ممّا لا شكّ فيه أن الشكل في النّص الأدبي، هو نتاج لقيم الملفوظ اللغوي، المُتمثل في المتغيرات الأسلوبية، ما يؤدي إلى تنوع الطرق التي نتناول بها المواضيع المُراد إرسالها إلى المتلقي، أو القارئ حسب مقتضى الحال، وفي مجموعة الأديب "سامي حمزة" الصادرة عام /1999/م عن اتحاد الكتاب العرب "الدم.. حبراً"، أول ما يلاحظ تلك الروابط الناظمة لبيانه الأدبي، الذي أخذ شكل القصة:

«امسح الدمع من عينيك أيها الحبيب ولا تشهق، فالدهشة ليست في أن أموت وأنت تنظر إليّ عاجزاً، فلا تمعن في إيلامي متلهفا لسماع الوصية، هي رغبتي أيضاً، ثق بذلك، وإن لم تكن كما تبتغيها، لكنها آخر ما قاله جدي لأبي، وآخر ما أفضى به لي جدك، وهو في النزع الأخير، وليس لديّ أهم منها أختم بها ما تسمعه منّي، فها أنت ترى كم عُمرت، وإن لم أتجاوز الخمسين بعد، إلا أنه في زمن القهر عمر مديد».

وإن لم أتجاوز الخمسين بعد، إلا أنه في زمن القهر عمر مديد

هنا حيث المكونات المتعارضة للدلالة ثمة ما هو قائم على العلاقات، التي يمكن للنص أن يتبناها في مواجهة عالم الأشياء القابل للتصور والمعالجة، من حيث أن العلاقات المعرفية تنظمها "حقيقة" الأحكام، والعلاقات العملية ينظمها "نجاح" الأعمال، وهكذا فإن نجاح العمل يتعلق بصحة المحاكمات التي تدخل في مشروع العمل، كما يقول "هبرماس" في كتابه القول الفلسفي للحداثة. ولو أننا تتبعنا مفردات المقبوس الذي أوردناه لوجدنا أن أفعال الأمر «امسح الدمع، ولا تشهق، ثق بذلك». تقابلها منظومة أخرى من المفردات التي تجعل من تلك الأفعال في بنية النص، وليست متعالية عليه، مما يؤدي إلى تجذير الصلة بين الدال والمدلول. «آخر ما قاله، آخر ما أفضى، ليس لديّ أهم منها». وإذا أمعنا النظر بخاتمة المقطع المقبوس، نجد أن القاص لم يترك للقارئ فرصة للتأويل، فقد ختم ما تقدم بحتمية معرفية ذات منطق تبريري متداول في الإطار الاجتماعي للكاتب «وإن لم أتجاوز الخمسين بعد، إلا أنه في زمن القهر عمر مديد».

غلاف المجموعة

من على شرفة ما تقدم، فلا مندوحة إذاً من أن نأخذ الأصل الذي انحدرت منه أنظمة الكاتب اللغوية، ومقاربتها معرفياً، بعد أن أصبح القبض على المعنى من وهم الحقائق المتخيلة، لإبراز خصوصية الخطاب الإبداعي في هذه المجموعة "الدم.. حبراً" والبحث عن القوانين التي تتشكل بها العبارات المكونة لنصوص المجموعة، فكثافة المداليل ليست بالضرورة مراحاً لكثافة المعاني، فالمعاني تعنى بالترابط والانسجام، غير أن المداليل فردية البعد باعتبارها تنطلق من مفاهيم، وقد كانت هذه إحدى الملاحظات على بنية النص في كتابات "سامي حمزة". لم يكن في وقت من الأوقات، يختلف عمّا هو عليه الآن، ولم يظهر في سابقات أيامه بغير ما يظهر به حالياً، فقد كانت وما زالت له مقدرة تدثير انفعالاته بدثار يخفي بين طياته، «الكثير مما يترجرج كمويجات المستنقع في أعماقه، وهو يوشّي فمه بابتسامة، لفرط رقتها تنداح كفرح طفوليّ».

في هذا النمط تتجلى منهجية الكتابة الأداتية (الشكل يخدم الموضوع) التي تقدم نفسها بصورة شمولية، بكل زخارفها اللغوية، وقد تجلّى خيار الكاتب بالطريقة التي استخدم فيها معطيات اللغة في مواجهة الشكل السائد، باعتبار الكاتب- أي كاتب- مسؤول عن طرائق الكتابة التي يستخدمها كما يقول "رولان بارت"، من حيث أن الفن ليس رؤية بل خلقاً، بصيغة التتابع، ابتداءً من أصغر خلية (الحرف) مروراً بالكلمة والجملة، والمقطع والنص، بيد أنه ليس بمقدور أي كاتب أن يمضي في سباق التتابع هذا.

