«ولدت كبيراً، وكان علي أن أصاحب الكبار، ولا أذكر أنني لعبت مع أترابي في أزقة وحواري "الرقة"، ولا أجيد أي لعبة كان يفاخر بها أحد الأطفال، الذين كنت أخجل من مصاحبتي لهم، وهذا شكلّ منعرجاً في حياتي، حيث نشأت في حارة "العجيلي"، التي تضم ستة مقاهٍ، أرتادها جميعاً منذ الصغر، وأجالس فيها من هم أكبر مني سناً.

علاقتي مع كبار شخصيات البلد مبكراً، أمدتني بالمعرفة، ودفعتني إلى حب المطالعة، التي حولتني إلى قارئ نهم للكتب، وخصوصاً مذكرات السياسيين الكبار، كما أصبح لدي إدمان على قراءة الصحف، لا شفاء منه، أحببت الشعر بكل صنوفه وأشكاله، وهذا الحب جاءني عن طريقة والدتي التي كانت تحب الشعر وتحفظه، أعشق "نزار قباني"، و"المتنبي"، وأركض وراء كتب "محمد حسنين هيكل".

في المرحلة الثانوية أنهيت قراءة كل ما أصدره "نجيب محفوظ"، و"إحسان عبد القدوس"، و"محمد عبد الحليم عبد الله"، و"مصطفى محمود"، و"يوسف السباعي"، و"أنيس منصور"، وكنت أتابع بشغف الحركة الثقافية في سويسرا الشرق، العاصمة اللبنانية "بيروت"، عاصمة الثقافة العربية آنذاك. من "سعيد فريحة" إلى "سهيل إدريس"، وكنت أعرف من خلال الصحف والمجلات جلّ الصحفيين وكتاب الأعمدة والزوايا

بهذه الكلمات يعود "جمال الكياص" إلى الطفولة الأولى، ونشأته التي ساهمت بتشكيل وعيه مبكراً، في حديثه بتاريخ (8/7/2009) لموقع eRaqqa الذي يعرفنا من خلاله عن مسيرته الاغترابية، وميله إلى العمل الإعلامي، ومحاولاته الشعرية، التي سترى النور قريباً.

جمال الكياص

وفي ذات السياق، يقول: «كان والدي المرحوم "عبد الرحمن الكياص"، واحداً من أهم رجالات "الرقة"، وحاكماً مطلقاً عليها منذ استقلال سورية عام /1946/، إلى منتصف أيام الوحدة مع مصر، فقد كان رئيساً، وأميناً لسر بلدية "الرقة"، وتنضوي تحت سلطاته مديريات الكهرباء، والمياه، وأغلب مديريات البلد، وهكذا تحول بيتنا إلى بيت سياسة وأدب، يجمع رجالات "الرقة" بكل أطيافهم، فيجالس أبي الشيخ "علي البشير"، والنائب "رشيد العويد"، و"أنور الراكان"، و"مصطفى الكعكةجي"، و"حميّد الشهاب"، و"إسماعيل الحمود"، و"محمد بيك آنزور"، و"خليل الحلبي"، و"أحمد الحاج عبد الله"، و"سليمان الحجوان"، والوزير والنائب "حامد الخوجة"، حين يحضر من "دمشق"، وغيرهم، إضافة لمسؤولي ذاك الزمان.

وكنت أحبهم جميعاً، وأنادي كل واحد منهم (بعمي فلان)، وأسابق لتقديم ضيافة القهوة المرّة، أو دعوتهم إلى الغداء أو العشاء، فقد كان بيتنا أشبه بالمضافة التي يقدّم بها كل أشكال الضيافة، إضافة للولائم التي يقيمها والدي، وتتفنن والدتي بالطبخ، بمشاركة القريبات، والجارات».

الكياص أمام محله في نيويورك

ويتابع "الكياص" حديثه قائلاً: «في المرحلة الثانوية أنهيت قراءة كل ما أصدره "نجيب محفوظ"، و"إحسان عبد القدوس"، و"محمد عبد الحليم عبد الله"، و"مصطفى محمود"، و"يوسف السباعي"، و"أنيس منصور"، وكنت أتابع بشغف الحركة الثقافية في سويسرا الشرق، العاصمة اللبنانية "بيروت"، عاصمة الثقافة العربية آنذاك. من "سعيد فريحة" إلى "سهيل إدريس"، وكنت أعرف من خلال الصحف والمجلات جلّ الصحفيين وكتاب الأعمدة والزوايا».

