عقب كل أمسية أو ندوة شعرية، ينظمها فرع اتحاد الكتاب العرب في "الرقة"، أو خلال أي مهرجان شعري تحتضنه مديرية الثقافة، لا بدَّ أن ترى عدداً من مثقفي المدينة، شعراء كانوا أم أدباء أم فنانين، يجتمعون في منزل أحدهم أو في "كافيتيريا"، يناقشون قضايا الشعر والشعراء، ما بين مستبشر ومحبط.

هذا ما حدث عقب الأمسية الشعرية التي أقيمت في مبنى فرع اتحاد الكتاب العرب في "الرقة" بتاريخ (24/12/2010)، حيث اجتمع عدد ممن حضروا الأمسية في جلسة خاصة، وكان أغلبيتهم من الشعراء والفنانين التشكيليين، وناقشوا العديد من الآراء والقضايا التي تعنى بالشأن الشعري.

لا شك أن للطبيعة التي تحيط بالشاعر أثر كبير على تكوين نظرته الشعرية، وعلى الرموز والمفردات التي يستخدمها، لكن برأيي أن الشاعر المتمكن هو الذي يستطيع أن يقفز فوق المكان والزمان، ويصل إلى كل القلوب، فأنا أؤمن أنه لو أقيمت مسابقة شعرية عام /2011/م، في إحدى الدول العربية، وشارك فيها "المتنبي" بعيداً عن شهرته التاريخية، فسوف يكون الفائز الأول، وكذلك شأن كل المبدعين من شعرائنا، وهذا دليل على أن الشاعر الكبير يفرض شعره في كل مكان وزمان

موقع eRaqqa كان حاضراً في هذه الجلسة، وهناك التقى الشاعر "إبراهيم النمر" فكان معه الحوار التالي:

مداخلة أثناء إحدى الأمسيات الشعرية

** هناك من يحاول تقسيم الإبداع الأدبي تقسيمات جغرافية، أوـ إن صح التعبيرـ تقسيمات إدارية، كقولهم إن "الرقة" مدينة القصة والرواية و"حمص" مدينة الشعر..إلخ، ما رأيك بذلك؟

  • «أرى أن جميع هذه التصنيفات غير صحيحة، فالإبداع الفني وعلى مدى العصور كان وما يزال حالة فردية بحتة، وليس موروث منطقة. قد يصدق هذا التصنيف على الأشياء التي يمكن تعليمها أو تعلمها، كالرياضة والعزف وغيرها. فإذا شاءت الأقدار أن ينبغ شاعر في مدينة ما، فليس ذلك مدعاة للقول بأن هذه المدينة هي مدينة الشعر والشعراء، "فأبي الطيب المتنبي" ولد في مدينة "الكوفة" ولم نسمع إلى الآن عن شعراء كبار خرجوا من هذه المدينة، وهذا الكلام ينسحب تقريباً على كل شعراء وأدباء العالم، فإبداع "العجيلي" هو حالة فردية، وكذلك "الماغوط" و"حنا مينا" و"جبران" و"نزار" وغيرهم، بعيداً عن مدنهم وقراهم».
  • الشاعر محمد الماغوط

    ** أكثر الشعراء الذين لم تحالفهم الشهرة يقولون أن السبب وراء عدم شهرتهم هو بعدهم عن العاصمة وأضواء الصحافة والإعلام، ما رأيك بهذا الطرح؟

  • «كان هذا الطرح ـ سابقاً ـ فيه قدر معقول من الصحة، فهناك العديد من الشعراء الذين كتبوا ونشروا الكثير من القصائد الرائعة على مدى سنوات عديدة، وظلوا غير معروفين إلا في نطاقٍ ضيق، وكان السبب هو البعد عن أضواء وسائل الإعلام وأقلام النقاد وغير ذلك من الأمور التي تساعد على الانتشار.
  • لكن في الوقت نفسه نجد أن هناك الكثير من الشعراء المميزين الذين هم اليوم من أشهر شعراء سورية، لم يصلوا إلى هذه الشهرة عن طريق ما ذكرناه من وسائل، فقصائدهم كانت كافية لوحدها أن تشق طريقها بثبات وسرعة نحو الظهور والانتشار، ثم أن دور وسائل الإعلام لم يعد كسابق عهده في فترة التسعينيات من القرن العشرين وما قبلها، وذلك بعد انتشار "الإنترنيت"، الذي يعتبر اليوم من أهم وسائل تبادل المعلومات، خاصة مع وجود مئات المواقع الإلكترونية الأدبية العربية، التي تضع أمام القراء في كل أنحاء العالم، الآلاف من النتاجات الأدبية للشعراء وبشكل مجاني».

    ** قيل سابقاً: «من حفظ ألف بيت شعر أصبح شاعراً»، فهل هناك طريقة ما لصناعة شاعر كبير، كالتعليم والحفظ والدعم والتشجيع وغير ذلك من الوسائل؟

  • «قد يناسب هذا القول العصر الذي قيل فيه، لكن لا أعتقد أن هذه المقولة سارية المفعول في عصرنا الحالي، خاصة بعد ظهور العديد من المدارس الأدبية والفنية الحديثة، لكن يبقى للمخزون اللغوي والفكري الذي يحتفظ به الشاعر أثر كبير على أعماله، فلا أتصور أن يصبح شخص شاعراً ـ ولو كان موهوباً ـ دون أن يقرأ شعر غيره أو يقرأ الأجناس الأدبية الأخرى من قصة ورواية ومسرح، بالإضافة لاطلاعه على العلوم المتنوعة من تاريخ وفلسفة وغيرها.
  • أما عن فكرة صناعة شاعر، فهذا ضرب من المستحيل، وأذكر هنا مثلاً شعبياً أوروبياً يقول: «ثلاثة أشياء لا يمكن تعلمها: الكرم والشعر والصوت الحسن»، وخلاصة القول هي أن الشاعر كاللؤلؤة التي يمكننا اكتشافها ولا يمكننا ـ بحال من الأحوال ـ أن نصنعها، واللآلئ أصناف، فهناك اللؤلؤة الكبيرة الناصعة المبهرة، والمتوسطة والصغيرة، وكلها في النهاية تنتمي لذات العائلة، وهذا الكلام ينسحب على كافة جوانب الإبداع الفني والأدبي وحتى العلمي».

