أدرك أهل "الرقة" كغيرهم من أهل البادية، أن ظروف الحياة التي يعيشونها تتطلب منهم أن يتقنوا فن البقاء أحياءً، فلقد كانت الأمراض الجائحة تهدد حياة الجميع، وفي البدايات كانت التمائم والرقى الشرعية، هي الوسيلة الأنجع برأيهم للوقاية منها والأكثر فعالية، ولكن العاقلين منهم أيقن أن هناك فرقاً بين التوكل على الله، باعتماد الرقى والآيات القرآنية كوسيلة للعلاج، وبين التواكل وعدم السعي الحثيث عن طرق أخرى، فتجاوزوا تلك الطرق في علاج الأمراض، وأخذوا يفتشون عن غيرها، ولشدة تأثرهم ببيئتهم التي يعيشون بها، فطنوا لتلك الصيدلية الطبيعية الواسعة، التي وهبهم الله إياها، فكانت الصحراء ونباتاتها مركزاً لبحوثهم حول فائدة تلك الأعشاب البرية والنهرية التي تعرفوا عليها عن طريق حيواناتهم بدايةً، التي كانت ترعى في مراعٍ شتى، فاستطاعوا أن يعرفوا أن لكل وادٍ أو مستنقع أو تلةٍ نباتاتها الخاصة بها، وعرفوا السامة منها وغير السامة، وقاموا بفرزها وتبيان خصائصها من خلال مراقبتهم لمواشيهم، واستطاعوا تشخيص بعض الأمراض التي تصيبهم، وبرع منهم أناس اختصوا بمداواة من يشكو من المرض، وبذلك برزت مهنة الطب الشعبي في "الرقة"، كمهنةً تتطلب علماً واسعاً وحكمة لا تؤتى لأيٍّ كان.

موقع eRaqqa بتاريخ (1/11/2008)، وعبر توثيقه لأوليات "الرقة" بمختلف المهن، التقى الباحث الأستاذ "حمصي فرحان الحمادة"، ليحدثنا عن بدايات الطب والأطباء في محافظة "الرقة"، حيث بدأ حديثه بالقول: «في البداية تمت مزاولة الطب الشعبي في منطقة "الرقة"، وذلك خلال القرنين الماضيين، ومن مشاهير من زاولوها بتلك الفترة نذكر في اختصاص الجراحة المتيسرة آنذاك: "صلعو الجاسم"، "عبد الجبار الخلف"، "علي الصرَّان"، "تبال الحمود"، حيث توفي آخرهم في عام /1948/م، وفي اختصاص الأمراض الداخلية نذكر: "حسن العباد"، "علي الشطيحي"، "عبد الله الكعود"، "سطم العبو"، "عبيد خضر الشيخ"، "عساف الخلف"، "عبدالله السرد"، "سيد البيبي"، "ذياب العرَّان"، وهذا الأخير توفي في عام /1962/م، عن عمر ناهز /128/عاماً، وفي اختصاص العظمية "الكسور"، ويطلقون عليهم "المجبرين"، فلقد اشتهر منهم: "شيخ الحمد"، "جاسم الشبلي"، "محمد العيسى الشعيب"، "صالح الخلف"، "ابراهيم الحج الشعيب"، أما في اختصاص الرضوض فقد اشتهر في علاجها "مطر الشواذيب"، الذي كان بارعاً للغاية، وكان هناك أطباء شعبيين اختصاصهم الكي بالنار فقط، نذكر منهم: "حمد المجبل"، "حسين الحايك"، "علي الشواخ"، وفي اختصاص النسائية كان في "الرقة" حكيمات، أشهرهن: "عمشة العبيدان"، وتدعى لبراعتها بـ "عمشة الحكيمة"، و"هلالة الصالح"، "خود الحمد"، "فضة الحسين المانعية"، "ندوة الفارس"، "هيلة المحمد"، "نومة الخرصية"، "فضة الجاسم البيطارية"، وكانت أولئك النسوة يمارسن إلى جانب ما نسميه اليوم بالقبالة، مداواة أمراض النساء، ومن الحكيمات المختصات ببعض الأمراض "حليمة الحمادة"، التي كانت تعالج "أبو صفار" وهو اليرقان، وذلك بجرح عروق معينة بالشفرة، وتوصي المريض بعد ذلك بأكل الدبس أو الحلاوة، و"وضحة الإبراهيم الحمادة" التي كان اختصاصها معالجة الأطفال، كما كانت تعالج مرض "الحدكدكة" بلفظ الكاف جيماً مصرية، وهي وذمة تصيب جفن العين، وكانت تعالجها بجعل امرأة متزوجة من ابن عمها، تقوم بكبسها بواسطة قطعة قماش فيها شيء من الرماد، أما أمراض العين فلقد اشتهر بعلاجها "العنطوط"، و"سارة" أم الواجعات، كما اشتهر في علاج مرض "البجل" الحاج "محمود آل فخري" من منطقة "السبخة"، الذي استخدم الحقن الطبية، وأغلب الفترة التي نتحدث عنها هي طيلة فترة الحكم العثماني، التي سادها تخلف بكافة جوانب الحياة ومنها الطب، أما الحاجة "سارة" أم الواجعات، والحاج "آل فخري" فهم مرحلة قريبة يتذكرها جيل من أهل "الرقة" ما زال أغلبه على قيد الحياة، وكان أغلب الذين ذكرنا لا يأخذون أجرةً على عملهم، بل يحتسبون أجره على الله».

