«تتميّز بادية "الرقة" عن الصحراء، وتختلف عنها في أوجه كثيرة، فالأمطار تهطل عليها مع ندرتها، وتنمو فيها كافة أنواع الشجيرات والحشائش والنباتات الشوكية، وتنتشر فيها قطعان الإبل والأغنام، وتتميّز بخصوبة تربتها، على عكس رمال الصحراء الحارقة، التي لا وجود لأي شكل من أشكال الحياة فيها، وكانت بادية "الرقة" وحتى زمن قريب، عامرة، تجري وديانها في الشتاءات المطيرة، وتخضرّ أراضيها، وتوفّر الكلأ والمرعى للقطعان المنتشرة في أرجائها، فهي مصدر رزق لأعداد كبيرة من أهالي المحافظة، فيها تنتشر ثروتنا الحيوانية، وهي مصدرنا الوحيد للبروتين الحيواني».

هذا ما ذكره المهندس "محمود الكراش" لموقع eRaqqa بتاريخ (5/2/2009) وهو يتحدث عن الواقع الراهن للبادية، وأثر الجفاف في تدهورها. ويضيف: «جار الزمن على بوادينا، ولم يعد الغيث يغمر سهولها، ويجري في وديانها، وساهم الاحتطاب الجائر والرعي العشوائي في تدهورها، فانعدم غطاؤها النباتي، أو كاد، وزحفت الرمال لتغطي مساحات شاسعة منها، وتشققت وديانها، وجاعت القطعان التي كانت وحتى عهد ليس بالبعيد ترتع في سهولها الواسعة، فخسرنا مساحات شاسعة من الأراضي، وقطعانٍ كثيرة، فبعد أن كانت البادية ملاذاً آمناً للكثيرين، أمست صحراء قاحلة، تذرو الرياح كثبانها، وهجرها أهلها، وتقلّصت قطعانها، وأصبحت الهجرة والبحث عن فرص بديلة حلم معظم سكان البادية وقاطنيها».

لقد تنبّهت الجهات المعنية للخطر الذي يتهدد البادية، جراء ندرة تساقط الأمطار، وتعاقب سنوات الجفاف، فأطلقت مشروعاً متكاملاً لإعادة إعمار البادية السورية، تمثّل في مشروع تنمية البادية، وبدأ المشروع عمله في عام /2000/ ولمدة ثماني سنوات، على أن يشمل سبع محافظات من بينها محافظة "الرقة"، ولكن ماذا حقق المشروع خلال هذه السنوات؟ وهل تكفي هذه المدة القصيرة لإعادة إعمار البادية؟

ويجمل المهندس "ياسر سلامة" مشاكل البادية، والإجراءات التي قامت بها الجهات المعنية لإنقاذها من التصحر قائلاً: «لقد تنبّهت الجهات المعنية للخطر الذي يتهدد البادية، جراء ندرة تساقط الأمطار، وتعاقب سنوات الجفاف، فأطلقت مشروعاً متكاملاً لإعادة إعمار البادية السورية، تمثّل في مشروع تنمية البادية، وبدأ المشروع عمله في عام /2000/ ولمدة ثماني سنوات، على أن يشمل سبع محافظات من بينها محافظة "الرقة"، ولكن ماذا حقق المشروع خلال هذه السنوات؟ وهل تكفي هذه المدة القصيرة لإعادة إعمار البادية؟».

حفرة تجميعية في البادية

ويضيف قائلاً: «تشكّل البادية أكثر من نصف مساحة محافظة "الرقة"، باستثناء الشريط الشمالي الضيق، ويشطرها نهر "الفرات" إلى نصفين، شمال النهر بادية "الجزيرة"، وجنوب النهر بادية "الشامية"، وفي هذا النصف ركّز المشروع عمله، فشقّ الطرق، ونفّذ الحفر التجميعية، وعزّل الآبار الرومانية القديمة، وحفر آباراً جوفية جديدة، وزرع الغراس الرعوية، إضافة إلى قيامه بحملات التحصين الوقائي للثروة الحيوانية، وتوزيع الكباش المحسّنة، وتأهيل مجتمع البادية، من خلال دورات محو الأمية، والخياطة، ودورات الاقتصاد الأسري.. وغيرها، وأقام المحميات التشاركية بالتعاون مع مربي الثروة الحيوانية».

وعن قصور هذه الإجراءات في الحد من تصحر البادية وانجراف تربتها، يقول "سلامة": «البادية أوسع من أن يعيد إعمارها مشروع مدته ثماني سنوات، بإمكاناته المتواضعة، وعناصره القليلة، فاقتصر عمله تقريباً على بادية "المنصورة"، وأهمل باقي المناطق، كما أن المشروع يعتمد أساساً على معدلات الهطول المطري، فالحفر التجميعية التي أنشأها، والآبار الجوفية، والبذور الرعوية التي تم نثرها، كلها تعتمد على مياه الأمطار، وقد ساهمت ندرة الأمطار في موت هذه الغراس، وجفاف الحفر وعدد من الآبار الجوفية، كل هذه الأمور مجتمعة جعل من عمل المشروع جهداً ضائعاً، رغم أن المشروع ما زال مستمراً بعد انتهاء أعوامه الثمانية».

