التجاعيد المرسومة على وجه "صفية عبد العيسى" تشي بأن ما مضى من سنين أفلت، لم تجلب لها إلاّ الهم والكدر، رغم ضحكتها الممزوجة بالمرارة، والتي تفضح ما بداخلها، فهي تقابلك بالبشر، وتدعو لك بطول العمر المديد، وترحب بالقادمين، وكأنها تسرق لحظة فرح من الذين تذكروها منذ غابر الأيام..

"صفية" طوت وراءها ثلاثة قرون من الزمن، وعاشت في زمن كان يعد ناسه الأيام بالحوادث، فهي شهدت سنوات "القحط" و"الجوع" و"الطامة الكبرى" و"السفر برلك" و"أم شراشب" وغيرها من التواريخ التي يؤرخ بها أهل "الرقة"، فبطاقتها الشخصية تشير إلى أن تاريخ ميلادها قد وقع في "كديران" من أعمال "الرقة"، عام /1897/م، عاشت كل هذه السنين وهي تنظر إلى أولادها وأحفادها الذين تجاوزوا /125/ ولداً وحفيداً في نفس القرية التي راحت تكبر إلى أن غصّت بساكنيها.

رغم كل هذه السنوات التي مرّت، فأنا أشعر بأن طفولتي كانت بالأمس القريب، أتمنى أن أكمل أيامي الباقية في عبادة الله، ورصيدي في هذه الحياة محبة أولادي وأحفادي والجوار، وأن أنال في هذه الخاتمة زيارة "مكة" و"المدينة المنورة" لأداء فريضة الحج، رغم أنني أعرف جيداً حالة أولادي المادية التي بالكاد لا تكفيهم سد حاجاتهم اليومية، التي لا يفيض منها ما يؤمن لهم أداء واجبهم تجاهي

موقع eRaqqa التقى المعمرة "صفية عبد العيسى" بتاريخ 1/4/2011 في بيتها في قرية "كديران"، حيث بدأت تروي حكاية سنواتها التي جاوزت المئة والأربع عشرة، قائلة:

صورة لهوية المعمرة

«كانت قرية "كديران" لا تتجاوز أربعة بيوت، وسكانها لا يتجاوزون الخمسين نفراً، عشت طفولة بائسة على ضفاف نهر "الفرات"، حيث جلّ أهالي القرية يعملون بالرعي، وتربية الأغنام والدواجن، وفيما بعد عرف أهل القرية عملاً جديداً أضافوه إلى أعمالهم السابقة، فقد انتشر أهالي القرية والقرى المجاورة على ضفاف "الفرات" لجمع نبات السوس، فقد كنا نجوب الضفاف باحثين هنا وهناك، نكدس جذور السوس بانتظار أن يأتي وكيل شركة السوس ليشتري ما جمعناه بثمن بخس لا يكفي لسد ما نحتاجه من مأكل وملبس.

طفولتي لم تمتد طويلاً، فقد باغتني أهلي بتزويجي، ولم أكن أعرف في يومها معنى الزواج، ففي ليلة الزفاف هربت باتجاه النهر، كنت حافية القدمين، جلست هناك أفكر بمعنى الزواج، وجدتني أمي، ألقيت نفسي بحضنها الدافئ، وقلت: ما معنى الزواج؟ فردّت علي أمي: الزواج بناء بيت وإنجاب أولاد.. بيت لك وحدك يا بنتي، لا يقاسمك أحد فيه غير زوجك الذي سيكون أباً لعيالك، بقيت لمدة سبع سنوات حتى أنجبت ابني البكر.

المعمرة صفية مع أولادها وأحفادها

كان زوجي "أحمد العيسى الأعرج" رحمه الله يعمل بجمع السوس، ويمتهن العزف على المزمار في الأفراح والأعراس، ويأتي آخر الليل مهدود الحيل، كنت أصحبه في شبابي، وأشارك في الدبكات التي تعقد في أيام الفرح في "كديران" والقرى المجاورة، البعيدة والقريبة، وأجيد دبكات أهل المنطقة كلّها، "الديرجة" و"الولدة" و"القوصار" و"الأسمر"، وفي الأيام الخوالي يجالسني وهو يعزف على المزمار، وكأنه يعاتب الزمن، الذي جار عليه، فقد كان أعرج جراء شلل أصاب ساقه الأيسر في طفولته، التي لم تشهد الفرح إلاّ في أيام الأفراح، كان يعزف بحب، وكنت أهيم بعزفه، وأنا أردد بعض الأغاني إلى أن يغلبنا النوم، متوسدين الحصائر والخرق البالية».

وتضيف المعمرة "صفية" قائلة:

المعمرة تتحدث لمراسل الموقع

«لم أعرف المرض إلاّ منذ سنوات قليلة، فقد أجروا لي ثلاث عمليات جراحية، وأنا الآن أعاني من مرض التهاب الكبد، زرت مدينة "الرقة" مرات عديدة، أغلبها لمراجعة الأطباء والمشفى، وتنقلي كان ضمن حدود القرية، وتعداها للقرى القريبة، ولم أسافر إلى مدينة أخرى، رغم أنني كنت أتمنى من الله أن يكسبني أداء فريضة الحج، لكن ماذا أفعل واليد قصيرة، والأحلام بعيدة المنال.

أنشأت أولادي على محبة الآخرين، والعمل الصالح، وأنا أصلي وأصوم منذ أن وعيت على الدنيا، وأنا سعيدة وأنا أرى أولادي وأحفادي يعملون، ويقدمون لي كل ما أحتاجه، فهم يبادلوني الحب، ويتفقدوني دائماً، رغم أن البيت مملوء بهم على الدوام، الله يكثرهم ويكثر خيرهم، وأنا لا أطمع بشيء من الدنيا، فما يقدم لي يكفيني ويزيد».

وتختتم المعمرة "صفية" حديثها، قائلة: «رغم كل هذه السنوات التي مرّت، فأنا أشعر بأن طفولتي كانت بالأمس القريب، أتمنى أن أكمل أيامي الباقية في عبادة الله، ورصيدي في هذه الحياة محبة أولادي وأحفادي والجوار، وأن أنال في هذه الخاتمة زيارة "مكة" و"المدينة المنورة" لأداء فريضة الحج، رغم أنني أعرف جيداً حالة أولادي المادية التي بالكاد لا تكفيهم سد حاجاتهم اليومية، التي لا يفيض منها ما يؤمن لهم أداء واجبهم تجاهي».

من الجدير بالذكر أن قرية "كديران" من القرى الكبيرة في محافظة "الرقة"، إذ يتجاوز عدد سكانها عشرة آلاف نسمة تقريباً، وتقع على ضفاف بحيرة سد "البعث"، وتبعد عن مدينة "الرقة" نحو /30/كم غرباً، وهي من القرى الواعدة سياحياً، فشاطئها على ضفاف البحيرة يمتد على طول ثمانية كيلو مترات، وهي مؤهلة لقيام مشاريع سياحية كبرى عليها، ويقع بالقرب منها كهوف "سحل الخشب"، وخان "دامان" الأثري الذي يعود إلى الفترة البيزنطية، وكان عامراً في العهدين الأموي والعباسي، إضافة إلى العديد من المقابر البيزنطية التي تنتشر على ضفاف نهر "الفرات".