تطالعنا دراسة الباحث الرقي "عيد الدرويش" في كتابه الثالث ضمن إصداراته، التي تتمحور حول الأخلاق والدين والثقافة، ففي غرة إصداراته – سيكولوجيا الثقافة – استعرض المداليل التي ولجتها الثقافة عبر تطور التاريخ المعرفي للجنس البشري، وفي كتابه الثاني - "الغزالي بين النقل والعقل"، استعراض هو الآخر لا يبتعد كثيراً عن محاوره الثلاثة (الأخلاق – الدين – الثقاقة)، أما الكتاب الرابع (الأخلاق)، فيؤكد حقيقة ما ألمعنا إليه من المحاور الرئيسية التي يتصدى الباحث الخوض في موضوعاتها (ثيماتها)، و(فلسفة التصوف في الأديان) يقع في (220) صفحة من القطع الكبير، إصدار دار "الفرقد" عام /2006/.

ومن مستعرضات أبوابه نجد أنه ركز في:

لما كان رضيعاً كان يرفضه الارتضاع في نهار شهر رمضان الكريم وكان سنه في ذلك الوقت أقل من عام وقد نشأ نشأة صالحة في العلم والخير.. ص190

الباب الأول: على فلسفة الأديان الوضعية التالية (الهندوسيّة – البوذيّة – الجاينية – الكونفوشيّة – التاويّة – الشنتو والزرادشتيّة)، وباستثناء الأخيرة، تعتبر جميع الفلسفات من حيث المنبع والمستقى تطور الفكر "الهندوصيني" الذي تمثله ديانة كل من "بوذا" و"كونفوشيوس"، وأما الباب الثاني: فيستعرض المؤلف البدايات الأولى في كل من الديانات التوحيدية – السماوية، بدءاً من اليهودية مروراً بالمسيحية وانتهاءً بالإسلامية.

غلاف الكتاب

دلالات المعنى الصوفي لدى اليهوديّة يقول: «أمّا كلمة الصوفيّة فلها داخل النسق اليهودي دلالات خاصة، فهذا النسق يتسم بوجود طبقة جيولوجيّة ذات طابع حلولي قوي تراكمت داخله، ابتداءً من العهد القديم، مروراً بالشريعة الشفوية، وقد انعكست هذه الحلولية من خلال أفكار مثل (الشعب المختار وأمة الروح والأرض المقدسة.. ص108)».

كما يؤكد أن الصوفيّة اليهوديّة ذات مستويين: «واحد يدور في نطاق توحيدي ويبتدئ في تدريبات صوفيّة يقوم بها المتصوف... أمّا الثاني من التصوف فيدور في إطار حلولي، وهدف المتصوف في البحث عن الصيغ التي يمكن من خلالها التوحد مع الخالق، ثم التحكم في الإرادة الإلهيّة .. ص108 ) أمّا المغزى الحقيقي للتصوف اليهودي فهي بنظر الكاتب فهو وضع المتصوف: (فوق الخير والشر وفوق كل القيم المعرفيّة والأخلاقيّة .. ص108)».

أمّا الصوفيّة المسيحيّة فيعزوها أن تعبد وتنسك السيدة "مريم العذراء"، التي كانت تحت وصاية زوج خالتها (اليصابات أم يوحنا المعمدان.. ص127)، والقرآن الكريم يسمي هذا الوصي وهو النبي "زكريا" عن دلالته التصوف المسيحي، يؤكد الباحث أنه من أجل (نبذ الملذات والمباهج.. ص132)، ثم يعود ثانية لتعدد الآراء حول الرهبنة، ويؤكد رأيه فيه (وتتعدد الآراء حول مسألة الرهبنة والنسك، ولكننا نراها تزداد كلما ازداد التعذيب والتسلط والاضطهاد الديني لبني البشر، فينزع طائفة من المتدينين إلى الاعتزال والزهد والرهبنة.. ص132)، ويعزو دخول النساء إلى سلك الرهبنة للقديس بنديكت: «ترافق مع انتشار مذهب القديس "بندكت" رهبانية النساء اللاتي دخلن الكنيسة، ومن المألوف في المجتمعات المسيحيّة أن تهب بعض الأرامل واللاتي يعشن وحدهن بعض أيامهن أو كلها لأعمال البر في المعابد، وازداد عددهن ما يماثل الرهبان في الأديرة والكنائس.. ص33».

أمّا عن حقيقة التصوف الإسلامي، فيعتبر أنه: «يرتكز حول الإله الواحد المنزه الواحد الأحد الصمد بينما في الأديان الوصفيّة هي سلوك لبعض الأفكار، وعبادة آلهة كثيرين ومجسدة أمامهم في تماثيل وفي الديانة السماوية كاليهوديّة، وصفت الإله بأنه يحاور بني إسرائيل ... والمسيحيّة تذهب إلى عبادة المسيح، وبدعواهم هي عبادة الله عز وجل.. ص42». كما يعتبر المؤلف أن (التصوف فلسفة الإسلام الدينية وإن محاولة الدخول في عالم التصوف ليس بالشيء اليسير، ولأن الدروب التي سلكوها شاقة... ص149)، كما يعتبره (جوهر الإسلام وروحه النابضة وحيويته الفعالة.. ص151)، كما يتصدى لتعريف الزهد في الإسلام: (إن الزهد هو التوحيد من خلال العبادة لأنه إيمان بالدرجة الأولى، ثم هو التفكر في آيات الإله الواحد ونعمة في هذا العالم بما وهب الإنسان من عقل وعلاقته بالكائنات الحيوانيّة والنباتية والجمادات والطبيعة كلها جزء بسيط من الظواهر التي تلتمس فيها القدرة الإلهيّة غير المحدودة هذا المبدأ حكم جميع لتجارب الصوفيّة.. ص166).