وعن أسباب غربته التي امتدت لثلاثين عاماً قضاها بين السعودية والولايات المتحدة، يحدثنا "الكياص"، قائلاً: «بعد أن حصلت على الشهادة الثانوية، كان أمامي عدّة خيارات، الأول التطوع في كلية الطيران، لتحقيق حلمي الكبير في أن أصبح طياراً حربياً، والثاني أن أدرس الصحافة والإعلام، والثالث أن ألتحق بالجيش لتأدية خدمة العلم، أما الحلم الأول فوقفت أمي حائلاً دون حدوثه، متذرعة بأنها لا تريد أن تفقد بكرها، ولتحقيق الحلم الثاني، كان لا بد من الذهاب لمصر للدراسة، وهذا ما عجزت عنه، نتيجة تردي الوضع الاقتصادي، وعجز والدي عن إرسالي إلى مصر، وامتثلت أخيراً للخيار الثالث، وهو الالتحاق بالجيش لتأدية خدمة العلم، وهناك في مدينة "حلب" كان مستقري، حيث قضيت أجمل أيام حياتي.

الكياص وزوجته في أمريكا خلال حفل زواجه

في "حلب"، شكلت علاقتي مع إحدى الفتيات منعرجاً كبيراً في حياتي، فقد كانت حب العمر، التي التقيتها صدفة، ومن يومها وإلى الآن، وأنا أعيش الحياة مسافراً جوالاً أبحث عنها، أبحث عني، أبحث عن قصة حب أرداها الزمان، مرّت الأيام وأنهيت خدمتي الإلزامية،، ولظروفي وظروف والدي الصعبة لم أستطع الزواج بحبيبتي،ولشروط أهلها المستحيلة بالنسبة لي. عدت إلى "الرقة"، وفي الوقت الذي كنت أبحث فيه عن فرصة عمل سمعت بخبر زواجها، وحينها قررت السفر، أو بمعنى أصح الهروب إلى أي بقعة في العالم.

ومنذ ذلك اليوم في نهاية عام /2009/ وأنا مسافر. أبحث عنها في المطارات والموانئ، وبوابات المدن.. في عيون الصبايا.. في ذكريات وحوادث مشتركة تحرق ضلوعي، فأنتفض مثل عصفور، وأسافر أبعد. حملت حبها على ظهري، ومشيت ثلاثين عاماً في كل بقاع الدنيا. من جبال "عسير" ووديان "تهامة"، لمطلات السروات وفيافي "نجد". ومن حمامات تونس إلى "كاليفورنيا"، و"سان فرانسيسكو" و"نيويورك". عرفت الكثير. تزوجت تسع مرات، ثلاثون عاماً وأنا أحملها بقلبي وروحي موال وجرح، وناي مثلوم، وآهات أداري قذاها وراء كل شعرة بيضاء تطل في نهاية كل عام».

ومن حديث الغربة، وما أمدته من نسغ في حياة "الكياص"، يحدثنا قائلاً: «لقد أعطتني الغربة الكثير، تعلمت الإنكليزية أولاً،، وعشت عشرين عاماً بالتمام والكمال في "مانهاتن"، بمدينة "نيويورك"، عاصمة المال والسياسة والأدب والفن بكل أشكاله، ومدينة "نيويورك"، "مانهاتن"، هي حلم كل أمريكي وأوربي بزيارتها، فما بالك بمن عاش هناك عشرين عاماً، وتحديداً في شارع "كريستوفر ستريت"، في بيت يطل مباشرة على نهر "الهدسون"، عشت هناك، وتزوجت من سيدة أمريكية، تعمل مفتشة في التعليم، وأنجبت منها ابنتي الوحيدة "ليَّا"، وعمرها الآن /16/ عاماً، وهي من أنبغ طالبات "نيويورك"، وكافأتها الدولة ببعثة ترفيهية إلى "باريس" لمدة أسبوعين، وهي تشبه جدتها "فطومة" بشكل لا يصدق».