    ** هل تؤمن بأن الشاعر الكبير هو الذي يكتب ـ لخصوبة قريحته الشعرية ـ كمَّاً كبيراً من القصائد؟

  • «قطعاً لا، فالكم لم يكن يوماً ـ وعلى كافة الصُّعد ـ نداً للنوع أو الكيف، وعلى سبيل المثال، فأنا لم أقرأ للشاعر الدكتور "إبراهيم ناجي" سوى قصيدتين هما "الأطلال" و"القيثارة"، وصدقاً لو أنه لم يكتب غيرهما لما ترددت لحظة باعتباره شاعراً عملاقاً، وأذكر هنا ما كتبه الشاعر "نزار قباني" في مقدمة ديوانه الشعري "الحب"، حيث يقول:
  • «كنت أؤمن أن الشعر هو خلاصة الخلاصة، وأن أي محاولة من الشاعر لمطِّ صوته بطريقة مسرحية ومدِّ انفعاله على سطح أوسع، يخرجه من حديقة الشعر ويدخله في سراديب الثرثرة الشعرية، الثرثرة الشعرية هي فجيعة شعرنا العربي، ونظرة واحدة إلى أهرامات القصائد العربية القديمة توضح لنا أننا تكلمنا أكثر من اللازم، الشعر هو خلاصة الخلاصة ـ كما قلت ـ لذلك كان أعظم الشعراء هم أولئك الذين كتبوا بيت شعر واحد وماتوا بعد كتابته مباشرةً»، وأنا شخصياً أعرف الكثير ممن كتبوا المئات من القصائد التي لم ولن يقرأها سواهم، فحسب شعراء المعلقات ما كتبوه من قصائد علقت على جدار الكعبة، وحسب "جبران" قصيدة "سكن الليل" وحسب "شوقي قصيدة "البردة" و"الماغوط" ما كتب في ديوان "الفرح ليس مهنتي" وحسب "رياض صالح حسين" ديوان "وعل في الغابة".

    وبعيداً عن الشعر وقريباً من الموسيقا التي تعتبر توأماً للشعر، تخيلوا معي أن الموسيقار "محمد عبد الوهاب" لم يلحن سوى "كليوباترا" و"الجندول" و"النهر الخالد" و"الكرنك" و"الهوى والشباب"، أو "سيد درويش" لم يقدم سوى "بنت الشلبية" و"طلعت يامحلا نورها" و"فريد الأطرش" لم يلحن سوى تانغو "يازهرة في خيالي"، ماذا سنقول عنهم؟؟ هل سنقول أنهم أناس عاديون؟ أعتقد ـ ودون أدنى شك ـ أنهم لو قدموا هذه الأعمال فقط وماتوا بعد ذلك لاعتبروا من أعظم موسيقيي العالم».

    ** ما مدى تأثير الطبيعة على الشاعر؟

  • «لا شك أن للطبيعة التي تحيط بالشاعر أثر كبير على تكوين نظرته الشعرية، وعلى الرموز والمفردات التي يستخدمها، لكن برأيي أن الشاعر المتمكن هو الذي يستطيع أن يقفز فوق المكان والزمان، ويصل إلى كل القلوب، فأنا أؤمن أنه لو أقيمت مسابقة شعرية عام /2011/م، في إحدى الدول العربية، وشارك فيها "المتنبي" بعيداً عن شهرته التاريخية، فسوف يكون الفائز الأول، وكذلك شأن كل المبدعين من شعرائنا، وهذا دليل على أن الشاعر الكبير يفرض شعره في كل مكان وزمان».
  • ** في نهاية هذا الحوار، هل تسمعنا شيئاً من الشعر؟

  • «آخر ما كتبت، هو عدد من المقاطع الشعرية، أختار لكم بعضاً منها:
  • 1- لقيا: وحين وجدتك بين ضلوعـي

    وحين وجدتك في حضن قلبي

    جمعتُ الغـلال....

    رسمت لوجهكِ ظلاً جميلاً

    من الخبز

    والخمر

    والانفعال.

    2- أسرار: عندما دارت برأسي

    ألف ناعورة فكـرٍ

    كم تخيلت ميـاهاً

    واخضراراً

    وجمالا...

    عندما ودعت بوحي

    حائط الأسرار مـالَ.

    3- من أجل أن تبقى الكؤوس مليئةً

    كان الغناء وكانت الأشعار..

    فالبحر ـ لولا الماء ـ قاعٌ صفصفٌ

    والأرض لا روض ولا أشجار».

    جدير بالذكر أن الشاعر "إبراهيم النمر" من مواليد "الرقة" عام /1965/، عضو اتحاد الكتاب العرب "جمعية الشعر"، صدرت له ست مجموعات شعرية وهي: بلاغات شعرية/1988/، والزمن الوحشي /1992/، وماجد /1995/، وخيل الحنان /2002/، مناديل الليل /2004/، صباحات ملونة /2009/.