عندما تمت فتوحات التحرير العربية، في كل من مصر، وبلاد "الشام"، والعراق، وإفريقيا الشمالية، كانت الثقافة السائدة في هذه البلاد هي الثقافة الهيلينية – البيزنطية، وكانت أهم مراكز هذه الثقافة "الإسكندرية"، و"بغداد"، و"الرقة"، و"جنديسابور". وفي هذه الفترة اشتهرت مدينة "جنديسابور" الواقعة في جنوب دولة إيران، وظل تدريس العلوم الإنسانية اليونانية، يتم باللغة الآرامية الأم حتى بداية العصر العباسي، حيث حصل اتصال بين هذه المدن من الناحية العلمية، وخاصة مدينة "جنديسابور"، إذ أنّ الخليفة "أبي جعفر المنصور"، طلب مجموعة من الأطباء إلى "بغداد" لمعالجة مرض كان يعاني منه في معدته، وقد قدم إلى "بغداد" مجموعة من الأطباء، وعلى رأسهم رئيس الأطباء "جورجيس بن بختشوع".

ومن عائلة "بختشوع" هذه استدعى الخليفة "هارون الرشيد" مجموعة من الأطباء الذين عاشوا في قصره الجنوبي في مدينة "الرقة". كما أنّ الخليفة "الرشيد" أمر "جبريل بن بختشوع"، وهو حفيد "جورجيس" بتأسيس "بيمارستان" في كل من "بغداد"، و"الرقة"، وهي المنشأة التي يسميها اليوم أهل "الرقة" بـ"قصر البنات"، وهذه المنشأة ما زالت قائمة حتى مستوى الدور الأول، وهكذا تأسست النواة الأولى بتدريس، ونقل علوم الطب اليوناني إلى العرب المسلمين، وبدأت علوم الترجمة تنتشر بين الأوساط المثقفة، وانتشرت ترجمة الكتب الطبية من اللغة اليونانية إلى اللغة العربية.

.. غير أنه يبدو أن أولى الترجمات من هذا النوع تعود إلى عصر أسبق

وعلى الأطراف الشمالية الغربية من أرض الخلافة العربية الإسلامية، كانت هناك مجموعة من المدن العربية هي: "حران"، الواقعة في منطقة "الجزيرة" السورية العليا، بين "الرها"، و"رأس العين"، وبالقرب منها "نصيبين" و"الرقة"، "كالينيكوم"، هذه المدن جميعها عاصرت الفترات اليونانية والرومانية. وفي مدينة "حران" التي أطلق عليها رجال "الكنيسة" اسم "هيلينوبوليس"، انتشرت فيها، وفي "الرقة" ديانة تتكئ معتقداتها على مزيج من العقائد البابلية واليونانية القديمة، وسميت بالديانة "الصابئة" خاصة في عهد الخليفة العباسي "المأمون"، الذي جعل من "الرقة" منطلقاً لغزواته ضد الروم. وكان الخليفة "المأمون" قد أسس "بيت الحكمة" في "بغداد"، ويروي المؤرخون أنّ "المأمون"، كان يمنح المترجم مالاً بقدر وزن الكتاب، وأنه كان يعلّم الكتاب المترجم بعلامة خاصة، ويأمر بوضعه في "بيت الحكمة"، ويقال أنه كان يمنح مؤلفي الكتب الفلسفية مقداراً أكبر، مما أوجد حالة من الحراك الثقافي الواسع والمتطور، وأوجد أيضاً تنافساً بين العلماء والمترجمين.

قصر البنات (البيمارستان)

لقد عرفت الحضارة العربية الإسلامية بفضل هذا التمازج الفكري، عصراً فكرياً متطوراً في القرن الثالث الهجري، التاسع الميلادي، وخاصة خلال فترات حكم الخلفاء "المنصور"، و"هارون الرشيد"، و"المأمون"، ولقد تم هذا التمازج، وهذا التماهي خلال حركة هامة ومتطوّرة هي الترجمة، التي احتلت فيها مدرسة "حنين بن إسحاق" مكاناً رائداً ومتميزاً.

