إن ازدهار الفن بكافة أنواعه، يعتبر أحد أهم أوجه الحضارة، فما بالك بالموسيقى التي تعدُّ أرقى أنواع الفنون الجميلة على الإطلاق، وقديماً كان اليونان يمنحون الموسيقيين مكانة مرموقة، حتى وصف الشخص المثقف بأنه "إنسان موسيقي"، وفي مدينة "الرقة" السورية، التي لا يتجاوز عمرها ـ في العصر الحديث ـ القرن ونصف القرن، لم تكن الموسيقى ـ بمعناها الحديث ـ معروفة لديهم لعقود كثيرة، حيث أن الآلات الموسيقية والعزف عليها، لم تظهر بوادره، إلا منذ عقود قليلة، لتبدأ شيئاً فشيئاً بالانتشار بين أهالي "الرقة".

تُرى ما هو واقع الموسيقى اليوم، في هذه المدينة؟ وما هي المشاكل التي تعاني منها؟ وما الحلول المقترحة لحل هذه المشاكل؟ مجموعة من الأسئلة الهامة، التي توجهنا بها للموسيقي وعازف آلة "البزق"، الأستاذ "أحمد دالي" الذي التقاه موقع eRaqqa بتاريخ (17/12/2009)، فكان هذا الحوار:

  • ظهر مؤخراً على الساحة الفنية عدد من الشباب العازفين، والمثقفين موسيقياً، ألا ترى أن هذا الأمر سيساهم في الارتقاء بواقع الموسيقى في المحافظة؟
  • الأستاذ أحمد دالي يعزف على آلة البزق ضمن فرقة سازكار الموسيقية التي يعد أحد مؤسسيها

    ** هناك مقالة قرأتها مؤخراً، جاء فيها ما يلي: إن مشكلة المثقفين في بلادنا، أنهم لا يشكلون نهراً واحداً، يمكن أن يصب في محيط واحد، بل إنهم روافد صغيرة، لا يمكن أن يتولد عنها سيل جارف، وذلك لأسباب كثيرة منها انعدام التواصل فيما بين المثقفين، حتى لا يكاد أحدهم يعرف عن الآخر إلا الاسم أو العنوان، ومن جهة أخرى، انعدام التعاون فيما بينهم، اللهم أثناء المهرجانات والندوات وغيرها من اللقاءات التي غالباً ما تكون شكلية.

    وأنا أقول إن وجود عدد من هؤلاء الشباب، لا يعني بالضرورة تقدم عجلة الفن الموسيقي إلى الأمام، وإلا أعطني بعض أوجه التعاون الفني فيما بينهم، والأعمال المشتركة التي قدموها! أو على الأقل إنجازاتهم الفردية التي يمكن أن نطلق عليها اسم تجربة موسيقية.

  • أذكر أن هناك عدداً من الموسيقيين الشباب، أحيوا العديد من الأمسيات الموسيقية، وخاصة العزف المنفرد على آلة "العود"، ألا تعتقد معي أنه من الممكن أن نطلق على نشاطهم هذا تسمية تجربة موسيقية؟
  • ** أولاً كان ذلك منذ بضعة أعوام، ثانياً أين هم الآن؟ فجميع اللذين أحيوا هذه الأمسيات الموسيقية، يقيمون خارج القطر، وبالتالي لا مجال أن يساهموا من الخارج بدفع عجلة الموسيقى في هذه المدينة إلى الأمام، وما قصدته بكلامي هم الموسيقيين الشباب الذين يقيمون في مدينة "الرقة".

  • إذاً ما هي الطريقة المثلى برأيك، للارتقاء بالواقع الفني الموسيقي لمدينة "الرقة"؟
  • ** لنكن واقعيين قليلاً، ونتحدث عن وجود فراغ كبير لجهة الكادر الأكاديمي المتخصص، فالهواة الموسيقيين لدينا كُثر، لكنهم يفتقدون للمنهجية العلمية لتعليم الموسيقى أو صناعتها، ومحافظة "الرقة" إلى يومنا هذا تفتقر لوجود أي موسيقي أكاديمي، سواء من خريجي المعهد العالي للموسيقى، أو من خريجي كلية الموسيقى، فأنا على سبيل المثال لست أكاديمياً، وثقافتي الموسيقية حصلت عليها بمجهودي الفردي الخاص، وهي لن تصل بأي حال من الأحوال، لمستوى ثقافة الموسيقيين الأكاديميين، الذي درسوا الموسيقى سنوات عديدة ومتواصلة، وعلى يد موسيقيين كبار.

