في الجهة الشرقية الشمالية دوار "الساعة"، تقف وبشكل دائم ويومي بعد غروب الشمس عربة الحاج "عبدو الصالح"، بحيث أمست وبعد قرابة أربعة عقود من الزمان، نقطة علاَّم لأهل "الرقة"، للتواعد عندها وأكل "سندويش" (لسانات)، أو (حناك)، كما يدعوها أهل المدينة، وهي اللحمة التي تنتزع من رأس الخروف بعد ذبحه، حيث ينظف الرأس جيداً ثم يغلى بالماء حتى تمام نضجه، ويقدم للزبائن بشكل "سندويشات" سريعة يحبُّ أكلها أغلب العامة من أهل "الرقة".

موقع eRaqqa زار هذا المطعم العربة، بتاريخ (6/12/2008)، والتقى الشاب "محمود عبدو"، الابن الأكبر للحاج "عبدو"، والذي صار منذ فترة من الزمان يأتي بدلاً عن والده، الذي أقعده المرض والسنُّ عن القدوم كعادته، حيث تحدث لنا عن بدايات هذه الصنعة لهم فقال: «عندما كنت صغيراً كنت آتي مع والدي، إلى هذا المكان الذي لم يتغير، حيث كان والدي يضع لي كرسياً فأجلس وأراقبه كيف يعمل، فأحببت عمله، وبدأت بعد فترة من الزمان أساعده في ذلك، إلى أن أتقنت ما كان يقوم به وأصبحت أجيد التعامل مع الزبائن، الذين كانوا يفدون إلينا من مختلف الشرائح الاجتماعية، حتى جاء وقت صرت فيه من يدير هذا العمل بعد أن تقاعد والدي لظروف صحية».

عندما كنت صغيراً كنت آتي مع والدي، إلى هذا المكان الذي لم يتغير، حيث كان والدي يضع لي كرسياً فأجلس وأراقبه كيف يعمل، فأحببت عمله، وبدأت بعد فترة من الزمان أساعده في ذلك، إلى أن أتقنت ما كان يقوم به وأصبحت أجيد التعامل مع الزبائن، الذين كانوا يفدون إلينا من مختلف الشرائح الاجتماعية، حتى جاء وقت صرت فيه من يدير هذا العمل بعد أن تقاعد والدي لظروف صحية

ويتابع "محمود عبدو" حديثه لنا عن بداية والده مع هذا المطعم المتحرك، وكيفية إعداد الوجبات فيه، فيقول: «كانت "الرقة" مدينةً صغيرة عندما قدم إليها والدي من "حلب"، وكما روى لي لاحقاً بأنه تعلم من والده موعظةً أورثنا إياها، وهي أن الناس تظل تسعى وراء شيئين، الماء والطعام، فمن يعمل عملاً له علاقة بأحدهما فإنه غير خاسر في النهاية، وكان في المدينة وقتها بعض المطاعم، والتي كانت تقدم بعض الوجبات الخفيفة، فخطرت له فكرة وجبة سريعة، ولكنها لا تتاح أغلب الوقت في البيت بالنسبة لأي شخص، فكانت "أكلة الروس"، حيث استهجنها بعض الناس في البداية، لكنها ما لبثت أن لاقت رواجاً بين أوساط المرتادين للسوق، وكثر زبائننا، فاضطر والدي لجلبنا لمساعدته، بالإضافة للمساعدة التي تقدمها والدتي في المنزل، والتي كانت تتولى أمر طبخ رأس الخروف حتى نضجه، بعد أن تكون قد قامت سابقاً بتنظيفه جيداً، ثم تقوم وشقيقاتي بتجهيز "السلطات"، والتوابل، وتقطيع الليمون، ثم تجهيز الخبز، وتقطيع اللحم الناضج، كي يسهل تقطيعه فوراً بالنسبة لوالدي، ووضعه في إناء كبير يغلق بإحكام، وكل هذا العمل كان ينجز بشكل يومي، وكان أكثر ما يشغل بال والديَّ هي مسألة النظافة، التي كانت هاجساً بالنسبة لهما، ولم يسبق أن تعرض أيٌّ من زبائننا لأي وعكة صحية نتجت عن تناوله للطعام عندنا، هذا فضل من الله ونعمة نشكره عليها».

