الدكتور "إحسان العليوي" واحد من جيل الشباب الذي نشأ في هذه البيئة، وليستمر في تحصيله العلمي والثقافي والاجتماعي، هو الشخصية الاجتماعية المتميزة في "الرقة"، وهو الطبيب الناجح، وقبل هذا وذاك هو المثقف الذي بدأت علاقته مع المكتبات والكتب منذ طفولته الباكرة.

موقع eRaqqa التقاه في بيته، وحاول معه في هذا الحوار نبش الذكريات الجميلة لأيام مضت تحمل معها وجع وآلام الناس، وليظل مسكوناً بها، طالما النبض في العروق.

المكتبة هي الكتب، والكتاب هو الفكر الموجود فيه، والفكر هو الذي كونني بما أنا عليه الآن، أي إن الدكتور "إحسان العليوي" هو نتاج لما هو موجود في مكتبته، وهذه المكتبة هي جزء مني. وهذه علاقة متبادلة لأن الكتاب عندما يقتنى، من المؤكد أن الشخص الذي اقتناه لم يختره لا على التعيين، وبالمقابل تكوين هذا الشخص هو الذي دفعه إلى أن يختار هذا الكتاب، بعنوان معين، ولكاتب معين، وأتى هذا الاختيار من قضية تراكمية لمدى سنوات، وتراكم معرفي أتى من الكتاب. علاقتي مع الكتاب علاقة خاصة، وتعاملي معه أيضاً ومن يرى كتبي لا يظن أن أحدا قد قرأها، أو استعملها، فأنا لا أحب أن أثني أي صفحة من صفحاته أو أن أطوي الكتاب من أحد أطرافه عند القراءة، وذلك لأن الكتاب لدي له قدسية خاصة، ووصلت لدرجة عدم رغبتي بإعارة أي كتاب، لأن تعاملي مع الكتاب فيه نوع من التقديس وإذا وجدت أحد أطراف كتبي مثنية، فهذا يعني بالنسبة لي أن أحداً ما أساء لهذا الكتاب أو استعاره

يقول الدكتور "إحسان العليوي": «ولدت في عام /1955/م، في قرية طينية منسية، تقع على ضفاف الفرات تدعى "كديران"، لم تذكرنا الحكومة آنذاك إلا بمخفر شرطة ورثته من حكومة الاستقلال من الفرنسيين، لا يوجد فيها مدرسة أو مستوصف، وكان التعليم في منطقتنا بشكل عام نادراً جداً، وقليلون هم الأشخاص اللذين يعرفون أن يفكوا الخط.

إحسان عليوي في عيادته

وكان والدي من المعدودين والنادرين ممن يعرفون القراءة والحساب، وتعلمت في هذه القرية، وكنا الدفعة الثانية من مدرستها أيام الوحدة /1960/م، وكانت عبارة عن غرفتين طينيتين، وبقيت في هذه المدرسة إلى الصف السادس، وبعدها في عام /1967/م انتقلت إلى مدينة "الرقة"، حيث درست الإعدادي والثانوي في مدارسها، وبعدها التحقت بجامعة "دمشق" كلية الطب البشري في عام /1979/م، وتابعت دراسات عليا اختصاص أذن أنف حنجرة إلى عام /1982/م، وفي نفس العام عدت إلى "الرقة"، وكنت أول اختصاصي أذنيه في المحافظة، وبدأت حياتي العملية في المشفى الوطني، وأديت خدمة العلم في المشفى ذاته لكوني الاختصاصي الوحيد في مديرية الصحة، وأنا على رأس عملي إلى هذا التاريخ».

وحول علاقته بالمكتبة، واقتنائه هذه المكتبة، يقول: «حقيقة يعود الفضل الأول بتعلقي بالقراءة إلى الوالد رحمه الله، الشخصية المتفردة بالقرى الذي يعرف القراءة والكتابة، وكان لدينا مجموعة كتب في المنزل أذكرها جيداً مثل "كوخ العم توم" والكتب المترجمة والدوريات مثل "العربي" و"المختار"، وكان منزلنا الوحيد في المنطقة يحتوي على جهاز راديو يعمل على البطاريات الجافة، هذا الجو في المنزل جعلني أعتاد على القراءة، بمعنى أنه كان لدي وسائل تسلية مختلفة تماماً بالنسبة لأي طفل في القرية، لدرجة أنني لم أكن أخرج من المنزل أو ألعب ألعاب الأطفال، وبدأت مشواري في القراءة بالكتب والدوريات الموجودة في منزل والدي، وكنت أنتظر صدور مجلة "العربي" وأفهمها جيداً وأحفظها غيباً، ولا أنسى عندما سأل الأستاذ في المرحلة الابتدائية عن معنى تفسير قوس القزح، وأجبته.. فسألني من أين أتيت بهذه المعلومة فقلت له من مجلة "العربي"، وفي اليوم الثاني أتى الأستاذ وزار والدي وقال له أهنئك لأنك تحوي كتباً في منزلكم، هذا شيء رائع.