وعن كتاباته في الصحافة الأمريكية، وما يشكله الوطن من قيمة وحب انتماء بالنسبة له، يحدثنا قائلاً: «شكلّت الغربة لي توهجاً إضافياً، وحباً كبيراً لوطني الأم، وانتماء كنت أفاخر به أمام من أصادفهم هناك، ومع السنين، صار الوطن البعيد هو حبيبتي، وكنت أكتب في الصحافة الأمريكية العربية بشكل متواصل ومنتظم، فكتبت في جريدة "العروبة"، و"الوطن"، و"عرب تايمز"، و"الفجر"، و"الحقيقة"، واكتشفت أن لي جمهوراً واسعاً أغلبه من النساء العربيات المهاجرات.

كنت أكتب عن الوطن، وأهاجم السياسة الأمريكية المنحازة ضد بلادي، لدرجة أن البعض كان يعتقد بأنني موفد إلى أمريكا للدفاع عن سورية، وفي الوقت نفسه كان لي أصدقاء أمريكان رائعين، وكانت أغلب لقاءاتي معهم تدور حول السياسة، والشرق الأوسط، وسلامة مواقف سورية، وكنت غالباً أقنعهم بذلك.

كان الوطن عشقاً، وبعدي عنه وجعاً حقيقياً، إلى أن جاءت أحداث الحادي عشر من أيلول، وتغيرت الدنيا، وبدأت "الرقة" وحواريها تلوح لي من بعيد، بعد أن فقدت نصف أهلي، وأنا بعيد في موطن الغربة، وقررت العودة، ومع حلول عام /2006/، كنت أحمل سنوات عمري على ظهري، وأعود إلى بلدي، يحدوني الشوق والحنين لكل شيء، بما فيه "العجاج". وهذا ما كان».

وسألنا "الكياص" بأنك تعيش حياة مزدوجة.. لك عائلة في "الرقة"، وعائلة في أمريكا، أين تقف من هذه الحالة، وكيف توزع عواطفك؟ فأجاب قائلاً: «هذا جمال آخر يرفد مشاعري، لقد اتفقت وزوجتي "دوروثي" على الطلاق، وتفاهمنا عليه، وتم بهدوء واحترام، مع حفظ الصداقة، وذلك في السفارة الأمريكية في "دمشق"، بعد أن أعلمتها بزواجي الذي تم مؤخراً في "الرقة"، وأنجبت زوجتي طفلاً أسميته على اسم جده "عبد الرحمن"، وقريباً سيكون لي طفلاً ثانياً. زوجتي الأمريكية ما زالت تحلم وترجو عودتي، ومازلت أراسلها وابنتي بشكل أسبوعي عبر الانترنيت، وحلم حياتي أن تأتي "ليَّا" إلى "الرقة" وتعيش عندي، وتتزوج من عربي. وأتمنى أن لا يحذو أولادي حذوي، ويسافروا كما فعلت ويكتوون بنار الغربة، كما اكتويت. أعيش الآن حياة هانئة وسط الأهل والأحبة والأصحاب، لحائها الذكريات، التي تعود بي إلى أيام مضت ولن ترجع، وأنا حالياً لا أفكر بالعودة إلى أمريكا، إلا كسائح أو زائر، فقد عدت إلى "الرقة" عن قناعة أكيدة».

ويختتم "الكياص" حديثه عن مشاريعه المستقبلية، قائلاً: «عندي حالياً ديوان شعر، جاهز للطباعة، اطلع عليه الأديب المرحوم "عبد السلام العجيلي" قبل رحيله، وشجعني على نشره، واطلّع عليه بعض المقربين، ولاموني على تأخيره، ومن إحدى القصائد، أقبس هذا المقطع:

مثل حادي القوافل، وهو يحث الركب للمضارب قبل المغيب

أنادي على العاشقين

وأولم للسهر

لنلتقي كلنا من جديد تحت ظلال مشاعرنا

وألقاك يا نهر على كثرتهم

وأضمك إلى صدري وقلبي وروحي

بشوق كل العمر

وأنادي الليل فيك على سنا الوجد

وآهات الحنين

وأغمض عيوني لأراك أقرب

فتزداد وسامتي

وأصير أنا الأحلى والأذكى

ويبايعني الجميع على الإمارة

وأفتح عيوني

لأجدني بين هذيانٍ

وسهارى».

يذكر بأن "جمال الكياص" من مواليد "الرقة" عام /1954/، عمل في أمريكا في مجال التجارة، ويعيش ويعمل حالياً في "الرقة"، وهو صاحب مقهى "أبو العبد" الذي يشرف عليه شخصياً في نفس حي "العجيلي" الذي نشأ وترعرع فيه.