من يزور مدينة "الرقة" لا بدَّ له من زيارة حديقة "الرشيد" العامة، التي تعتبر الأشهر والأهم في هذه المدينة على الإطلاق، وستكون المتعة أكبر فيما لو دخل الحديقة من مدخلها الغربي، حيث سيرى هناك وعلى الزاوية الشمالية منه، مبنى "دار التراث"، الذي طالما أوحى إلى العديد من زواره بأنهم قد أفلتوا من قبضة الحاضر، وعادوا في لحظة إلى زمن الأجداد.

المهندسة "شمسة الجاسم" تحدثت عن دار التراث بقولها: «عندما تدخل من بوابة هذا المكان الرائع، تشعر بأنك تخترق الزمن ضمن آلة عجيبة تنقلك إلى الزمن الجميل، زمن الأجداد، تشم عبق الماضي وتحاكي أجمل الأشياء فيه. إنه مكان يحتاج منا أبوة أكثر ويحتاجنا أن نكون معه، لأنه بحق رحلة تاريخية رائعة، بإمكان أي إنسان أن يمضي فيها».

عندما تدخل من بوابة هذا المكان الرائع، تشعر بأنك تخترق الزمن ضمن آلة عجيبة تنقلك إلى الزمن الجميل، زمن الأجداد، تشم عبق الماضي وتحاكي أجمل الأشياء فيه. إنه مكان يحتاج منا أبوة أكثر ويحتاجنا أن نكون معه، لأنه بحق رحلة تاريخية رائعة، بإمكان أي إنسان أن يمضي فيها

أما "معن الخلف" وهو طالب في الصف الثاني الثانوي فقد قال: «إنني من عشاق التراث بشكل عام، وخاصة الشعر الشعبي القديم، لذلك فأنا استمتع كثيراً بزيارة دار التراث، ولحسن حظي أن مدرستي تقع على ذات الطريق، وقد جمعتني بالأستاذ "حسن العدواني" علاقة طيبة، فهو يساعدني كثيراً على شرح العديد من المعاني والمفردات الصعبة في بعض الأشعار الشعبية، بالإضافة إلى أنه يقتني كافة ملبوسات المرأة "الرقاوية" التقليدية، والتي كنت أسمع عنها في الأشعار فقط، وخاصة الغزلية منها، مثل "الغبانية" وأنواع "الهباري" المختلفة وغيرها الكثير، وأنتهز الفرصة هنا لأشكره على هذا المجهود الفردي الجبار، الذي وبدون أي مجاملة لا يمكن أن يتصدى له سوى رجل يحمل في قلبه حباً جنونياً لتراثه وبلده».

الباحث حسن عساف العدواني مدير دار التراث في الرقة

موقع eRaqqa وبتاريخ (9/12/2010) زار دار التراث في "الرقة" والتقى هناك مدير الدار ومؤسسها الباحث الأستاذ "حسن عساف العدواني": «بعد أن غمرت مياه بحيرة "الأسد" العديد من القرى التي كانت تقع على ضفاف "الفرات"، وأسدلت الستار عليها إلى الأبد، ومنها قرية "الكرين" مسقط رأسي، بقيت صور هذه القرية تطلُّ على الدوام من نوافذ الذاكرة، وعندما كبرت أيقنت، أن أمواج الزمن لن تكون أرحم أبداً من أمواج "الفرات"، وأنه إن لم يكن بإمكاننا إيقاف عجلة الزمن، إلا أننا نستطيع أن ننقذ ما يمكن إنقاذه من تراثنا وماضينا، وأن نفاجئ به الحاضر في عقر داره.

وبالفعل فقد بدأت بجمع كل ما تقع عليه عيناي من أدوات مختلفة وألبسة شعبية وحلي ووثائق تاريخية وغير ذلك الكثير من المقتنيات التراثية، وفي عام /1998/م، تم تخصيص قطعة أرض من قبل محافظ "الرقة" في الزاوية الشمالية الغربية من حديقة "الرشيد" كمقر لعرض المقتنيات التراثية وأطلق عليه اسم "البيت الريفي"، وفي عام /2004/ تمت الموافقة على تسميته "دار التراث"».

