تشغل "البادية" /55%/ من مساحة سورية، وهي في "الرقة" تصل إلى حدود ما نسبته /60/ من مساحتها الكلية، وينحصر النشاط البشري لسكان "البادية" في الرعي وتربية المواشي، والعمل في القليل من المشاريع الزراعية المرخصة على الآبار الارتوازية، ونتيجة اعتماد معظم سكان "البادية" على التنقل بحثاً عن الكلأ ومساقط المياه، تطلّب أن تكون هناك مدارس متنقلة تقوم بتعليم أبنائهم.

والمدارس المتنقلّة لم تكن ضمن مستوى الطموح، فهي تتنقل مع سكان "البادية" الرحل أينما حلّوا، ولا تؤدي في معظم الأحيان الغاية المرجوة منها، مما حدا بالقائمين على العملية التربوية التفكير بشكل جدي لإيجاد حل لمشكلة تعليم أبناء "البادية"، فنفذت وزارة التربية إحدى أهم مشاريعها الإستراتيجية، ألا وهي مدارس "أبناء البادية الداخلية"، التي تحتضن أبناء "البادية" في مدارس نموذجية، تؤمن فيها التعليم والمبيت والطعام والملبس مجاناً. فأنشئت المدارس الداخلية في "ريف دمشق" و"السلمية" و"تدمر" و"دير الزور"، وكانت حصة "الرقة" ثلاث مدارس واحدة لأبناء بادية "المنصورة" و"الرصافة"، والثانية لأبناء "بادية الكرامة" والثالثة لأبناء "بادية الجرنية". وتتجاوز الكلفة الإجمالية لمشاريع بناء هذه المدارس /110/ مليون ليرة سورية، ما عدا الأثاث ووسائل النقل، وتجهيز المستوصفات الخاصة بها والأدوية والمعدات الطبية اللازمة.

أنا سعيد لأنني تعرفت على أطفال من مناطق بعيدة، وأنتظر بفارغ الصبر مواعيد الدراسة، وأحس أن حياتي قد تغيرت كلياً، بعد أن التحقت بهذه المدرسة، وذلك من خلال المعاملة الجيدة التي نتلقاها من المعلمين والمشرفين

وفي يوم الخميس (19/2/2009) التقينا بعض الأولياء الذين كانوا بانتظار أبنائهم لقضاء عطلة نهاية الأسبوع بين أهلهم، فتحدث إلينا السيد "معيض العودة" من سكان البادية قائلاً: «أنتظر ثلاثة من أبنائي، واثنين من أبناء أخي، لكي يقضوا العطلة معنا، ونعيدهم في صباح يوم الأحد، وقد لمسنا الفرق والتغير الحاصل في عادات أولادنا، من خلال تناولهم للطعام والاهتمام بالنظافة وغيرها، ونحن سعيدون جداً لأن أولادنا يتلقون العلم بهذه الطريقة، فهم يخففون عنا أعباء وتكاليف المدرسة المتنقلة».

أحد صفوف المدرسة

ويقول "محمد العثمان" من منطقة "الكدير": «لم نكن مستقرين أبداً، لذلك نشأ أولادنا بشكل يدعو للأسى، أما الآن بوجود المدرسة الداخلية فنحن نشعر بالاطمئنان عليهم، حيث وجدوا العناية والنظام، وأشعر بالسعادة وأنا أرى الكتاب والقلم بين أيدي أبنائنا. فهو سلاح يمكن من خلاله أن يغيروا به شكل الحياة الذي نعيشه نحن الكبار في منطقة "البادية"».

وللحديث عن هذه المدارس، التقى موقع eRaqqa السيد "شحاذة المحمد" مدير التربية في "الرقة"، بتاريخ (22/2/2009)، الذي قال: «تعتبر مدارس أبناء "البادية" الداخلية إحدى أهم المشاريع الإستراتيجية التي تنفذها وزارة التربية في عدد من المحافظات لاستيعاب أبناء "البادية" في تلك المدارس، وإيصال التعليم لهم، والحد من تسرب الأطفال، نتيجة طبيعة عمل أوليائهم الذي يتطلب انتقالهم للبحث عن المرعى من مكان إلى آخر.

المعلمة عبير رزوق في أحد الصفوف

جاء هذا المشروع ترجمة إستراتيجية لتحقيق إلزامية التعليم والكفاية التربوية من خلال المدارس الداخلية في محافظة "الرقة"، وبدأ المشروع ببناء ثلاث مدارس لأبناء "البادية" في مناطق "المنصورة" و"الكرامة" و"الجرنية"، علماً أننا بدأنا العمل بالمدرسة الداخلية لأبناء بادية "المنصورة" منذ ثلاث سنوات، وهي تستوعب الأطفال الملتحقين بالتعليم من الحلقتين الأولى والثانية، ويقوم على تعليمهم مدرسين مختصين، ومعلمين من خريجي كلية التربية، إلى جانب عدد من الإداريين، الذين يشرفون على مبيت وإطعام الطلاب ونظافتهم،، ومتابعة إشراف الصحة المدرسية، من خلال مراقبة الأوضاع الصحية للأطفال المقيمين، وتقديم الأدوية والعلاج اللازم في حال حدوث أي عارض صحي لأحدهم.

كما تقوم عدد من العاملات على إعداد وتجهيز الطعام اللازم وفق برنامج غذائي متكامل ومدروس للأطفال، ويرافق ذلك برنامج مطالعة وإثراء خارج أوقات الدوام الرسمي لمتابعة تحصيل التلاميذ تعليمياً، كما زودت المدرسة بقاعة للمعلوماتية، وكذلك وسائل إيضاح مرئية لمتابعة أنشطة القناة التلفزيونية التعليمية والتربوية».