القراءة طقس يومي في العيادة ومكتبة المنزل

بعدها انتقلت إلى "الرقة" في الصف السابع وكنت من المتفوقين وأول ما تعرفت على مكتبة "أبو زهرة"، للسيد "أحمد الخابور"، هذا الرجل الوراق العظيم الطيب كان يؤمن لنا الكتب علماً أن الكتب كانت رخيصة وأي كتاب بربع ليرة ولكن لم يكن أحد لديه مال، وكان نبيهاً ويحفظ الوجوه التي تترد إلى المكتبة وعندما يشعر أن شخصاً لديه الرغبة في القراءة يعيره الكتب، بالإضافة إلى الاستعارة من المركز الثقافي.

ففي تلك الفترة كان الأساتذة يشجعون على القراءة ويكلفوننا بجزء من الوظائف الشهرية بكتاب معين لقراءته وتلخيصه وتقديمه في اليوم التالي، ويمنحون الطالب الذي يحصل على أعلى درجة في المادة كتاب، وأول كتاب حصلت عليه من أستاذي "صباح جعفر" لحصولي على أعلى علامة بمادة اللغة العربية، وهو "ليالي سطيح"، وبعدها "الشيخان"، فقال لي على هذا الحال ستحصل على جميع الكتب لذلك بدأ يمنح كتبا للطلاب الذين يحصلون على المرتبة الثانية والثالثة، كنا مجموعة من الشبان نتنافس بين بعضنا من قرأ أكثر، واليوم أصبحت مجموعة كبيرة منهم في حقول ثقافية معروفة مثل الأستاذ "محمد جاسم الحميدي"، وهو روائي وقاص وصحفي، والأستاذ "أحمد المصارع" قاص وروائي، والدكتور "عبد لله أبو هيف" الروائي والقاص والناقد السوري، والفنانين التشكيليين المعروفين الدكتور "أحمد معلا"، والأستاذ "طلال معلا"».

الدكتور "إحسان العليوي"، لا يعيش حياته بمعزل عن الكتاب، أما كيف يوفق بين حياته كطبيب، وبين حياته كمثقف، فيقول: «الطب واحدة من المهن التي يمارسها أي إنسان، وأنا أجد متعة حقيقية في ممارسة مهنة الطب، وخاصة في المواقف الإنسانية، لأننا نتعامل مع شرائح مختلفة من الناس، والمتعة الأكبر تكمن عندما أقدم خدمة لشخص يحتاج لمساعدتي الحقيقية، وأشعر براحة تامة عندما أحل مشكلة أي إنسان سواء في "الرقة" أو خارجها، هذا الشعور ينسيني التعب ويساعد في استقراري النفسي، فأنا أمارس عملي في "الرقة" منذ /30/ سنة، وبعد فترة من الممارسة اليومية المتكررة، خاصة أن 70% من الحالات تقريباً التي نشاهدها تكون متشابهة مع اختلاف الوجوه والأشخاص، هذا الجانب العملي في حياتي ولا يعقل لأي إنسان أن يحصر حياته في جانب واحد، لأن كل إنسان لديه طاقات بشرية هائلة، وأنا أشعر بأني لا أستهلك كل الطاقة التي أملكها، وأشعر بالدهشة عندما أسمع شخصاً ما يقول: أشعر بالملل، ولا أعرف ماذا عليّ فعله ببقية يومي؟ وبالمقابل هناك شخص يقول: أنا أركض طوال النهار ولا أجد متسعاً من الوقت! وبحسب قناعتي الشخصية، اليوم هو عبارة عن /24/ ساعة وهي فترة زمنية ممتازة ومفيدة جداً لمن يحسن التصرف بها.