الربعة البدوية

وبسؤال "العدواني" عن تصميم ومكونات دار التراث أجاب بقوله: «تبلغ مساحة الدار حوالي /700/م2، وهي مسورة من الجهة الغربية بشبك معدني يسمح برؤية باحة الدار، أما المدخل الرئيسي فيقع في الجهة الجنوبية من الدار، وتم تصميمه على نمط باب "بغداد" الشهير وهو أحد أبواب مدينة "الرافقة" التاريخية، وتتألف الدار من /5/ غرف، على الطراز الريفي بكافة أشكاله، فهناك غرف ذات أسطح مستوية وغرف ذات قباب، ويتم استخدامها لعرض المقتنيات الهامة والمعرضة للتلف، كالحلي والألبسة والوثائق والصور والأسلحة التقليدية وغيرها، وفيها قسم للنقود والصكوك النقدية والطوابع وقسم آخر للوثيقة الوطنية والذي يضم صور الحياة الفراتية، والعادات والفلكلور والتقاليد الشعبية، ومخطوطات ووثائق وصور لبعض القادة الوطنيين في عهد الانتداب الفرنسي والاستقلال.

ونجد في فناء المبنى عند الجهة الغربية نماذج لبيوت البادية أي بيوت الشعر، الشتوية منها والصيفية، وهي تحتوي على مجسمات بشرية تصور بعض أوجه الحياة البدوية، وتضم العديد من مفردات حياة البادية. وفي الجهة الجنوبية والشرقية من الدار، نجد عدة غرف صغيرة ذات قباب "مقصورات المهن اليدوية" وتضم داخلها مجسمات بشرية، تصور بعض الأعمال اليدوية التي كانت المرأة والرجل يمارسانها على حدٍّ سواء في منطقة "الرقة"، بالإضافة لبعض نماذج السكن في منطقة "فرات" و"البليخ" والبادية، مثل "الدبابة" و"السيباط" والكوخ، أما في الوسط فهناك حديقة بمساحة جيدة، تضم العشرات من أدوات الحراثة والري ووسائط النقل والجر وأدوات المطبخ وغير ذلك الكثير.

مقصورات المهن اليدوية

كما تضم الحديقة مجسماً لمئذنة جامع "المنصور" الشهيرة، ومجسماً لبئر وامرأة تنتشل الماء منه، وعدة مجسمات أخرى، وأستطيع القول أنه يكاد لا يخلو شبر في هذه الدار من قطعة أثرية أو تراثية، ولأن الحديث عن دار التراث يطول، ويصعب كثيراً الإلمام بكافة جوانب المكان، فإنني أدعو الجميع لزيارة هذا المكان الذي تعبنا كثيراً في تأسيسه وتنميته، كي يتنسم زواره رائحة الماضي وعبق التاريخ، أدعوهم ليعاينوا بأنفسهم المكان، وهو الذي سيتكلم عن نفسه، لأنه يبقى «الحكي مو مثل الشوف» كما يقول المثل الشعبي».

ويضيف "العدواني": «لأن التراث ليس هو الملموس والمادي فقط، فهناك تراث لا مادي أيضاً، يشمل العادات والتقاليد ودلالات الأزياء والمعتقدات والفنون الشعبية، لذلك فقد كتبت عدة كتب لحفظ هذا التراث، وهي تحمل العناوين التالية: "الألعاب الشعبية" و"السكن الشعبي" و"الأزياء الشعبية" و"الطب الشعبي" و"الأمثال الشعبية" و"الأكلات الشعبية"، وكل هذه الكتب هي قيد الطبع والنشر الآن، من قبل وزارة الثقافة، وآمل أن ترى النور قريباً، ويفيد منها كل المهتمين والباحثين».

الحاج "فيصل الغانم" وهو من زوار دار التراث قال: «تربطني بهذا المكان علاقة حميمة، فأنا أزوره باستمرار منذ خمس سنوات تقريباً، حيث أسترجع من خلاله سنوات الصبا والشباب الأول، حيث أنني فلاح ابن فلاح، وأغلب ما يعرض في هذه الدار سبق أن عايشته بنفسي، من الألبسة والأسلحة وأدوات الحراثة والري، وأواني المطبخ، والكثير من الأشياء، ولم يبقَ أحد من أحفادي إلا وزار هذه الدار برفقتي، وشرحت له عن مقتنيات الدار، من "الجرجر" و"الغراف" إلى "الرحى" و"الدن" و"السيباط" و"بيت الشعر"، وكنت آمل لو أن زوجتي ـ رحمها الله ـ كانت حية لتزور معي هذا المكان، الذي يعود بالذاكرة إلى الزمن الجميل».