كما أجري عرضاً للمدارس الصوفيّة في العالمين العربي والإسلامي، ومنها (مدرسة "البصرة" – "الكوفة" – "بغداد" – "نيسابور"، وانتهاءً بمدرسة مصر والشام)، وعنها يقول: «وشيخ هذه المدرسة هو "ذو النون المصري"، ويعتبر المؤسس الحقيقي للتصوف الإسلامي في بلاد الشام، فهو أول من تكلم في الأحوال والمقامات على أساس علمي، واعتبر المعرفة بالله هي غاية المعرفة والغاية القصوى في طريق التصوف.. ص180». كما يتوخى المدارس التي تعود للأشخاص الذين مثلوها مثل مدرسة "رابعة العدوية"، (تتفرد هذه المدرسة بأن مؤسستها هي سيدة أطلقت تسمية عليها سيدة الحب الإلهي رابعة العدوية.. ص176)، أما المدرسة "الرفاعيّة" فإن (رائدها ومؤسسها الإمام "أحمد الرفاعي".. ص82)، و(المدرسة "البدوية" مؤسسها "أحمد البدوي".. ص182)، ويروي الباحث قصة نقابه (واشتهر بالعطَّاب لأنه كان يعطب من يؤذيه وكان لا يكشف اللثام عن وجهه، فقال له أحدهم: أرني وجهك، فقال له: كل نظرة برجل. فقال: أرنيه ولو مت. فكشفه فمات الرجل حالاً!؟.. ص182).

كما يتحدث عن "الدسوقي" ("إبراهيم الدسوقي القرشي الهاشمي"... وهو شيخ الطريقة البرهانيّة، صاحب المحاضرات القدسيّة والعلوم الدينيّة، وهو أحد الأئمة الذين أظهر الله لهم المغيبات، وخرق العادات والولاية الراسخة.. ص186)، ويختتم المدارس الصوفيّة في المدرستين "الشاذليّة" التي: (أسسها "أبو الحسن الشاذلي الحسيني"... وهو إمام وقطب الطريقة "الشاذليّة"، وعميدها، ومؤسسها.. ص188).

أما المدرسة (الكيلانيّة – الجيلانيّة) فهي التي: (أسسها "الشيخ عبد القادر الجيلاني"، ويعتبر أحد شيوخ الصوفيّة الكبار والأربعة العظام "الرفاعي" – "الجيلاني" – "البدوي" – "الدسوقي".. ص189)، ويعدد متطلبات المدرسة "الجيلانيّة" للوجوه التي يعتمدها مريدها:

  • وجه ينظر به إلى الدنيا

  • وجه ينظر به إلى الآخرة

  • 3. وجه ينظر به إلى الخلق

  • وجه ينظر به إلى الخالق.. ص191
  • كما يروي الباحث ويصف تصورات والدة "الجيلاني" عندما كان رضيعاً: «لما كان رضيعاً كان يرفضه الارتضاع في نهار شهر رمضان الكريم وكان سنه في ذلك الوقت أقل من عام وقد نشأ نشأة صالحة في العلم والخير.. ص190»، ويختتم الباحث المؤلف في مقتطعات من الشعر الصوفي ("ابن ممنون المحب" – "ذو النون المصري" – "السهروردي" – "ابن الفارض" – "الجيلاني" – "جلال الدين الرومي" – "الحلاج" – "البوحيري").

    كما يورد بعضاً من أسفار "الغزالي"، وبخاصة حول سؤال استواء الله (جل جلاله على عرشه)، ورد "الغزالي" على ذلك المتسائل:

    قل لمن يفهم عني ما أقول/ قصر القول فذ اشرح يطول

    ثمّ سر غامض من دونه/ قصرت والله أعناق الفحول

    في مختتم دراسته يدعو الباحث إلى (اعتدالية بين المادة والروح، وهذه هي الوسطية بعد تجارب الشعوب والمجتمعات والأمم، وما أنتجته عبر تاريخها الطويل من فلسفات وحضارات، فكانت الوسطيّة والاعتدال فيما بينها لكي تستقر مسيرة الحياة والحضارة وتترسخ قيم الإنسانيّة..ص211).

    جدير بالذكر أن "الدرويش" كما أسلفنا تتمحور كتاباته حول: (الأخلاق والدين وعلاقتهما بالسياسة والثقافة ) وهو – بنظرنا – خط ينبئ عن منهجيّة واعدة.