«"باريس" مدينة منفتحة على جميع الثقافات، والشعور بالغربة هناك أقل وطأة من مدن عديدة، كونها ملتقى للحضارات، ورجالات الأدب والفن والفكر والعلم، ونظراً للعلاقات المتميزة لفرنسا مع العالم العربي تاريخياً، وانفتاحها على بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط، "باريس" درة منازل الدنيا في العصر الراهن، كما كانت "الرقة" قديماً إحدى منازل الدنيا الأربعة.

في بعض الأحيان تمشي في أحد شوارع "باريس"، فتظن نفسك أنك في أحد البلدان العربية، لوجود جالية عربية كبيرة في فرنسا، كما أن الدين الإسلامي هو الدين الثاني هناك بعد المسيحية، كل هذا يدخل في النفس فيضاً من السرور، الذي يخفف من آلام الغربة».

أحب في نهاية حديثي أن أوجه تحية لإعلاميي محافظة "الرقة"، وعلى وجه الخصوص موقعكم الذي رافقنا طيلة فترة هذه الزيارة، وأنتهز هذه الفرصة لكي أقول لأبناء وطني الغالي من الشباب، أن يسعوا لاختيار الدراسة والعمل الذي يرغبون به، وأن يكون لديهم حب المهنة، والتفاني والإخلاص في أداء عملهم، والاهتمام بالجانب الثقافي، وتنمية الإحساس الفني، ومواهبهم الخاصة، لكي يستطيعوا بناء شخصيات متكاملة

هكذا يبدأ الدكتور "عبد الله مصارع" المغترب في فرنسا حديثه لموقع eRaqqa بتاريخ (16/4/2009)، عن سيرة حياته في سورية، ومن ثم في بلاد الاغتراب، وذلك خلال زيارته العلمية إلى مدينته "الرقة" التي قام بها مع مجموعة من الأطباء السوريين المقيمين في فرنسا، لإجراء استشارات وكشوف طبية على مرضى القلب في "الرقة"، وإلقاء عدد من المحاضرات عن أمراض القلب وجراحتها.

مع شقيقيه المهندس فاروق والأديب أحمد مصارع

ويقول "مصارع": «ولدت في مدينة "الرقة"، عام /1964/، ونشأت في أسرة محبة للعلم والأدب والفن، وأبوين متفانين في توجيه أبنائهم نحو العلم والمعرفة، وقدرة على استثمار التربية والتعليم كأولوية في بناء الإنسان، وأخوتي جميعاً من حملة الشهادات العليا، ففيهم الأديب والطبيب والصيدلي والمهندس.

تلقيت تعليمي في مدرسة "الرشيد" الابتدائية، مع هيئة تدريسية غاية في التفاني والإخلاص في تعليم وتوجيه الطلاب الوجهة الصحيحة لتلمس طريق العلم والمعرفة، وكنت أشارك بنشاطات المدرسة المسرحية والغنائية، وكانت الهيئة التدريسية تعتني بتحقيق رغبات التلاميذ، وإشغال أوقات الفراغ في تعلم الموسيقى والرسم والمسرح، وممارسة الرياضة، وهي أمور مهمة في حياة الطالب في مرحلة الطفولة، حيث تنمي الخصائص الأخرى في بناء الإنسان، البناء الصحيح، وصولاً إلى مقولة "العقل السليم في الجسم السليم". ولا أنسى فضل الأستاذ "علي الحني" عليّ، والذي أشرف على تدريسي لمدة أربع سنوات في المرحلة الابتدائية.

خلال لقائه مع محافظ الرقة

في الإعدادية والثانوية، كنت الأول على طلاب المحافظة، وبعد حصولي على الشهادة الثانوية، اخترت الطب مهنة للمستقبل، نظراً لميولي الشخصية، ولدور الطبيب في خدمة المجتمع، وتقديمه العناية الصحية اللازمة للمرضى، والجانب الإنساني الكبير لهذه المهنة، ولا أنسى فضل أساتذتي الذين كان لي شرف التعلم على أيديهم في المرحلتين الإعدادية والثانوية، وهم "أحمد الهويدي"، و"إسماعيل العلي"، و"أحمد الشعيب".