وفي هذه المجموعة ثمة انقطاعات كثيرة في سباق الكاتب نحو النص المنجز، أما على صعيد المجموعة "الدم حبراً" فإن القصص المؤلفة منها المجموعة ليست كلها مشاركة في هذا السباق الممنهج، كما في قصة "عشق الرمان": «أيتها الكواعب الرشيقات، أنتن فصول العمر بشرخه وصباه، قربان من جعلكن ممشوقات، وهاتيك الغصون كأنامل الحسان، جئتكن أقلم أظافركن، وأمشط شعوركن، يا شمسه الفرعاء، وقمر الرشيقة، أنت هواي الأول، وذي فاتنة شبابي، وهذه رؤى الرد فاء خاتمة العشق والنساء، و... غرستكن بيدي، مثلما زرعن في قلبي فرحاً، فلكل عيدانه منكن توأم وتستيقظ في البكور لتبدأ العمل، وتهزأ ممن يستخدمون السماد الكيماوي، مصرّاً على نثر روث أفراسك سماداً لها».

في هذا المقطع لم تعد اللغة حاملاً موضوعيّاً للبيان القصصي، فالتعثر الواضح للتعبير، والغربة التي تعانيها المفردات في اجتماعها النصّي، إذ ما من صلة نوعية بين ما يُراد قوله، وبين صياغة ما قيل تجعل من متابعة قصص المجموعة وفق ناظم واحد شبه مستحيلة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى ثمة تفاوت بين قصة وقصة من قصص المجموعة: «وحين مدّ السقاء يده بالإناء إليها، وجدهما هائمين بعضهما ببعض، فأرجأ أمر الماء، وراح يرقبهما وقد أعاداه إلى بعض من عشقه الأول، وقطع العسكر عليهم تساميهم، فسقاهم وانصرفوا بضوضاء، وفجأة انتبه السقاء إلى ما يشبه الكارثة، ومضى "نعمان" حاملاً الإناء عن أبهى، ابتسمت حذرة من عيون قريناتها، وقد تغامزن، فتجهمت وارتبك، وأفلت لحظة التسامي حين علا صوت السقاء منذراً».

وفق هذا التباين كانت مجموعة الأديب "سامي حمزة"، التي بين أيدينا!! فهو غالباً ما يجعل المدلول صورة ذهنية متخيلة، غير قابلة للتجسيد، فتتعطل الدلالة، وتسود فوضى القراءة، فوضوح العلاقة بين الطرفين (الدال والمدلول) يجعل المعاني في كنف أنساقها، دون أن يسلب النص حقه من أن يقيم على أرض الاختلاف كينونته، وأن يرتحل في صيرورة مغايرة، من حيث أن "الإنسان موجود باللّغة وفيها".

ثمة مقاطع في بعض القصص يسيطر عليها تناسل الدلالات، وكأنها كتبت لتختصر البعد الاجتماعي فيها «تحلّب الدم في عروقي، كماء ينزّ من صخرة، فلا يتصل قطره، وطفق غم وشيء من الهم يغشيان الحشا، وفي الحين نفسه اصطفقت حبة القلب ببطانة تجويف الصدر، تدعك اللحم بغضاريف عظم القص والضلوع، كمطرقة تهدّ جدار دكه زلزال للتوّ، فباتت كوة فيه على وشك الحدوث.

  • أبتأثير المفاجأة؟ أم تراه الخجل؟ أم هو الخوف؟
  • لحظة أحب أن أنساها، ولكن أنّى لي ذلك، وهي وشم على شمم نبل اليفاعة».

    في الختام نستطيع القول إن ما تم رصده عبر مفاصل هذه القراءة من أحداث وأفكار ومواقف لم تستطع اللغة المحمول عليها أن ترفعه بموازاة حلم الكاتب، فهي استحوذت واستقطبت أطرافاً من التعبير كثيرة التنوع، وظاهرة التفاوت والتعارض أيضاً!! لقد حاول الكاتب الوصول إلى طبيعة الشيء الذي أنشأه، فهل وصل إلى القصة /الحلم؟؟

    المراجع:

    1- "القول الفلسفي للحداثة"، "هبرماس"، ت: د. "فاطمة الجيوشي"، وزارة الثقافة، "دمشق"، /1995/م.

    2- "رولان بارت"، "فرانك ايفرار"، "دار الينابيع"، ت: د. "وائل بركات"، "دمشق"، /2000/.