رغم الديوان الشعري الوحيد الذي تمكن الشاعر الراحل "عبد اللطيف خطّاب" من إصداره، وحمل عنوان: "زول أمير شرقي"، فقد سجّل حضوراً لافتاً في المشهد الثقافي السوري، امتد تأثيره لسنوات عدّة.

وحول مسيرته الإبداعية، تحدث لموقع eRaqqa بتاريخ 10/8/2011 الأديب والصحفي "محمد جاسم الحميدي"، قائلاً: «الشعر هو السمة التي أراد أن يُعرف من خلالها حتى إنه كان يعرف نفسه لمن يعرفونه بأنه الشاعر "عبد اللطيف خطاب"، لا يتخلى في التعريف عن صفة الشاعر، والشاعر هو الإنسان العذب الحميم، وهو المارد الذي لا تحده الحدود، والحلم الذي لا تقف في طريقه العوائق والعقبات، وهو الطفل الدائم المندهش مما يألفه الخلق كلهم.

تكمن خصوصية الشاعر السوري "عبد اللطيف خطاب" في أنه خرج عن الطريق الذي سار فيه العديد من الشعراء السوريين الشباب، خاصة في ملتقى جامعة "حلب"، حيث أفرزت هذه الطليعة الشعرية الشابة في منتصف الثمانينيات ما يمكن تسميته قصيدة النثر القصيرة، والتي كتبت على اختلاف عما كان سائداً قبيل السبعينيات، وهذه القصيدة التي لم تكن لها خصوصية معينة إلا في فرديتها ورؤاها، ولعل مجموعة "خطاب" الأولى "زول أمير شرقي" تبرز تلك الخصوصية في تعلقاتها بالتراث واشكالياته ضمن كتابة جديدة مفتوحة ومغايرة في مطرحها ومسلكها الإبداعي

ليست الشاعرية هي أبرز سمات "عبد اللطيف"، بل من سماته المتابعة لكل جديد في الثقافة والإبداع، كانت أعذب أوقاته، وأحلى متعه حين يأتينا في مساء كل يوم بالصحف والمجلات المحلية والعربية، ويتصفحها في مقهى "الواحة"، الذي كان ملتقى للأدباء والمثقفين، وكانت نكهة اللقاء لا تكتمل إلا بالشاعر "عبد اللطيف خطاب"، وهو يفرد الصحف، ويشير إلى ما فيها من جديد في الثقافة والإبداع والسياسة، نتخاطفها منه، نتوزعها وكل منا يرغب باستعارة شيء منها، فيعيرنا إياها كلها حتى إن لم يكن قد قرأها بعد..!‏

الشاعر خطاب في حوار مع العجيلي

يستفزه البعض منا عامداً بآراء متطرفة إلا أنه يتجاوز ذلك غالباً بالسخرية أو التهكم أو المداعبة، وحتى إن غضب وارتفع صوته وخاصمك فإنه لا يتركك إلا راضياً، وإن عزَّ ذلك».

ويتابع "الحميدي" حديثه، قائلاً: «ولد الشاعر "عبد اللطيف خطاب" مريضاً، أو ربما أصيب بمرض أهمل في طفولته سبب له الكثير من الأمراض التي رافقته من طفولته المبكرة إلى آخر يوم في عمره، فأن تعيش وأنت تحمل جملة من الأمراض وتتعرض باستمرار إلى عمليات لرد أخطارها المميتة، كان هذا وحده قادراً على القضاء على أي إنسان، لكن الشاعر تغلب عليها بالسخرية بحب الحياة حتى الامتلاء بالغرق في الحياة اليومية خاصة بالشعر، أجرى عمليات كثيرة، منها عملية القلب المفتوح وظل يهزأ بالموت، تزوج وأنجب وأصبحت ابنته "لين" ديوانه الثاني، بل أغلى من ديوانه الأول لأنه أثبت انتصاره على المرض والموت!‏».

الأديب محمد جاسم الحميدي

ويصف الكاتب "إبراهيم حسو" تجربة "الخطاب" الشعرية بقول: «تكمن خصوصية الشاعر السوري "عبد اللطيف خطاب" في أنه خرج عن الطريق الذي سار فيه العديد من الشعراء السوريين الشباب، خاصة في ملتقى جامعة "حلب"، حيث أفرزت هذه الطليعة الشعرية الشابة في منتصف الثمانينيات ما يمكن تسميته قصيدة النثر القصيرة، والتي كتبت على اختلاف عما كان سائداً قبيل السبعينيات، وهذه القصيدة التي لم تكن لها خصوصية معينة إلا في فرديتها ورؤاها، ولعل مجموعة "خطاب" الأولى "زول أمير شرقي" تبرز تلك الخصوصية في تعلقاتها بالتراث واشكالياته ضمن كتابة جديدة مفتوحة ومغايرة في مطرحها ومسلكها الإبداعي».