    وبالتالي، فأنا أرى أن الواقع الموسيقي لن يتقدم خطوة واحدة إلى الأمام، دون وجود هذا الكادر الذي تحدثت عنه، والدليل على كلامي، هو أن "الرقة" كانت ومازالت إلى وقتنا الحاضر، غير موجودة على خارطة الموسيقى في سورية، ومن جهة أخرى، فجميعنا يعلم أن التقدم الكبير للموسيقى في مدينة "دمشق" أو "حلب" أو "حمص" وغيرها من المدن السورية، يرجع بالدرجة الأولى لوجود عدد كبير من الموسيقيين الأكاديميين، الذين أنعشوا الحياة الموسيقية في هذه المدن، وإذا عرفنا أن عدداً كبيراً منهم أسس معاهد متخصصة لتعليم الموسيقى في هذه المدن، فإننا نتوقع نهضة موسيقية حقيقية في هذه المدن.

    ومع ذلك فإن هناك بوادر توحي بالتغيير، من خلال وجود عدد من الطلبة في كلية الموسيقى في "حمص"، ليكونوا بذلك من أوائل الموسيقيين الأكاديميين في "الرقة"، وكلنا أمل أن يساهموا برفد الساحة الموسيقية بمواهب وخبرات علمية، تؤسس لجيل من الموسيقيين المثقفين.

    بالإضافة إلى هذا العامل، هناك عامل هام آخر، وهو ضرورة وجود جو فني صحي، يجمع المشتغلين في هذا المجال، قوامه التعاون والتواصل، وللأسف فهناك غياب واضح لهذا العامل بين موسيقيي المدينة، وبدونه أعتقد أننا سنظل نراوح في مكاننا، وإذا ما راقبنا المشهد الفني في بعض المدن الأخرى، كـ"دمشق" مثلاً، نجد أن هناك تواصلاً وتعاوناً بين الموسيقيين، أسفر عن العديد من المشاريع الفنية الراقية، التي ما كان لها أن ترى النور، لولا هذا التعاون.

  • ماذا عن قسم الموسيقى التابع لمعهد إعداد المدرسين في "الرقة"، ألم يلعب دوراً في رفد الحياة الموسيقية في "الرقة"، سيما وأنه يخرج سنوياً عشرات الطلاب؟
  • ** في الحقيقة إن هذا الموضوع والحديث عنه، ذو شجون، فعلى مدى أكثر من عشر سنوات، وهو عمر قسم الموسيقى، حيث تم استحداثه في عام /1998/، تم تخريج عدد كبير من الطلبة، قد يصل إلى المئات، لكن أنا شخصياً ومن خلال علاقتي مع أغلب موسيقيي "الرقة"، لا أعرف من هؤلاء الخريجين سوى بضعة أشخاص، لديهم المقدرة على العزف على آلة موسيقية، وهم لا يتجاوزون خمسة أو ستة عازفين كحد أقصى.

    إذاً هناك مشكلة حقيقية، وإلا ما معنى أن يوجد خمسة عازفين فقط من أصل مئات الخريجين؟ علماً أن عدداً من هؤلاء العازفين، كان يجيد العزف قبل دخول قسم الموسيقى، والسؤال الأهم، أين هؤلاء الخريجين الذي يبلغ عددهم المئات؟ وما تراهم يفعلون الآن؟ وأين مشاركاتهم الموسيقية؟

    وللعلم فقط، لو أننا اليوم أردنا أن نؤسس أي فرقة موسيقية في مدينة "الرقة"، من العازفين الشباب، ستجدنا نطلب أمراً شبه مستحيل، فمثلاً نحن لا يوجد لدينا عازفين شباب يجيدون العزف على آلة الكمان، علماً أن أصغر فرقة موسيقية تحتاج لأربعة أو خمسة عازفين على أقل تقدير، كذلك الأمر، لا يوجد لدينا أي عازف لآلة القانون أو "التشيلو" أو "الكونتر باص"، والأمر الأهم أن عدد الموسيقيين في كامل المحافظة، الذين يجيدون قراءة "النوتة"، لا يتجاوز في أحسن الأحول عدد أصابع اليد الواحدة.