لقد كانت ظاهرة الترجمة إلى اللغة العربية في عهود الخلفاء الأوائل في العصرين الأموي والعباسي، نشاطاً منتشراً بشكل نسبي في البلدان التي فتحها العرب آنذاك. ومع أول هذه الفتوحات، أسرع العرب في السيطرة على هذه البلدان المفتوحة، ووضعوا عربياً على قيادتها محافظين بذلك على البنى القائمة، المتمثلة في العقود والسجلات، والمحفوظات. كما فرضت اللغة العربية كلغة رسمية، وسعوا إلى توسيع انتشارها، لأنها اللغة التي نزل بها القرآن الكريم. لذلك نجد أنّ الخلفاء أمروا بترجمة كل ما يتعلق بالإدارة الفارسية في العراق، وبذلك أصبحت اللغة العربية، اللغة الرسمية، في العصر الأموي في كل من سورية ومصر، بدلاً من اللغة اليونانية.

كما أنّ الخليفة الأموي "عبد الملك بن مروان" الذي أصبح خليفة المسلمين من عام /685/ إلى /705/ ميلادي قام بترجمة كل ما يتعلق بالأمور المالية، وقام بفرض اللغة العربية لغة عمل، بالنسبة للموظفين الذي يمتلكون بين أيديهم دفاتر الحسابات، وكذلك بالنسبة لأمور المحاسبة العامة. وكما أسلفنا سابقاً كان لا بد من انتظار العصر العباسي كي تترجم إلى اللغة العربية أهم أعمال الفلاسفة الكبار من أمثال "أرسطو"، لأنّ المؤلفات الفكرية والفلسفية العلمية التي ساهمت فيها بنشاط مدرسة "حنين بن إسحاق"، قد تأخرت بشكل ملحوظ، إذ أنه لم تترجم إلاّ بعض المؤلفات اليونانية في الطب، وبعض رسائل "أرسطو"، وأعمال الترجمة هذه كانت أعمال منفردة، وفردية لا تنضوي تحت حركة عامة للترجمة.

يقسم العصر العباسي للترجمة من اللغة اليونانية، والسريانية إلى ثلاثة أجيال من المترجمين بشكل عام، رغم كل الصعوبات التي تعترض الباحث في تحديد هذا الحدث الهام، ويرى الباحثون مثل السيدة الباحثة: "مريم سلامة – كار"، ففي كتابها "الترجمة في العصر العباسي"، "دمشق"، /1998/ ميلادي، ص، /13/ تقول: «الجيل الأول، من عام /753/ ولغاية عام /774/ ميلادي، أي في بداية العصر العباسي، وهو يقع تحت حكم الخليفتين "المنصور"، و"الرشيد"».

في الفترة الأولى، وهي الفترة التي تقع تحت حكم الخليفة "المنصور"، تميزت باهتمام بالغ من قبله، وخاصة بعلم "الفلك"، إذ أنه من قصره في "بغداد"، أعطى أمراً بترجمة الكتب الهندسية التي تعالج هذا العلم، وفي هذه الفترة بالذات أمر ابنه "الهادي" ببناء مدينة "الرافقة" بالقرب من مدينة "الرقة البيضاء". كما أنّه طلب من إمبراطور الروم، أن يزوّده بأعمال "إقليدس"، و"المجسطي" لـ"بطليموس"، وأنه أيضاً أمر بترجمة كتاب "اقليدس" إلى العربية، "المصدر السابق"، وحسب "بن خلدون"، يعتبر هذا الكتاب من أولى الترجمات من اللغة اليونانية، إلى اللغة العربية، غير أنّ السيدة "مريم سلامة – كار" في كتابها "الترجمة في العصر العباسي"، ص /13/ تقول: «.. غير أنه يبدو أن أولى الترجمات من هذا النوع تعود إلى عصر أسبق».

ويضم هذا الجيل مجموعة طيبة من المترجمين من أمثال: "يحيى بن البطريق"، الذي ترجم "المجسطي" في زمن الخليفة "المنصور"، "جرجس بن جبريل" وهو طبيب عاش في زمن "الرشيد"، و"عبد الله بن المقفع" الذي عاش في زمن الخليفة "المنصور"، وترجم كتب المنطق، و"يوحنا بن مأسويه".

