لعلَّ الفنان التشكيلي والروائي "أيمن ناصر" واحد من أوائل التشكيليين الرقيين الذين دخلوا عالم الأدب بجرأة بالغة، حيث وقع اختياره بدايةً على الرواية، التي تعتبر من أصعب وأعقد الأجناس الأدبية على الإطلاق. وقد صدرت روايته الأولى "اللحاف" التي طبعت أكثر من مرة ـ عام /2008/م، وبين يديه اليوم مخطوطان لروايتين جديدتين تنتظران دخول المطبعة.

ترى ما الجديد في هذه التجربة؟ وما السر وراء هذا التحول في حياة "الناصر"، وهو الذي كرس أكثر من ثلاثة عقود من عمره في خدمة الحياة التشكيلية؟

هناك فنانون تشكيليون يمارسون عملهم الإبداعي من دون تفكير وهذا وضع أغلبهم، وهناك آخرون يفكرون قبل الشروع في عملهم، وهذا وضعٌ وسط، وهناك أخيراً بعض الفنانين يرسمون لكي يفكروا، والفن بالنسبة لهم هو طريقتهم في البحث وفي الحياة بالقرب من محيطهم، وفي بلوغ وعي أعمق بالآخرين وبالأشياء

للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها، قام موقع eRaqqa وبتاريخ (5/2/2011) بزيارة "الناصر" في مبنى اتحاد الفنانين التشكيليين، حيث يشغل حالياً منصب رئيس مجلس فرع الاتحاد في "الرقة" وأجرى معه الحوار التالي:

خلال مهرجان الرواية الذي أقيم عام 2010 في مديرية ثقافة الرقة

  • قلة هم الذين طرقوا باب التشكيل وباب الأدب في آن واحد- وأنت منهم- ترى أيهما يملك لغة أكثر تعبيراً وتواصلاً مع المتلقي، التشكيل أم الأدب؟
  • ** «من الطبيعي أن يكون للفن التشكيلي لغة قادرة على تقديم قراءة ومتعة بصرية لا تقدمها باقي الفنون، فما زال الآلاف من الزوار يقفون في طابور طويل في المتاحف أمام لوحات كبار الفنانين ممن أثرَوا الإنسانية بإبداعاتهم، أما متعة الكتابة فهي مختلفة ومدهشة بآن.

    بانوراما فراتية أمام حديقة الرشيد العامة من الأعمال التي نفذها الناصر في السنوات الأخيرة

    وربما ميزة الفن بكل أجناسه، أنه يرقى بنا بجناحي الواقع والمتخيل إلى أعلى درجات الإبداع، وجناح الواقع هنا هو العالم اليومي الذي نعيشه، أما الجناح السحري المتخيل فهو العالم المفترض الذي يخلقه الفنان ليوازي به عالم الواقع، وإن كان المطلوب منا هو الفاعلية الإنسانية لا الجمالية الإبداعية، وليس بالضرورة أن يكتشف المتلقي بذائقته الخاصة الأبعاد ذاتها التي كان الفنان أو الكاتب يرمي إليها».

  • قد يقول قائل بأنك عندما انتقلت من عالم التشكيل إلى عالم الكتابة، كنت تبحث عن الدهشة في عيون الآخرين، أو كنت تنشد المتعة لا أكثر، أو الشهرة الواسعة، وغير ذلك الكثير، ماذا تقول أنت؟
  • رواية اللحاف

    ** «في الحقيقة لم أحصل على الإجابة الحقيقية بعد، فعلى صعيد التشكيل، أدركت أنني كنت أجرِّب، أجرِّب فقط أن أعيش عمراً آخر في ما أنتجه من أعمال، وأختبر مقدرتي على إسعاد الآخرين، وعلى الأصح إسعاد نفسي من خلال الفرح المرسوم في عيون العابرين لذاتي، وهم يروني أوزع هذه الذات قطعاً نحتية على مساند من حجر، ولعلَّ ميلي الأخير إلى كتابة الرواية، سببه هو قدرة العمل الروائي على فتح نوافذ موصدة، أطلُّ من خلالها على تجارب الحياة والتجارب الإبداعية المختلفة».

  • أعلنت منذ سنوات بأنك تحضر لكتابة قصة قصيرة، فكانت المفاجأة بأنك أعلنت- بعد أربع سنوات- عن ولادة روايتك الأولى التي حملت عنوان "اللحاف"، ترى كيف حصل ذلك؟
  • ** «بكل بساطة كانت نقطة التحول هي عندما عرضت مخطوط "اللحاف"- الذي بدأ أول الأمر قصة قصيرة- على صديق أثق كثيراً برأيه، فكان أن أبدى استغرابه، وسألني: أين ذاكرة الفنان، وأين خيالك ومخزونك البصري فيها؟ إن قصتك تحتمل أن تكون رواية لو تركت فيها أفكارك تتوارد عفو الخاطر ولكان سردُك أصدق.

    صدّقتُ كلامه واشتغلت عليها معيداً ترتيب أثاث ذاكرتي من جديد، أنتقل من فكرة إلى فكرة مع تصوير دقيق للشخصيات حتى تتوارد الصور- كما قال- عفو الخاطر، معتمداً تارة على سيرتي الشخصية وتارة على خيالي مستخدماً أسلوب التداعي "الفلاش باك" كطريقة فعالة في الانتقال بين زمن الحدث الحاضر والأزمان المتخيلة، تماماً كما كنت أفعل وأنا أرسم أو أكوّن كتلاً من الصلصال أعجنها ثم أوزعها قطعاً مدروسة على جسد العمل، ثم أقتطع بعضها لتشكل في النهاية حركة متناسقة في الفراغ، وهكذا كانت السطور الأولى من الرواية تنفلت من بين أصابعي كعجينة الطين، حتى انتهيت منها بعد أربع سنوات، مع أن أكبر عمل نحتي لم يستغرق بين يدي أكثر من تسعة أشهر».