مهجع الطلاب

وعن أهداف المدارس الداخلية، يقول: «لهذه المدارس أهداف تربوية واجتماعية، منها إيصال التعليم إلى كافة التجمعات الموجودة في "البادية"، التي لا يمكن إقامة مدرسة نموذجية فيها، ومد التعليم إلى الحلقة الثانية التي كان يحرم الأطفال منها، لعدم وجود مدارس حلقة ثانية لأعداد محدودة جداً، وهذا ما كان يؤدي إلى التسرب، وأخيراً نشر الوعي التربوي والثقافي لدى أبناء "البادية"».

ويضيف "المحمد": «في إطار تحقيق هذه الأهداف، أكدت هذه المدارس جدواها نتيجة التحاق أطفال "البادية" من صفوف مختلفة، وجذب أشقائهم الصغار للتسجيل في الصف الأول، لما تتميز به من تقديم الفوائد العلمية والصحية والثقافية، وإقبال الأولياء على تسجيل أبنائهم لما توفر لهم من تعليم لأبنائهم، وتخفف عنهم التكاليف، والأعباء المادية التي تصرف في مجال التعليم».

وعن كيفية قبول الأطفال في هذه المدارس، ورعايتهم يقول مدير التربية: «تعلن المدارس الداخلية خلال العطلة الصيفية عن استقبال الأطفال من أبناء "البادية" حصراً للتسجيل، ويتم قبول الطلبات أصولاً، ويبدأ العام الدراسي بتوزيع الأطفال على الصفوف المدرسية حسب الأعمار، وشروط القيد والقبول لهذه المدارس، ويتم تسليمهم المستلزمات المدرسية كاملة، وتتضمن اللباس المدرسي ولباس النوم، وحقائب وكتب ودفاتر وأقلام، ثم يوزعون على المهاجع المخصصة للمبيت ويراعى وجود الأخوة إلى جانب بعضهم البعض.

ويبدأ البرنامج المدرسي بتناول الإفطار، وبعدها تبدأ الحصص الدرسية، ويليها تناول طعام الغداء، فاستراحة لمدة ساعتين، وتليها فترة المطالعة المسائية وتنفيذ الواجبات المدرسية بإشراف المشرف الليلي، ثم يليها تناول طعام العشاء، ثم المطالعة ثانية، فالنظافة اليومية، وأخيراً النوم».

ويختتم "المحمد" حديثه قائلاً: «جاء مشروع تعليم أبناء "البادية" في مدارس داخلية ملبياً لاحتياجات شريحة واسعة من أبناء "البادية"، لتحقيق إلزامية التعليم، وهو حق للجميع، ويلقى اهتماماً ومتابعة من كافة الجهات المعنية. ونأمل أن يحقق أهدافه بالقضاء على التسرب ومحو الأمية والحد من انتشارها، والقضاء على ظاهرة المدارس المتنقلة في المحافظة».

كما التقى موقعنا السيد "أحمد علي المحمود"، مدير مدرسة "أبناء بادية المنصورة الداخلية"، فتحدث قائلاً: «قدّمت المدرسة الداخلية المناخ المناسب لتلميذ "البادية"، من خلال الاهتمام بالأطفال، وتقديم المساعدات الكاملة لهم، وقد واجهتنا في البداية معوقات من قبل الأهل، لكن بعد السنة الأولى بدأنا نلمس تحسناًً واضحاً في إقبال التلاميذ للتسجيل في المدرسة، حيث وصل عددهم في العام الدراسي /2008/ ـ /2009/ نحو /164/ طالباً، وسيتضاعف العدد في حال إقلاع مدرستنا في المبنى الجديد، خصوصاً بعد أن يتم استيعاب الفتيات. حيث بإمكان كل مدرسة أن تستوعب حوالي /400/ طالباً».

وتحدثت المعلمة "عبير رزوق" قائلة: «أبناء "البادية" يتمتعون بالذكاء الفطري، ونقاء النفس، ويوجد أطفال لا يقلون عطاءً عن أبناء المدن الكبيرة، فمستواهم العلمي جيد جداً، وهم مؤدبون جداً، وأنا سعيدة جداً كوني معلمة في هذه المدرسة، وأشعر بأن مسؤوليتي مضاعفة، لأنني أقدم ما عندي من معلومات لأطفال هم بأمس الحاجة للعلم والمعرفة».

التلميذ "عبد الفتاح الأحمد المسابيح" من الصف الخامس، قال: «إضافة للعلم الذي نتلقاه، أصبحت أرتاد الحمام بشكل يومي، وفي "البادية" لا نعرف الحمام إلاً بالمناسبات والأعياد، وأيضاً الطعام الذي نأكله، فقد عرفنا أصناف من الطعام لم نكن نعرفها سابقاً، وكما نتعلم نلعب ونمرح، بعد أن كانت حياتنا محصورة في الرعي، ومتابعة شؤون أهلنا».

التلميذ "أحمد العواد" من الصف الرابع، قال: «أنا سعيد لأنني تعرفت على أطفال من مناطق بعيدة، وأنتظر بفارغ الصبر مواعيد الدراسة، وأحس أن حياتي قد تغيرت كلياً، بعد أن التحقت بهذه المدرسة، وذلك من خلال المعاملة الجيدة التي نتلقاها من المعلمين والمشرفين».