وفي عام /1982/ بدأت دراسة الطب في جامعة "دمشق"، وتخرجت منها في عام /1988/، ثم التحقت بالدراسات العليا في قسم الأمراض الداخلية في مشفى "المواساة" بـ"دمشق" لمدة عام كامل، ثم غادرت سورية إلى فرنسا للتخصص في أمراض القلب والأوعية الدموية، في جامعة "بوردو"، جنوب غرب فرنسا.

خلال اللقاء العلمي في المشفى الوطني بالرقة

وأحتفظ بذكريات جميلة عن مرحلة الدراسة الجامعية في سورية، وأذكر أن الزملاء الذين درسوا معي، كان لديهم الفضول العلمي وحب المعرفة، وتميزت دورتنا بتخريج العديد من الأطباء المتفوقين والناجحين في سورية، وبلاد الاغتراب».

وعن دراسته الاختصاص في فرنسا، يقول "مصارع": «في "بوردو" أتممت الاختصاص بمدة خمس سنوات، ثم تعاقدت مع مشفى "بوردو" الجامعي لمدة خمس سنوات أيضاً، حيث عمقت دراستي في مجال أمراض القلب والأوعية الدموية، وخلال هذه الفترة نشرت بحوثاً علمية خاصة بأمراض القلب في عدد من المجلات الأوربية والأمريكية، ثم انتقلت في عام /2002/ للعمل في القطاع الصحي الخاص، حيث افتتحت عيادة خاصة في "باريس"، وتعاقدت للعمل مع مشفى "أنطوني" الخاص في جنوب "باريس"، وهو من أكبر المشافي في فرنسا».

وعن أسباب بقائه في فرنسا، يقول: «بقائي في فرنسا، كان مرهوناً بتوفر الإمكانات العلمية والمعرفية، والعلاقات المهنية والاجتماعية التي كونتها باقتدار، والاندماج في العمل وسط فريق طبي متطور، والمجتمع الذي وفر بناء أحسن العلاقات الاجتماعية التي يستطيع الإنسان إقامتها في بلد الاغتراب، إضافة للإغراءات المالية التي توفر سبل العيش الرغيد، وإمكانية السفر إلى جميع أنحاء العالم لحضور المؤتمرات الطبية، وبالنهاية يمكنني القول إن فرنسا هي بلدي الثاني بامتياز».

وسألنا الدكتور "عبد الله" عن نشاطاته العلمية في مجال الطب، ونشاطاته الفنية والأدبية، فقال: «بالإضافة لممارسة الطب في المشفى والعيادة، لدي نشاطات في جمعيات عديدة، فأنا نائب رئيس جمعية أطباء القلب في "باريس" وضواحيها، وهذه الجمعية تقوم بتنظيم المؤتمرات واللقاءات الطبية المسائية بشكل دوري ومستمر، وهي تجمع أطباء القلب في إطار التعليم المستمر والمتواصل، كما أشارك مع جمعيات صداقة عربية وفرنسية، ولي نشاطات متعددة في عدد من بلدان المغرب العربي، وسورية، وشاركت في عدد من المؤتمرات العلمية في بلدان أوربا الغربية وأمريكا.

أما بالنسبة لعلاقتي بالأدب والموسيقى، فلدي ميول شخصية وهوايات عديدة، فأنا أحب المسرح والأدب، وأحضر الأمسيات الأدبية والموسيقية، والمعارض الفنية، وأجيد العزف على آلات "العود" و"الأورغ" و"القانون"، وحالياً أتوسع بدراسة وتعلم "القانون" لأنه يعكس تراثنا العربي الموسيقي، الذي يخفف من عناء الغربة ووطأتها الشديدة، كما أن الموسيقى تريح الأعصاب، وتساعد الإنسان على التوازن، وتخفف من أعباء الحياة وقسوتها، ولدي اهتمام شديد بالرياضة، وممارستها بشكل منتظم».