  • هل دراستك للأدب العربي لعبت دوراً كبيراً في تحفيزك على خوض غمار كتابة الرواية؟
  • ** «إن ملكة الكتابة لا تقتصر على إدراك أصول اللغة ومعرفة قواعدها، بل تتعدى إلى تفجير ما في اللغة من طاقات تثير كوامن النفس، تحركها قوة الخيال بسرد فياض بالصور، ثري بالأضواء والظلال، مملوء بالشحنات الوجدانية الموحية، والعبارات الوصفية الرشيقة بعيداً عن الحشو والثرثرة المجانية. وهي جميعها بمثابة الخطوط والألوان التي تتآلف فيما بينها وتتكامل في أعمال الرسم والنحت، وهذا الشتات من الخواطر في الرواية قد أثار فيَّ مشاعر نبيلة رغم انغماس بعض شخصياتها في قاع الشر والرذيلة، وألّف في مجموعهِ شبه تخطيط لفلسفة واضحة المعالم لفنان غامر في كتابة رواية».

  • ثمة مقولة للكاتب الفرنسي "ميشيل ليرس" يقول فيها: «هناك فنانون تشكيليون يمارسون عملهم الإبداعي من دون تفكير وهذا وضع أغلبهم، وهناك آخرون يفكرون قبل الشروع في عملهم، وهذا وضعٌ وسط، وهناك أخيراً بعض الفنانين يرسمون لكي يفكروا، والفن بالنسبة لهم هو طريقتهم في البحث وفي الحياة بالقرب من محيطهم، وفي بلوغ وعي أعمق بالآخرين وبالأشياء»، أين تضع نفسك من هذه الثلاثية؟
  • ** «لعلي أضع نفسي مع النوع الأخير، فتجربتي لأكثر من أربع سنوات في كتابة رواية "اللحاف" معجونة بتجربتي الفنية، كانت أشبه بسفر طويل في طريق وعرة دفعتني بعد الانتهاء منها لأن أتفهم الآخرين والأشياء بعمق، وأهم ما ميَّز هذه التجربة أنها اقتضت كثيراً من الجهد والإخلاص لصفاء الإبداع، والأهم من كل ذلك هو أنني كنت متحرراً من مخافر النقد والتنظير والمدارس سابحاً في أفقٍ إبداعيٍ مختلف.

    وأستطيع أن أؤكد أن ميلي لكتابة الرواية لم يأت بشكل مفتعل ولا نتيجة قرار طارئ، بل كان عفوياً وعادياً، وأحياناً ما أتعجب لماذا كتبت الرواية؟ هل لأمنع نفسي من السقوط في مهاوي رسم لوحات سيئة أو نحت تمثال مشوّه؟ لا أدري..».

  • يبدو أن لديك مكتبة عامرة بالكتب التي تتطرق لتاريخ الفن التشكيلي، فهل استفدت من هذه الدراسات التاريخية، خلال اقتحامك عوالم الكتابة؟
  • ** «لقد أفادتني دراستي لتاريخ الفن وتدريسي لفن الرسم والنحت في أنهما ساهما كثيراً في تكثيف الرؤى الشعرية في مخيلتي، وأنه من غير المستحيل ترجمة لغة الرسم أو لغة النحت إلى لغة الأدب، وأن الذي يعطي قيمة العمل الفني هو تميزه عن غيره بصفات جديدة، وأن العمود الفقري لأي عمل إبداعي هو الفكرة والموضوع وزاوية وأسلوب تناوله وإخراجه للضوء ولغة وطبيعة الحوار.

    ومما تعلمته أيضاً من مخزوني التشكيلي وأسقطته في كتابة الرواية هو أن لا أمضي في عملي مفكراً في لون واحد بعينه مستخدماً إياه متناسياً باقي الألوان، فالألوان كما يقول "بيكاسو": "كأسارير الوجه تتغير مع تغير خلجات النفس" وكثيراً من الأدباء الذين كتبوا في رواياتهم عن الفن التشكيلي يتحدثون في وصفهم لمنظر يشاهده عن الألوان والأشكال والأضواء والظلال، أو قد يصف وقع هذه الأشياء في نفسه، وما تثيره في ذهنه من خواطر أو في قلبه من عواطف، لكن المصور الفنان لا يصف الأشكال والألوان والظلال، وإنما يتخذها أداة للتعبير عن وجدانه».

    ومن الجدير ذكره أن التشكيلي والروائي "أيمن الناصر" من مدينة "الرقة" عام /1958/م، وفي عام /1981/م انتسب إلى نقابة الفنون الجميلة في سورية، وهو يشغل حالياً منصب رئيس مجلس فرع إتحاد الفنانين التشكيليين في "الرقة". درَّس مادة النحت في معهد إعداد المدرسين منذ /1992/م ولغاية عام /2005/م، كما درَّس في مركز الفنون التشكيلية منذ /1978/م وحتى عام /2003/م، وهو عضو مؤسس لجمعية ماري للثقافة والفنون في "الرقة"، له رواية بعنوان "اللحاف" صدرت عن اتحاد الكتاب العرب عام /2008/م، ومجموعة قصص قصيرة ومقالات في المجلات والصحف العربية.