أنا مثلاً بعد انتهاء دوامي في العيادة ألتقي مع مجموعة من أصدقائي لدينا كل يومين ساعة أو ساعتين (ساعة حرة) نتناقش بقضايا عامة وقضايا ثقافية، وعندما أعود إلى المنزل مساءً، أجلس أمام شاشة التلفزيون لفترة قصيرة لسماع نشرة أخبار، وجلّ وقتي أقضيه في القراءة، ولدي كل يوم ساعتين على الأقل قراءة كحد أدنى وهي قراءة متنوعة، ولكن بشكل عام وفي العشرين سنة الأخيرة أخذت منحى ثقافيا عاما تاريخيا سياسيا وبشكل عام تتصل بالجانب الفكري.

أما الجانب الأدبي فأقل لأني عندما ما أرى عملا أدبيا أقرؤه بعين الشخص الذي يبحث عن قضية سياسية أو قضية فكرية موجودة، أي المتعة الأدبية الخالصة، الصياغة، والأسلوب، والبيان، من الممكن أن استمتع بها ولكنها ليست هي ما أبحث عنه في أي عمل أدبي لأني أبحث عن النتيجة النهائية، أي ماذا يريد هذه الكاتب أن يقول؟».

ويصف "العليوي" علاقته بمكتبته، قائلاً: «المكتبة هي الكتب، والكتاب هو الفكر الموجود فيه، والفكر هو الذي كونني بما أنا عليه الآن، أي إن الدكتور "إحسان العليوي" هو نتاج لما هو موجود في مكتبته، وهذه المكتبة هي جزء مني. وهذه علاقة متبادلة لأن الكتاب عندما يقتنى، من المؤكد أن الشخص الذي اقتناه لم يختره لا على التعيين، وبالمقابل تكوين هذا الشخص هو الذي دفعه إلى أن يختار هذا الكتاب، بعنوان معين، ولكاتب معين، وأتى هذا الاختيار من قضية تراكمية لمدى سنوات، وتراكم معرفي أتى من الكتاب.

علاقتي مع الكتاب علاقة خاصة، وتعاملي معه أيضاً ومن يرى كتبي لا يظن أن أحدا قد قرأها، أو استعملها، فأنا لا أحب أن أثني أي صفحة من صفحاته أو أن أطوي الكتاب من أحد أطرافه عند القراءة، وذلك لأن الكتاب لدي له قدسية خاصة، ووصلت لدرجة عدم رغبتي بإعارة أي كتاب، لأن تعاملي مع الكتاب فيه نوع من التقديس وإذا وجدت أحد أطراف كتبي مثنية، فهذا يعني بالنسبة لي أن أحداً ما أساء لهذا الكتاب أو استعاره».

بالعرف الثقافي العام يقال "إن المكتبة يجب أن تكون بعيدة عن اختصاص مقتنيها، تجنباً للإشباع الذي يقود إلى النفور والضجر"، فهل مكتبته طبية تخصصية، أم إنه قطف من كل بستان زهرة، ويقول: «المرحلة الأولى امتدت من طفولتي إلى المرحلة الثانوية والمرحلة الأولى من الجامعة، كانت اهتماماتي الأدبية أوسع، كنت متابعاً أدبياً لما ينشر في مجال الرواية والشعر، وفي منتصف السبعينيات بدأ الاهتمام الأدبي يتراجع، وأصبحت الكتب التي تتناول القضايا الفكرية والتاريخية والسياسية، هي الطاغية في مكتبتي، هذا دون الكتب الطبية الاختصاصية.

أما الجانب الثقافي العام، فالكتب الأدبية قليلة إلى حد ما، ولكتاب معينين، ما عدا إهداءات أصدقائنا الكتاب والروائيين، وأنا ملزم بقراءتها لأني سوف أناقشهم بها، وفي عام /1975/ و/1976/ كانت قراءتي على مستوى التاريخ العربي الإسلامي محدودة، ربما لأن الإصدارات كانت قليلة في تلك الفترة، لكون المد الشائع هو الأدب التقدمي والفكر الاشتراكي والكتب مدعومة أيام الاتحاد السوفيتي الصديق، وبسبب المد الموجود في المنطقة المد التقدمي اليساري، لذا كانت هي الكتب الغالبة في المكتبات، وما دعاني إلى الانتباه إلى الكتب الدينية مقولة للمؤلف "أحمد عباس الصالح" بعنوان "اليمين واليسار في الإسلام" عام /1965/م، كان لها الدور الأكبر في لفت نظري إلى التاريخ العربي والإسلامي، وكانت معلوماتي محدودة فقط ما قرأته في الكتب المدرسية، وبعدها وقع في يدي كتاب مؤلفه مستشرق هولندي يدعى "تيخويا" وهو يتكلم عن "القرامطة" هذه التجربة في تاريخ الفكر الاشتراكي، وهو كُتب قبل /100/ سنة، ونحن ليس لدينا أي فكرة عنه، حتى ترجم في أوائل السبعينيات، وبهذين الكتابين بالنسبة لي كانت الشرارة الحقيقية لأنتبه أن هناك جزءاً من تاريخي وتراثي العربي ليس لدي فكرة عنه.