ويتحدث الشاعر "أكرم قطريب" حول علاقته بشاعرنا "عبد اللطيف خطاب"، وتجربته الشعرية، قائلاً: « لم تغادرني خفّة "عبد اللطيف خطّاب"، ولا طريقة تأبّطه لمخطوطة "الغرنوق الدنف"، هناك حيث كنّا على موعد في "مقهى الروضة"، التقينا عند مدخل شارع "الصالحية" وضحكة، لطالما أتذكّرها، يرفع نفسه فيها فوق أثقال العالم وضجيجه، ولطالما كان يردّد جملة يحفظها لـ"بول فاليري": "على المرء أن يكون في خفّة الطير لا الريشة"، هنا سيسحب هذا الشاعر العبارة ويُرخيها على اللحظة بوميضه اللغوي وتحبّبه إلى التراث والفكاهة التي تطلع من قلب مصاب نديٍّ، مرَّ نجماً غريباً ونافراً بين شعراء "ملتقى جامعة حلب"، ثم في سماء الشعر السوري. قصيدته أشبه بسيرة مكتوبة على رقيمات طينية ترثي شعوباً وأمكنة غامضة خارجة للتوّ من الماضي أو ما زالت تقيم فيه، مأسوراً لصورة الممالك، وهي تأكلها الأساطير، والكتب المقدّسة، وطبول الحرب والطغيان. قصيدة حالكة السواد كأن أبطالها يخوضون حروباً قديمة، وهم يسقطون في الفراغ اللا نهائي فاقدين الأرض التي يقفون عليها.

الباحث علي السويحة

لم يقف "عبد اللطيف خطاب" على أرض أيضاً، ولم يكن يتبع خطا أحد بأي إخلاص يُذكر. أتت قصيدته من مكان قصيّ هو مزيج من أزمنة وتواريخ وأسلاف وحواضر أخذها دفعة واحدة على شكل أسفار رثائية طويلة للتاريخ واللغة والعالم. مراثٍ كأنها آتية من عصور ما قبل الطوفان».

ويتابع "قطريب" حديثه، قائلاً: « ترك "خطاب" كتاباً مطبوعاً هو "زول أمير شرقي"، صدر لدى دار "رياض الريّس" العام /1991/، ومخطوطَين غير مطبوعَين، هما "الغرنوق الدنف"، و"سفر الرمل". مزامير كَتَبَها وهو يصف القرى التي تزدهر في دول البدو والبابونج، وعالماً كاملاً يدخل في جنازة، لكنها ليست صامتة.

يمكن لي أن أتخيّل الآن ما لا يمكن تفسيره وهو يقطع المسافة من "الرقّة" إلى "دمشق" مخترعاً أعذاراً لزياراته الدمشقية هذه، وكثيراً ما بحث عن صيغة ليجعلها إقامة دائمة، لكن ذلك لم يحصل.

عن العلاقة السرّية بين العطب والشعر كان نص "خطّاب". وعلى هذا النحو ما أنتجه بعض شعراء جيلَي السبعينيات والثمانينيات العربيَّين. كان كتابة آتية من سكرة الموت مع بعض الشغف البطولي بالحياة، لكنه شغف مسروق، وكلّ منهم نجا على طريقته كما فعل "رياض الصالح الحسين" على سبيل المثال.

في "زول أمير شرقي"، وعلى قدر هائل من الافتتان باللغة والحكمة والهبة الفطرية للحدس وهدير أسلوبي عارم، سنعثر على فسيفساء التلاقي بين الشعري والسياسي والتاريخي والمقدّس. عوالم محمولة في ناصية القصيدة لا حدود لتدفّقها التراجيدي. لم نقرأه بعناية وكما يجب؛ هذا الشاعر الذي كان مفرطاً في حداثته وتراثيته ومعنياً أكثر بالكيفية التي ينبغي أن يُكتب بها الشعر».