الشاب "محمود عبدو" يعمل في مطعمه المتحرك

كما التقينا السيد "حمادي البدران"، البالغ من العمر /46/سنة، والذي كان ينتظر إعداد وجبته السريعة، من لحم رأس الخروف، حيث تحدث لنا عن هذه الوجبات، وحكايته معها بالقول: «منذ أكثر من /18/سنة وأنا أواظب على المجيء إلى عربة "أبو محمود"، التي لم يتغير مكان تواجدها مطلقاً، بحيث تشعر بأنها صارت معلماً شعبياً من معالم مدينة "الرقة"، وكانت معدل زياراتي لهذه العربة ثلاث مرات أسبوعياً، فهذه الوجبة لمن يعرفها، هي متعة أكثر منها شعوراً بالجوع، بالإضافة أن الشباب الذين يديرون هذه العربة الآن، ورثوا عن والدهم مهارة إعدادها، وحسن أدبهم في التعامل مع الزبون، وأكثر الأحيان أحمل معي أكثر من وجبة سفرية لبيتي، فأطفالي وجدوها لذيذة أيضاً».

أما المعلم "عيسى النافع" الذي جاء للمرة الثالثة، بحكم كونه من الريف القريب من المدينة، فقد حدثنا قائلاً: «كنت قد دعيت من قبل أصدقاء لي من المعلمين في المدينة، لتذوق وجبة لن أنساها، ولا أخفيكم أني قلت بنفسي بأن في الأمر مبالغة، وعندما قدمت ورأيت العربة، شعرت بالغضب من هذه الدعوة، التي جعلتني أظن أن في الأمر مقلباً من نوع ما، ولكن إصرار الرفاق وإلحاحهم، جعلني أتناول "السندويش"، الذي من خلال النظر إليه عرفت محتوياته، ففي الريف حيث أقطن، ندعو هذه الوجبة بـ"الكلال"، وهي ليست مجرد الرأس فقط، وشعرت بلذتها بعد أن زال توجسي من خشية ألا تكون مقبولة الطعم، فطريقة إعدادها تكاد تكون مختلفة عما كنت أعرف، ولاحقاً في كل زيارة للمدينة أضطر فيها للمبيت، لابد من زيارة مسائية لعربة "أبو محمود"».

المعلم "عيسى النافع" بانتظار وجبته

ويقول السيد "حسان الكدرو"، الذي يملك محلاً لتصليح آلات التسجيل القديمة، الواقع قبالة مكان تواجد العربة الدائم، واصفاً الإقبال الشعبي على هذه الوجبة السريعة، مفسراً لنا حسب رأيه سبب ذلك، إذ يقول: «عندما جاء الحاج "عبدو الصالح"، منذ حوالي /40/سنة، كان والدي رحمه الله يدير هذا المحل، وكنت أجلب له الغداء من البيت حيث كانت تحضرُّه والدتي، ولاحظت وجود العربة في إحدى زياراتي المسائية لوالدي في المحل، كي أساعده في تنظيفه، وعندما لاحظ انشغالي بالنظر إلى العربة، سألني رحمه الله إن كنت جائعاً، فأجبته بالإيجاب، فاشترى لي "سندويش" من تلك العربة، فأكلته ممتناً، وأقولها دون حسد، بأن الله عندما يعطي فإنه يدهش، وعندما يأخذ فإنه يفتش، وقد أنعم الله على الحاج "محمود" بازدحام تفتقر إليه مطاعم كبيرة في هذه المدينة، وقد يعود السبب في إقبال الناس على أكل هذه الوجبة، لصعوبة إعدادها في البيت، فهي من الوجبات التي تتعب ربَّة المنزل بإعدادها، وهي ليست من الوجبات التي من الممكن أن تطبخ بشكل يومي، لذلك يعمد الناس من مختلف شرائح المجتمع للقدوم والاستمتاع بهذه الأكلة الشعبية، فمنهم العامل، ومنهم الموظف، ومنهم الزائر الريفي للمدينة، الذي أصبح يرتادها كأنها طقس لابد له من مزاولته عند نزوله المدينة».

ويذكر أن مديرية صحة "الرقة"، تقوم بإخضاع كافة الوجبات التي يقوم بإعدادها الباعة المتجولون لفحص السلامة بشكل عشوائي، والتي من خلاله قد تضطر المديرية لمنع صاحب المصلحة من الاستمرار بعمله، عند ثبوت أنه ضار بالصحة العامة، ومدركةً في الوقت ذاته أن تترك للناس حق العمل بما لا يتعارض مع صحة المواطنين.

كل شيء يتم إعداده بالبيت