عندما عدت إلى "الرقة" كان كل ما أملكه /30/ كتاباً لا أكثر، ففي فترة دراستي الجامعية خسرت الكثير من الكتب لأني كنت أسكن في المدينة الجامعية، وكنت أضطر إلى أن أترك الكتب أمانة لغاية السنة القادمة، وبعدها بدأت محاولة جمع الكتب من معارض الكتب والمكتبات وأحياناً أحصل على كتبي من "بسطات الكتب" لأني لا أجدها في دور العرض أو المكتبات النظامية، ولا أضع في مكتبتي إلا الكتب التي أرغب في اقتنائها، لكتاب معينين أو عناوين معينة، وتحتوي مكتبتي على كتب تراثية وفكرية، وتاريخية، وسياسية وغيرها.

أما قضية القراءة بالمجال الطبي فهي جزء من عملي ويجب ألا أتخلى عنه، ولا أعتبر أن القراءة بالكتب الطبية جانب ثقافي، لأنها معرفة حرفية بحتة، ويفترض بأي طبيب متابعة الكتب العلمية، أي هذه الكتب العلمية هي عبارة عن أداة عمل، مثل باقي الأدوات الموجودة في العيادة.

أما قضية الثقافة فهي جانب اختياري، موجودة لدى الشخص، إذا رغب أن يطور ذاته، فأنا أرى أن القراءة مهمة جداً لجميع أبناء المجتمع، خاصة أن كل شخص في المجتمع هو جزء منه وهو مسؤول عنه ضمن قدراته وإمكانياته، وهذه المسؤولية والقدرة تتأثر بعدة جوانب، قضايا التكوين الثقافي والفكري للأشخاص والتي لا تأتي إلا بالمتابعة والقراءة، مثلاً ما يقدم في التلفزيونات والفضائيات من تعليق وخبر سريع، أنا أشبهها بالوجبات السريعة، التي لا يمكن أن تؤدي إلى تكوين ثقافي أو فكري حقيقي، ومن المعروف أن الفكر أو المعلومة الموجودة لدى أي إنسان على بساطته ومحدوديته من الممكن أن يثريه مع الآخرين أو يصححه أو يشذبه، لكن لا يمكن أن يتشكل لديه تكوين فكري إلا عن طريق القراءة».

مع التقدم الالكتروني، هناك من يقول بانقراض المكتبة الورقية، وحلول المكتبة الرقمية بديلاً، وعن ذلك يقول "العليوي": «عندما ظهر التلفزيون جميع الناس أكدوا أن الراديو انتهى، ولكن التلفزيون لليوم له /30/ سنة ولا يزال الراديو موجوداً، لهذا من غير الممكن أن يلغي الكتاب الالكتروني الكتاب الورقي، وكل له دوره، حتى الكمبيوتر المحمول مستحيل أن يغنيك عن الكتاب، ففي دول العالم الآخر الناس معتادة على القراءة، ولديهم كتب جيبية صغيرة ليمضوا وقت الفراغ بالقراءة.

أنا تعاملي مع الكتاب فيه شيء من الحميمية مع الورق وملمسه، وإذا وجدت موضوعا هاما في الانترنت لا أقرأه من الحاسوب بل أطبعه على ورق لكي أقرأه لأنه في حال عدم وجود ملمس ورقي لا أستمتع بالقراءة، ولا أجد المتعة التي أبحث عنها من القراءة. وأرى أن تواصل الإنسان مع أي مادة يجب أن يكون من خلال الحواس الخمسة، لأن هناك فرق حين تستخدم حاسة واحدة وهي البصر، وعندما تشرك أكثر من حاسة بالتواصل مع أي مادة، قطعاً التركيز فيها سيكون أكبر، لأن الصورة البصرية وحدها تأخذ وقتا أطول وتزول بشكل أسرع، أما الصورة الفكرية فتصبح أكثر استقراراً ورسوخاً.

وقضية الكتب بالنسبة لي هي جزء من تكويني، وأشعر إذا مر يومان ولم أقرأ بأني أعاني من إشكال حقيقي، فالكتاب هو تكويني، واستمرارية هذا التكوين هو بالصيرورة المستمرة والدائمة للقراءة».