تشبه إلى حد ما فؤوس موقع "اللطامنة" في وادي حوض "العاصي"، ويقدر عمر هذه الصناعة بحدود /700 أو800/ ألف سنة من الآن..

وفي منطقة "الكوم" عُثر على نموذج آخر من الفؤوس مطروقة طرقاً جيداً، بواسطة مدقات حجرية، ولكن بعناية جيدة وأكثر دقة من مثيلاتها في المراحل السابقة.

تميز عصر "الباليوليت الأوسط" نحو/170000/ ق.م، بصناعة ذات تقنية تسمى التقنية "اللفلوازية"، وتتميز هذه الصناعة بإتقان الأدوات المطروقة على شظايا كبيرة، إذ أنها تبدو رفيعة بشكل واضح وجلي، كما أنه ظهرت في هذا العصر الحراب والمكاشط.. ومثل هذه المواقع التي تعود لتلك الفترة، وجد لها بقايا بكثرة في منطقة "الكوم"، وبشكل أقل في منطقة "الشنينة" في "الرقة" على "البليخ".. والفترة الأخيرة من هذا العصر تسمى بـ"موستيري الشرق"، وهذا العصر، من خلال صناعاته، يدل على الاستيطان الحقيقي الأول للأرض من قبل شعوب "الباليوليت"..

وأخيراً نشير إلى أنّ آخر العصور التي عرفتهما البشرية، قبل ارتفاع درجة حرارة الأرض، وخروج الإنسان من الكهوف، واكتشافه للزراعة، هم عصري "الباليوزليت الأعلى" و"الباليوليت الأخير"، ويعود تاريخهما من/45000/ إلى/10000/سنة من الآن، وفي هذين العصرين عاش الصيادون واللاقطون، وفي نهاية عصر "الباليوليت" الأخير بدأ الأوائل يمارسون الزراعة، وتدجين الحيوان وظهور المزارعين الأوائل وظهور الحضارات الكبيرة، المتمثلة بالمدن الكبرى.

لقد كان الماء هو الأساس في جذب الإنسان والحيوان معاً، وقبل الاستقرار المديني كانت المناطق التي تكثر فيها المياه، كالأنهار والينابيع، تعد أمكنة ملائمة للصيد، وكون هذه الأمكنة ذات حرارة معتدلة في ذلك الزمن السحيق، فإنها كانت الموطن الأول الذي عاش عليه الإنسان القديم قبل مليون سنة على الأقل من الآن.

المراجع:

1ـ حضارة الفرات الأوسط والبليخ، تأليف "محمد العزو"، "دمشق" دار "الينابيع" للطباعة والنشر والتوزيع، عام /2009/.