من آبار البادية

الفلاح "هويدي الأحمد" تطرق في حديثه لمشاكل البادية ومعاناة سكانها، مؤكداً أن الحل يكمن في إعادة إحياء بادية "الجزيرة"، فيقول: «ركّزت وزارة الزراعة جلّ اهتمامها في بادية "الشامية"، ولم تولِ اهتماماً ببادية "الجزيرة"، فمنعت زراعتها، ولم تستصلح أراضيها، بذريعة أن البادية هي خزان استراتيجي للثروة الحيوانية، ومصدر من أهم مصادرها العلفية، إلا أن واقع الحال يختلف، فأهالي البادية اعتدوا عليها، وحرثوها، وزرعوها بالقمح والشعير وأشجار الزيتون، وساهمت ندرة الأمطار في زيادة تدهورها، وتصحر أراضيها، لا سيما باديتي "الكرامة" و"الجرنية"، وقد قامت المؤسسة العامة لاستصلاح الأراضي، بدراسة بادية "الجرنية"، وإمكانية استصلاحها، وقد درست على أساس استصلاح /16/ ألف هكتار من أراضيها، وتنفذ المرحلة الأولى منها على مساحة /10/ آلاف هكتار، ولكن المشروع ما زال في طور الدراسة، وهو بحاجة لتوفير اعتمادات ضخمة للمباشرة بتنفيذه، وإنقاذ أراضيها من زحف التصحر، علماً أنها أراضٍ بكر لم تستثمر بعد، وسيوفر استثمارها آفاق عمل واسعة لأهالي المنطقة، ويعيد الحياة إليها، ويؤمن الاستقرار لأهالي البادية، وسيسهم في زيادة المساحات المروية في المحافظة، وبالتالي زيادة في الغلة والمردودية».

ويضيف الإعلامي "فصيح السلوم" قائلاً: «كتبنا مراراً عن إمكانية استثمار البادية سياحياً، في ظل توفر إمكاناتها، وتعدد مقوماتها، وعوّلنا كثيراً على ما تزخر بها باديتنا من مساحات شاسعة، وأودية جميلة، كواديي "الخرار" و"النهر" وغيرها، وقلنا أن هذه الأودية يمكن أن تتحول إلى محميات بيئية، وتتحول إلى نقاط جذب سياحية، كما يمكن إقامة سباقات الهجن في بوادينا، وإقامة المهرجانات التي تعرّف بها.

جانب من بادية الرقة

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: ماذا فعلنا بمواقع الجذب السياحية الحقيقية؟ كبحيرة "الأسد" ونهر "الفرات"، والحوائج النهرية، ومدينة "الرصافة" وقلعة "جعبر"، فإذا كانت هذه المواقع لم تمتلك بعد أسس السياحة الحقيقية، ومقوماتها الفعلية، كالترويج السياحي، وإقامة الفنادق والمطاعم، وحمايتها من الإهمال والتعديات، في ظل هذه الظروف، فالدعوة إلى استثمار البادية سياحياًً، يغدو ضرباً من الخيال، وأحلاماً لن تتحقق، فبوادينا لن تنتعش في القريب العاجل، ولن تتحول إلى واحات خضراء، ومحميات بيئية تعج بأشجارها وطيورها وحيواناتها، ولن يعرف السياح طريقهم إليها، بمجرد كون البادية صالحة للسياحة البيئية، فنحن عاجزون عن تحقيق هذه الأماني، وهي أكبر بكثير من كل ما يطرح من مشاريع في عالم السياحة الطبيعية».

ويوجز الإعلامي "زياد مالود" أساس المشكلة وسبل حلها ومعالجتها بقوله: «عجزت مديرية الزراعة عن حماية البادية، ولم تفلح مشاريع التنمية في إعادة الحياة إليها، وإحداث هيئة مستقلة للبادية لا يعني أننا سنعيد إعمارها في القريب العاجل، فالبادية وقاطنيها لن ينتظروا المطر طويلاً، ولن تفيدهم الحلول الإسعافية، من تقديم بعض الإعانات لهم، وتأمين الأعلاف لأغنامهم، وهم بدؤوا فعلاً بالبحث عن فرص عمل بديلة، وهجروا البادية، فالأمر بات أكثر إلحاحاً، ويتطلب إيجاد حلول عاجلة وجذرية، تتمثل في تنفيذ مشاريع الاستصلاح في باديتي "الرصافة" و"الجرنية"، وتوسيع مشروع بليخ /1/ ليشمل أراضي "معيزيلة"، عندها يمكن أن نحقق استقرار أهالي بادية "الجزيرة" في قراهم، ونعيد الحياة إلى أراضيهم، ويمكن حينها أن نلزم فلاحي هذه المناطق بالزراعات الرعوية، كالشعير الرعوي والبرسيم وغيرها... ونمنع زراعة الأشجار المثمرة، إن كنا نخشى على المصادر العلفية للثروة الحيوانية».

ويضيف: «تشكّل الزراعة أساس اقتصادنا المتين، وركيزة من أهم ركائزه، فإذا كانت الأرض أساس هذا القطاع، فكيف نهمل ما يشكل أكثر من نصف هذا الأساس؟! دون أن نلغي دور البادية الحقيقي، كخزان للثروة الحيوانية، وفي بادية الشامية يمكن أن نركز نشاط مشروع تنمية البادية، علّها تسهم في إعادة إنماء البادية، لتعود تزهو بأشجار الطرفاء وأزهار الخزامى، فالأرض موجودة، والمياه وفيرة، واليد العاملة بحاجة لمن يشغّلها، لو توفرت الإرادة الحسنة، فلنعمل معاً، اليوم وليس غداً، ولنسارع إلى استثمار حديقتنا الخلفية التي لا زالت تزخر بكنوزها الدفينة».