ويتحدث الباحث "علي السويحة" عن علاقة الشاعر "خطَّاب" بالأدب وبجمعية العاديات التي ترأسها منذ تأسيسها في "الرقة"، قائلاً: «تزدحم في أنفسنا المشاعر وفي أذهاننا الذكريات، حتى تكاد مع الحزن واللوعة أن تخنقنا.‏

لقد عرفته أكثر حين عملنا معاً في حقل الثقافة، جمعية "العاديات"، فكان رقيقاً متواضعاً فيه سمات الشاعر الحقيقي، فيه تسامح وسعة صدر، ولم يحاول ذات مرة أن يفرض رأيه في قرار اتخذ بالأكثرية أو يقول ما لا يقال.‏

كنت أرى الحزن العميق في عينيه، وأن هدوءه ورزانته تجعل ذلك الحزن أكثر عمقاً، ربما كانت ظروفه الاقتصادية هي الخلفية التي بنيت عليها أحواله النفسية، وربما هي مشاكل العمل.. فقد أقحم في مركز عمل.. ولا يقحم نفسه فيه من كان على شاكلته أديباً وشاعراً مثقفاً.. فالأعمال المهمة لها من يفهم عملها.. لأن الإدارات ذات مزايا خاصة.‏

أراد من مركز عمله ذاك أن يتفرغ للأدب والشعر ولجمعية "العاديات"، فالثقافة استحوذت على فكره وعقله.. إلا انه لم يبتعد عنها حتى حين رأى نفسه على فراش المرض في "دمشق" كان يسأل عن النشاطات الثقافية في "الرقة".‏ وزار جميع أصدقائه قبل سفره إلى "دمشق" كأنما قد عرف أنه لن يراهم ثانية أو أنها ساعة الوداع الأخير».

ومن قصيدة "طغيان رمل الموت"، نقبس المقطع التالي:

العلامات الخبيئة، دونتها لتمجيد الرمل، لتمجيد ما لم تمجده النفس،

وأقبعتها الكمائن الكثبانية، لشل قدرة حبائل الطغيان، لكن أحداً منا ما

كان يعاتب أشباحه، أو يرائي سيادة الآلهة الاصطناعية، وما أحد منا كان

يلوث الرمل بيديه المائديتين، غير أن التباشير جاءتنا بالإنذارات

التابوتية، لحمل الأجنة على كف المواسم.

ويقول في قصيدة "تاريخ الجمجمة":

الذي قال لي:

كيفَ

هي الدولة المقبلة؟ كيف حال الضحايا الأنيقين مثل الجلالةِ؟ أما زالوا

حزانى علينا كالميتين القدامى؟ أفي الوجوهِ الحديثةِ آثارنا؟ والرمالُ

الأنيقة تسفونا كالرياحِ الخفيفةِ، وَقْعُ أيدينا عليها؟ وَقْعُ أسماعنا

المذأبَهْ،

بغتةً:

استقبلتنا

الجماجمُ، احتفتنا الجحافل مثل السيول التي تذبح الأرض، وأنا الذي

رافقتني الأميراتُ المسناتُ، وأنا الذي رافقتني أميراتُ الجماجمِ، وأنا

الذي أصلحتُ وضع الأميرةِ على سدة العرشِ، وأنا الذي باغتّها ضاحكاً

بالعبارات الرسوليهْ:

أنتِ

التي لا تنحنين إلا للفحولةِ، أنت جمجمة نُحْتُ عليها مثل نوحي عليَّ،

أنت التي سـاقوك قرباناً على مذبحي، أنت التي ناوشـتْني عذاباتي بيدين من

لازورد، أنت التي باركتِ خصب العفونة، أنت التي باركتِ سيفي، أنت التي

بللتِهِ بالدمعِ، وأنا الذي حرباً على حرب البَسوسِ.

يذكر أن الشاعر الراحل "عبد اللطيف خطاب" ولد عام /1959/م على ضفاف "البليخ"، في منطقة "تل السمن"، شمال مدينة "الرقة" بنحو /30/كم، وهناك عاش طفولة بائسة أورثته أمراضاً شتى، راح يقارعها مبكراً بالتوازي مع مقارعة الظلم والانتصار للحرية، برز كاسم شعري لافت في بداية ثمانينيات القرن العشرين، حينما كان يدرس في كلية الاقتصاد، قسم إدارة الأعمال في جامعة "حلب"، وأسس هناك مع مجموعة من الشباب ملتقى جامعة "حلب" الأدبي، الذي أفرز أسماءً لامعة سجلت حضوراً متميزاً في المشهد الثقافي السوري.

لم يمهل الموت الشاعر "عبد اللطيف خطَّاب"، بل جاء مثل طائر الحوم، سريعاً يختطف أعز ما تملك، لم يحفل به ولا بدواوينه، ومشاكساته، وضحكاته، وحبه للعالم. فقد توفي يوم السبت 21/10/2006 ودفن في مسقط رأسه، وترك وراءه مجموعة شعرية بعنوان "زول أمير شرقي"، مطبوعة في دار "الريس"، "لندن"، ومخطوطات "الغرنوق الدنف"، و"سفر الرمل"، و"ترجمان النوم"، وكتاب عن "تاريخ الكرد"، ومونودراما يتمية، ونشر في الصحف والدوريات العربية والسورية، وأجرى عدداً من الحوارات الأدبية مع كبار الكتاب، ونشرها في حينها.