كثيرة هي الحكايات الطبية التي تشكل حيزاً كبيراً من حيثيات حياتنا اليومية، ويكاد لا يخلو مجلس ممن يتجاذبون الحديث عن الحديث عن الطب والأطباء، أولئك الذين يحاربون دائماً من أجل الحفاظ على سلامتنا، ونجد بعضهم الآخر يتصدر حياتنا الأدبية في الشعر والرواية والقصة، وما الدكتور "إبراهيم ناجي"، والدكتور "عبد السلام العجيلي" إلاّ خيرَا مثلٍ على ذلك.

دخل الطبيب جوانب الشعر الشعبي الرقي، كما دخل جوانب الحياة الأخرى، كيف لا ؟ والشاعر عاشقاً، سقيماً، وكثير الشكاية، وجريحاً يبحث عمن يخيط له جرحه، ولكنه لا يفلح دائماً في شفاء الشاعر.

فلقد لف الطبيب جرحه – في لون "العتابا" - ورغم ذلك لم يشفَ ولم يتحسن حاله، ولم يعد يميز ما بين اللون الأبيض واللون الأسود.

الدكتور عبد السلام العجيلي

لف قندوس جرحي وما شفاني/ ولا نفع بحالـي ولا شفانـي

يوم فراق خلـي ما اشوف آنـي/ السواد من البياض من العمى

من ألوان الشعر الشعبي الفراتي

وقلبه تضغطه الآلام من كلا الجانبين، وهمومه كثيرة، لذلك أتوه بالطبيب الهندي ليعطيه دواءً شافياً:

يا قلبي ما بين جاذبتين تاوزوك/ محمل من هموم الدهر تاوزوك

جــــيبولــي طبيـــب الهنـــــد تـــايزك/ البيابر بالجروح....... المولــــه

أما في "الموليّا": فلقد عجز أشهر الأطباء والحكماء "لقمان الحكيم" عن وصف دواءٍ شافٍ له، وهو متيقن بأن الطبيب الوحيد الذي يستطيع معالجته هو حبيبه، ويطلب منه أن يسرع في علاجه لأن جروحه على وشك أن تؤذيه.

لقمــان جــرح الهوى تاه بتواصيفـو/ لاهو طبيبي ولا آني اصبر على حيفو

جيبم حبيب القلب يداوي على كيفو/ يبري جــــروحي قبـــــل ما يمعنن بيّــــه

ويجدد شكايته ويطلب من الطبيب أن لا يبالغ بشد الجبيرة لأن آلامه تتجدد كلما أوشك على الشفاء:

آنـــي جتلني بحــــرف الــواو والضــــادِ/ اثنين حرمن علـــي النـوم والـــزاد

مكسور ضلعي ترى لا تكرب شدادي/ كلما يطيب الجرح لي تلجمو ليّه

وهو يشعر بألم الجرح، ذلك الجرح الذي يؤلمه دون أن ينزف دماً كغيره من الجروح، وكانت سبباً له تلك" النجود" الجميلة.

الريام جنّا قرن وردن علي ياعم/ بيهن نجود طعنتي وما ظهر لي دم

تـلايمن وجفلـن فزّن وجـمن جــم/ اركض وراهـن واخـــملهن ولف ليّــه

وألمه يشبه ألم اللديغ، لكنه لم يبحث عن علاجه، فدواؤه ليس لدى الطبيب فحسب بل إنه يساءل الشيخ ومعلم القراءة والكتابة علّهم يجدون له سبيلاً للشفاء:

عنّيت يا أهل الهوى عنّة لديغ الداب/ وما شفت يا صاحبي مثلي لديغ نصاب

أسايل أهل العلم الشيخ..... والكتاب/ بلجي بحــرف الكتــب يلقى ســبب ليّه

أما في "النايل" المربع فإن الشاعر يخبرنا بأنه أمسى يشبه الجمل الذي يصك أسنانه ألماً، ولثقل الحمل الذي يحمله أخذ يتكئ على جنبيه وجرحه عند مركز ثقل ما يحمله ولا يشفى ذلك الجرح والجمل لا يدري بجرحه:

ظليت مثل الجمل اصرك على نابي/ من ثقل حمليي انا اتوكى على جنابي

الجـرح جوى الجنب عمّل ولا طابي/ لا الجــــرح يبرى ولا الجـمل يدرا بــــــي

أما في "النايل" الثنائي فإنه يساءل الذئب لما يعوي وكبوده سليمة بينما كبد الشاعر صفراء تشبه الجلد المصبوغ بالدباغ لشدة ما يعاني:

يا ذيب ليش تعوي كبودك بعدهن صاغ/ واني كبودي غدن جلد وعليه دباغ

وفي لون "اللكاحي":

أمسى الشاعر كمن لدغه العقرب، وامتد ألم ذلك السم حتى وصل إلى عظامه، وهو يعلم من هو طبيبه،ويطلب أن يأتوه برضابه علَّ آلامه تخف ويتمكن من النوم:

آني لدغتني العقرب سمها سطا لعظامي/ هاتم من ريج الغالي بلجي اغفي وانامي

ولقد وصفوا له دواءً لعلته عند ذلك الطبيب, ونجده يتوسل إليه كي يعالجه ليتمكن من اللحاق به ولو كان سيراً على الأقدام إن لم يجد مطيةً يمتطيها.

دكتور داو العلة يذكرونك طبيبي/ وان جلت الطايا برجلي لاصل حبيبي

هذا هو الطبيب بكل صوره العلمية والروحية، يؤاخي الشاعر الشعبي الرقي وألمه، ويبحث له عن علاج مرتدياً تلك السترة البيضاء التي طالما كانت سبيلاً لنجاة أغلب مرضاه، لكنه لم يفلح بعلاج ذلك السقيم الذي يعلم بأن حبيبه، هو الطبيب الذي سيجد على يديه الشفاء ليس بوصفة طبية تحمل كلمات لاتينية وإنما بابتسامة خبأها لتدفئة يومٍ شتائي قارصٍ وأسنانٍ براقةٍ تضيء ليلاً أضلّه الطريق.

المراجع:

1ـ "شعراء الموليا في القرن العشرين"، تأليف" "محمد الموسى الحومد"، دار "الغدير"، "السلمية"، عام /2000/.

2ـ "قبسات من الشعر الفراتي"، تأليف "محمد الموسى الحومد"، دار "الصفدي"، "دمشق"، عام /1995/.