  • برأيك أين يكمن الخلل في قسم الموسيقى؟
  • ** بكل بساطة، المشكلة تكمن في شروط ومعايير قبول الطلاب في هذا القسم، فمنذ تأسيس القسم، وحتى يومنا هذا، نجد انعداماً للمعايير العلمية، التي يتم على أساسها قبول الطالب، فقبول الطلاب يتم من قبل اللجنة الفاحصة، بدون شرط أو قيد، وإلا كيف نفسر دخول طالب إلى قسم الموسيقى، وهو لا يجيد قراءة "النوتة" الموسيقية، أو التدوين الموسيقي، وكذلك لا يجيد العزف على أي آلة موسيقية أو يمتلك أي ثقافة موسيقية، والأهم من ذلك كله أنه لا يمتلك الموهبة الموسيقية؟ طبعاً كلامي هذا لا ينسحب على جميع الطلاب، لكنه ينطبق على غالبيهم.

    وبمقارنة بسيطة بين شروط قبول الطلاب في قسم الموسيقى في "الرقة"، وبين الشروط المطلوبة للقبول في المعهد العالي للموسيقى بـ"دمشق" أو كلية الموسيقى في "حمص"، سنجد أن الفرق لا يمكن أن نصدقه، فعلى سبيل المثال فالطالب الذي يتقدم إلى فحص القبول في العهد العالي للموسيقى بـ"دمشق"، يشترط فيه أن يكون عازفاً جيداً لآلة موسيقية، بالإضافة لإجادته قراءة "النوتة" الموسيقية، وحفظه للعديد من المقطوعات الموسيقية العالمية، وعزفه العديد من القوالب الموسيقية، بمعنى آخر، الطالب هناك يدخل المعهد العالي، لا ليتعلم العزف بل ليصقل موهبته الموسيقية، وهؤلاء هم الذين يتم اختيارهم في النهاية، ليكونوا أعضاء في الفرقة السيمفونية الوطنية، وكثيرٌ منهم يمتلك سمعة موسيقية عالمية.

  • قد يقول قائل: هذا هو الموجود، فمن أين نأتي بطلاب لديهم مواهب موسيقية ويجيدون العزف وقراءة "النوتة" وغير ذلك من الشروط، و"الرقة" حديثة العهد بالموسيقى، ولم ينتشر بعد الوعي الموسيقي فيها. ما ردُّك على هذا الكلام؟
  • ** أنا لست "طوباوياً" كي أطالب بتطبيق الشروط المعمول بها في المعهد العالي على طلاب قسم الموسيقى في "الرقة"، فهذا الكلام غير معقول، لكن كل ما أطلبه هو تطبيق (25%) من هذه الشروط على الطلاب المتقدمين للقبول في هذا القسم، وأعتقد أن هذه النسبة كفيلة بإحداث تغيير هائل في الساحة الموسيقية الرقيَّة.

    وبرأيي الشخصي، إذا لم يكن بالمقدور تحقيق هذا الحد من الشروط، فمن الأفضل إلغاء هذا القسم نهائياً، فلسنا بحاجة لجيش من الخريجين غير المثقفين موسيقياً، سيما أنهم سيظلون محبطين، لعدم إلمامهم باختصاصهم، وكل ما نحتاج إليه عدداً ـ ولو كان قليلاً ـ من الموسيقيين الحقيقيين، الذين من خلالهم فقط سيتم الارتقاء بالحياة الموسيقية في مدينة "الرقة".

    الجدير ذكره أن الأستاذ "أحمد دالي" من مواليد عام /1977/م، وهو عضو في نقابة المحامين في سورية، فرع "الرقة".