كان الدكتور "عبد السلام العجيلي"، أول طبيب رقِّي يفتتح عيادةً خاصة، وقد طلب منه الدكتور "محمد علي القنواتي" مدير صحة "دير الزور" آنذاك، الموافقة على التعيين في "دمشق"، لدى وزارة الصحة، لكنه آثر عدم ترك بلده، والدكتور "عبد السلام" رحمه الله، هو من مواليد /1912/م، حيث انتسب للنقابة بتاريخ (16/8/1946)

فهل كان هناك في تلك الفترة، من طبيب بشري في "الرقة"، عن ذلك أجاب "الحمادة": «في الحقيقة لم يرد ذكر وجود أطباء في "الرقة" في تلك الفترة، ولكن الحكومة العثمانية، كانت ترسل بين وقت لآخر أطباء مغضوب عليهم لقضاء عقوبتهم بالخدمة في "الرقة" لمدة محدودة، وذلك لمعالجة القوة العسكرية العثمانية المتمركزة فيها، وكان الطبيب خلال ذلك يعالج بعض المرضى المحليين، دون عناية لعلمه بأنه مرغم على التواجد في هذا المكان، وفي أثناء الحرب العالمية الأولى (السفر برلك)، كان يأتي طبيب بشكل مؤقت لفحص القرعات العسكرية، المرسلة إلى جبهات القتال، وكان الطبيب الذي يأتي إلى محافظة "الرقة" بهذه المهمة يقوم بفحص المرضى من الأهالي، وتقديم العلاج لهم ما أمكنه ذلك، أما بعد خروج العثمانيين عام /1918/م، وسقوط الحكومة العربية، ودخول فرنسا إلى سورية إثر معركة "ميسلون"، تم تشكيل حكومة وحدة وطنية بزعامة الأمير "حاكم بن مهيد"، التي قامت بإعلان استقلال منطقة "الرقة"، ورفع العلم العربي، ورفض الاحتلال الفرنسي، فقامت هذه الحكومة بتشكيل دائرة صحية، يشرف عليها الطبيب "فؤاد أيوب الصيادي"».

الصحراء هي الصيدلية الأم

ويتابع "الحمادة" حديثه قائلاً: «يذكر بعض أهل "الرقة" أن الطبيب "الصيادي"، لم يكن يحمل شهادةً في الطب، وإنما كان في الأصل ممرضاً لدى أحد الأطباء في "اسطنبول"، وكان يتمتع بالذكاء والفطنة واللباقة، ولم يكتف بخبرته العملية في مجال الطب، ولكنه أضاف إليها مطالعة واسعة للكتب التي تخدم مهنته، حتى أضحى في مقاييس ذلك الزمان يضاهي أمهر الأطباء، وكل هذه العوامل مجتمعةً ساعدته على القيام بعمله في محافظة "الرقة"، على أتم وجه، ولكن الرواية التي نقلتها لكم حول كونه ممرضاً وليس طبيباً، ينقضها ولده السيد "فارس فؤاد"، وكما يقال فإنَّ أهل "مكة" أدرى بشعابها، حيث يروي لي السيد "فارس فؤاد" شخصياً، عن والده قوله بأنه ولد في "اسطنبول"، وحضر إلى "الرقة" مع والده الذي يعمل في سلك الدرك العثماني، وذهب والده "فؤاد" إلى "حلب" لإكمال تعليمه فحصل على شهادة "البكالوريا" من مدرسة التجهيز الأولى، وسافر بعدها إلى "اسطنبول" لدراسة الطب، وعند وصوله السنة الأخيرة حصلت الاضطرابات في "تركيا" بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، فاضطر الطلبة العرب إلى الفرار والعودة إلى أوطانهم، نتيجة مضايقة الأتراك لهم، إذ حملوا العرب سبب هزيمتهم، فعاد والده الطبيب "فؤاد" إلى "الرقة" دون شهادة الطب، وذكر لي السيد "فارس" أنَّ لديه كافة الإثباتات على صحة كلامه».