وعن رأيه بالمغترب السوري، وعلاقته بالوطن الأم سورية يقول "مصارع": «المغترب السوري بشكل عام، إنسان ناجح ولامع في بلد الاغتراب، ويعطي صورة إيجابية وحضارية عن وطنه الأم، وغالبية السوريين من النخبة، ومن حملة الشهادات الجامعية العالية، ولديهم القدرة على القيام بالاستثمارات الكبيرة، نتيجة تمتعهم بالجرأة، وامتلاكهم الطموح اللازم، ورغبتهم بالخلق والإبداع، وإضافة الأشياء الجديدة.

والتواصل مع الوطن، مسألة مهمة جداً، وكلّما طال الزمن، زاد حنين المغترب إلى وطنه، كما أن الأحداث التي تشهدها منطقتنا العربية من نزاعات وحروب، تجعل منّا أكثر تواصلاً مع أوطاننا، نتأثر بها، ونتعاطف معها بكل قوة، فعندما نشبت الحرب على العراق والاعتداء على لبنان و"غزة"، بدأنا نتحسس مشاكل وهموم الوطن، وانتقلنا بالحديث عنها مع الفرنسيين، نشرح لهم عدالة قضايانا العربية، والمشاركة في المظاهرات التي تندد بالعدوان الغاشم على شعبنا العربي، وأي أزمة تمر بها أسرتي وأنا بعيد عنها، أحس بوطأة الغربة، وينتابني الحنين لزيارة أهلي، مثلما حدث لي بفقداني أخي "عبد الهادي"، ووالدتي، فقد تركا جرحاً بنفسي لن يندمل».

وسألناه، هل تفكر بالعودة نهائياً إلى سورية؟ فأجاب: «نظراً لارتباطات مهنية متشابكة، مع شبكة العلاقات المتنامية في المجتمع الفرنسي، أصبح من الصعب أن يقرر المرء العودة إلى وطنه، لكن لدي رغبة كبيرة بالتعاون المستمر والحضور إلى سورية مع الوفود الطبية المغتربة والفرنسية، من أجل تبادل الخبرات العلمية في سورية و"الرقة" على وجه الخصوص، وتحفيز الحراك العلمي في مجال التعليم المستمر، وتبادل التجارب والخبرات، وتعزيز الثقة في طرق الممارسة الطبية.

الدين الذي أشعر به تجاه أهلي كبير جداً، وأشعر من الواجب ردّ بعضه، من هنا ولدت فكرة القدوم مع وفد طبي لإجراء المحاضرات، ووضع الاستشارات الطبية بخدمة مرضى القلب في محافظة "الرقة"، نحن بالغربة يجب أن نكون روافد لوطننا الأم، لذا من الممكن تشكيل وفود أوسع من أجل القيام بعمليات جراحية، بالتعاون مع الأطباء السوريين، كما أننا سنقوم بالحديث عن تجربتنا الأخيرة لزملائنا في بلاد الاغتراب، وهم ينتظرون أن يسمعوا عن انطباعاتنا عن هذه الزيارة، لكي يشاركوا بمثل هذه النشاطات في أي بقعة من وطننا الغالي سورية».

ويختتم "مصارع" حديثه لموقعنا قائلاً: «أحب في نهاية حديثي أن أوجه تحية لإعلاميي محافظة "الرقة"، وعلى وجه الخصوص موقعكم الذي رافقنا طيلة فترة هذه الزيارة، وأنتهز هذه الفرصة لكي أقول لأبناء وطني الغالي من الشباب، أن يسعوا لاختيار الدراسة والعمل الذي يرغبون به، وأن يكون لديهم حب المهنة، والتفاني والإخلاص في أداء عملهم، والاهتمام بالجانب الثقافي، وتنمية الإحساس الفني، ومواهبهم الخاصة، لكي يستطيعوا بناء شخصيات متكاملة».