في إشارات قديمة أخرى أخبار موثقة ترى، أنّ الكاتب "ابن المقفع"، كان قد ترجم للخليفة "المنصور" كتباً أخرى من بينها كتاب "بانشانترا" الهندي، "قواعد سلوك الملوك". كما أنّ الخليفة "هارون الرشيد" الذي حكم من عام /784/ ولغاية عام /808/ ميلادي، قد أمر، وهو في "الرقة" بترجمة المؤلفات الطبية اليونانية، التي تم جمعها أثناء حروب التحرير العربية، وقد أوكل هذه المهمة إلى الطبيب " يوحنا بن مأسوية".

أما الجيل الثاني، فإنه يعود إلى عهد الخليفة "المأمون" الذي حكم من عام /813/ حتى عام /833/م، وهذا الجيل ينتمي إليه "حنين بن إسحاق"، ومدرسته التي كانت تضم مجموعة من المترجمين مثل: "ثابت بن قرة"، و"كوستا بن لوقا"، و"يحيى البطريق"، و"الحجاج بن مطر"، الذين كانوا على رأس القائمة من مترجمي المرحلة الأكثر فعالية في حركة الترجمة في العصر العباسي.

أما الجيل الثالث من هذه الحركة العلمية المتألقة، فقد ظهرت بدءاً من عام /912/م، ولغاية نهاية القرن العاشر الميلادي. ومن مترجمي هذه المرحلة نستذكر بعض الأسماء اللامعة في حقل الترجمة مثل: "يحيى بن عادي"، و"متى بن يونس"، "سنان بن ثابت"، وكانت الترجمة تتم، إما مباشرة من اللغة اليونانية إلى العربية، أو من اليونانية إلى السريانية، ومن ثم إلى العربية. ولقد لعبت المكتبات العامة والخاصة دوراً كبيراً في هذا المجال، وخاصة "بيت الحكمة"، الذي اشتهر في "بغداد"، وفرعه الثاني في "الرقة".

وعلى ذكر هذه المكتبات نود هنا أن نشير، إلى أنّ المكتبات بشكل عام في كل من سورية، ومصر، والعراق، قد لعبت دوراً مهماً في الفترة السابقة على الإسلام منها على سبيل المثال: مكتبة "الإسكندرية" التي أنشئت في القرن الثالث قبل الميلاد، وهناك مكتبات أخرى في كل من سورية والعراق استخدمت في العصر الأموي. وهنا نشير إلى أنّ "حنين بن إسحاق" ومدرسته تقع في الجيل الثاني. هذا ويروي لنا "ابن النديم"، أنّ الإخوة "شاكير"، وهم "أبو جعفر"، و"حسن"، و"أحمد"، وهم من المترجمين اللامعين، قاموا باستدعاء مجموعة من المترجمين إلى "بغداد"، و"الرقة". وتشير المصادر الأدبية والتاريخية إلى أنَّ المترجمين ليسوا فقط لغويين، بل كانوا من كافة الاختصاصات العلمية، من طب، وفلك، رياضيات.

لقد لعبت الترجمة دوراً كبيراً ومهماً في تقدم الحضارة، وهي تلك الظاهرة التي أبرزتها مدرسة "حنين بن إسحاق"، ودار "الحكمة" في كل من "بغداد" و"الرقة" بشكل رائع، وقد لعبت مدن أخرى دوراً لا يقل أهمية عن الدور الذي لعبته كل من "بغداد"، و"الرها"، و"الرقة" مثل "نصيبين"، و"رأس العين" وغيرهما من مدن الخلافة آنذاك.

المراجع:

1ـ "حوار الأمم"، "محمد عبد الحميد الحمد"، "دمشق"، /2001/ م.

2ـ "الترجمة في العصر العباسي"، "كار- مريم سلامة"، ت: "د. "نجيب عزاوي"، "دمشق"، /1998/م.

3ـ "تاريخ اليونان"، ج1، د. "محمد كامل عياد"، "دمشق" /1969/ م.

4ـ "تاريخ الإسلام"، ج3. د. "حسن إبراهيم حسن".