وعن الطبيب "فؤاد أيوب الصيادي"، ومن كان يساعده بعمله في "الرقة"، يتابع "الحمادة" قوله: «في ظل وجود حكومة الوحدة الوطنية، كان الطبيب "فؤاد" يمارس عمله، بصفته الطبيب المسؤول عن كل المنطقة، وكان يعينه في عمله هذا الصيدلي الأرمني "سركيس سوليان"، وكان بدوره صيدلياً مجازاً، قدم إلى "الرقة" ضمن أفواج سوقيات الأرمن، وسكن فيها وصار من أهلها، وبعد دخول القوات الفرنسية إلى "الرقة" عام /1922/م، وسقوط حكومة الوحدة الوطنية، توسط والد الدكتور "فؤاد" لولده لدى الفرنسيين للسماح لابنه بمزاولة الطب، بعد تقديمه الصور والوثائق اللازمة التي تثبت دراسته للطب، فأخضعوه لاختبار سمح له على إثره بافتتاح عيادة له في شارع "القوتلي" بتلك الفترة، ولكن أول ممارسته للطب في "الرقة" كانت في عام /1915/، وكان شارع "القوتلي" هو السوق التجاري الوحيد في "الرقة"، وكان يساعده في عيادته كممرض ولده "لقمان"، وتوفي الدكتور "فؤاد" في عام /1957/م، بعد أن ترك الأثر الطيب لدى كل أهل "الرقة" الذين كانوا ينادونه الدكتور "فُهاد"، بضم الفاء وإبدال الواو المهموزة هاءً، وذلك لصعوبة نطقه عليهم لأنه اسم غير متداول في المنطقة بتلك الفترة، وكان رحمه الله يمارس عمله في خدمة مرضاه بكل تفانٍ وإخلاص، والحالة المرضية التي تستعصي عليه، يقوم بإرسالها إلى مدينة "حلب"، حيث كان يتواجد الأطباء المشهورون، وخاصةً الأرمن منهم، ونذكر من أسمائهم في تلك الفترة: "قنبور"، "أنطونيان"، "العقيلي" "السباعي"، وكان هناك في الفترة ذاتها يوجد برفقة القوة الفرنسية المتمركزة في "الرقة"، أكثر من طبيب يقومون بواجباتهم تجاه الجنود الفرنسيين، ولا يمانعون بتقديم العون للأهالي، وخاصةً إن وجدوا أن هناك من يتعاون معهم، وتكونت "دائرة إسعاف الصحراء"، في عام /1924/م، وكانت الحكومة ترسل طبيباً واحداً يقوم بالطب الشرعي، والطبابة المدنية، فإن تغيب هذا الطبيب لعذر أو لآخر، كانت المدينة تبقى خاليةً إلا من الدكتور "فؤاد"، ومن الأطباء الذين حضروا لهذه الدائرة نذكر "العطار" من "دمشق"، "عبد الرزاق الأيوبي"، "سعيد سلطان"، "ميشيل جرجيانوس"، "صلاح سبح" ـ الذي كان موجوداً عند تخرج الدكتور "عبد السلام العجيلي"ـ "يحيى الحديدي"، "حمدي حمودة"، وفي عام /1950/م حضر إلى "الرقة" الدكتور "منير أنتيبا"، ثم "درويش مرداش"».

الباحث الأستاذ "حمصي فرحان الحمادة"

ويختتم "الحمادة" حديثه عن أوائل الطب والأطباء في "الرقة"، بقوله: «كان الدكتور "عبد السلام العجيلي"، أول طبيب رقِّي يفتتح عيادةً خاصة، وقد طلب منه الدكتور "محمد علي القنواتي" مدير صحة "دير الزور" آنذاك، الموافقة على التعيين في "دمشق"، لدى وزارة الصحة، لكنه آثر عدم ترك بلده، والدكتور "عبد السلام" رحمه الله، هو من مواليد /1912/م، حيث انتسب للنقابة بتاريخ (16/8/1946)».

ويذكر أنَّ من أوائل الأطباء الذين سجلوا في نقابة أطباء "الرقة": "جورج بابازيان" المختص في الجراحة العامة، الذي انتسب لنقابة أطباء "الرقة" في عام /1958/م، وفي الأمراض الداخلية "أحمد فائز الفواز" المنتسب للنقابة في عام /1960/م، "حسين مير سليم"، الاختصاصي في العينية، الذي انتسب للنقابة في عام /1972/م، وفي التخدير كانت هناك "سعاد يازجي"، التي سجلت بتاريخ /1967/م، وفي طب الأطفال كان "سليمان أبا زيد" الذي سجل في النقابة عام /1977/م، وفي أمراض جهاز الهضم "عبد المجيد العلي"، الذي سجل في النقابة عام /1972/م، وبعدها تغيرت الخارطة الطبية في المحافظة، وبدأ الأطباء بالتوافد إليها من كافة الاختصاصات حتى أضحت في يومنا هذا قريبة من الاكتفاء الطبي أو قاب قوسين من ذلك.