الصحة هي غاية ما يحرص عليه الإنسان في كل زمان ومكان، لهذا لجأ الناس ـ قبل تطور الطب الحديث وازدياد عدد الأطباء ـ إلى الأطباء الشعبيين الذين اكتسبوا علمهم بالخبرة والتجربة، وفي منطقة "الرقة" كذلك، كان اعتماد أغلب الناس ـ ومنذ عقود قليلة مضت ـ على هؤلاء الأطباء الشعبيون، بسبب ندرة الأطباء الأكاديميين.

الحاجة "زلخة العجاج" تقول عن تلك الأيام:

قدمت إلى ريف "الرقة" برفقة زوجي في بداية الأربعينيات من القرن الماضي، وقد عمل زوجي ـ رحمه الله ـ فلاحاً بأراضي الشيخ "النوري ابن مهيد"، وهو من شيوخ عشيرة "الفدعان"، ولا أذكر أنه في ذلك الوقت كان يوجد طبيب في "الرقة"، فكان الأطباء الشعبيون هم الكل بالكل، وكان معظم الناس يتداوون عندهم، اللهم بعض الأغنياء والشيوخ الذين كانوا يذهبون إلى "حلب" أو "دمشق"، وأذكر أن أشهر طبيبة "نسوان" كانت في تلك الأيام هي "عمشة" لكنني والحمد لله لم أزرها أبداً

«قدمت إلى ريف "الرقة" برفقة زوجي في بداية الأربعينيات من القرن الماضي، وقد عمل زوجي ـ رحمه الله ـ فلاحاً بأراضي الشيخ "النوري ابن مهيد"، وهو من شيوخ عشيرة "الفدعان"، ولا أذكر أنه في ذلك الوقت كان يوجد طبيب في "الرقة"، فكان الأطباء الشعبيون هم الكل بالكل، وكان معظم الناس يتداوون عندهم، اللهم بعض الأغنياء والشيوخ الذين كانوا يذهبون إلى "حلب" أو "دمشق"، وأذكر أن أشهر طبيبة "نسوان" كانت في تلك الأيام هي "عمشة" لكنني والحمد لله لم أزرها أبداً».

الباحث حسن عساف العدواني مدير دار التراث في الرقة

موقع eRaqqa وبتاريخ (30/11/2010) وللوقوف على تفاصيل هذا الموضوع، التقى الباحث "حسن عساف العدواني"، الذي حدثنا عن تاريخ الطب الشعبي في "الرقة" قائلاً: «إن أهل "الرقة" كغيرهم من عرب البوادي, مارسوا مهنة الطب الشعبي خلال القرون الماضية، بما أملته عليهم ظروف الحياة التي عاشوها بمعزل عن العالم المتقدم, وبحثوا طويلاً في فكرهم الأمي لإيجاد الدواء الذي يدفع عنهم الألم، ولم يجدوا في بادئ الأمر إلا ما حفظوه عن أسلافهم، وبحكم البيئة الرعوية والزراعية لأهل "الرقة" فقد تعرفوا على مئات الأصناف من الأعشاب والنباتات والفاكهة التي يتداوى بها المرضى، والأعشاب كما هو معروف علمياً هي أول ما عرفه الإنسان من وسائل علاج الأمراض.

أما الأطباء الذين عاصروا القرن العشرين وما قبله، فنذكر أشهرهم وأبرعهم في المنطقة، علماً أن أصغرهم سناً هو من مواليد /1910/م، فبالنسبة لاختصاصيي الجراحة، فقد اشتهر منهم الأطباء التالية أسماؤهم، وهم حسب القدم "صلعو وعلي الصران" و"عبد الجبار الخلف" و"بتال الحمود"، أما أطباء الكي بالنـار فهم كثر وأشهرهم "علي الشواخ" و "حمد الجبل" و "حسين الحايك"، ومن أشهر اختصاصيي الداخلية "سطم العبو" و"عبيد الخضر" و"عساف الخلف" و "عبد الله السرد" و"علي البيبي".

الحاجة زلخة العجاج

ومن أهم أطباء الكسور "شيخ الحمد جاسم الشبلي" و "محمد العيسى الشعيب" و "صالح الخلف"، و من أشهر أطباء الرضوض هو "مطر الشواذيب"، ومن أشهر ومن أهم طبيبات النسائية في منطقة "الرقة"، "هلالة الصالح" و "ندوة الفارس" و"خود الحمد" و"فضة الحسين المانعية" و"فضة الجاسم البيطارية", لكن تبقى "عمشة العبيدات" الملقبة "عمشة الحكيمة" هي أبرز طبيبة نسائية وداخلية في "الرقة" ـ طبعاً على المستوى الشعبي ـ حيث كانت لديها خبرة واسعة ودراية كبيرة في معالجة العديد من الأمراض التي تصيب النساء».

يقول الباحث والشاعر الأستاذ "محمود الذخيرة" عن الحكيمة "عمشة الحكيمة"، كونه عاصرها وشاهدها بعينه في عام /1955/م:

الباحث والشاعر محمود الذخيرة

«كانت عجوزٌ، عمرها حوالي سبعين عاماً، وقد قالت أنها زاولت مهنة الطب بعد أن كاد المرض يهلكها، فتعلمت مداواة المرضى بعد أن جربت الدواء على نفسها وشفيت من علة مرضية، وأذكر أنها تحدثت أمامي عن سبب قوتها الطبية، حيث أنها اهتدت إلى عشبة تنمو في فصل الربيع، وهذه العشبة تحمل شحنة كهربائية ـ كما تدعي ـ فلا تكتشف إلا في الظلام, حيث تعطي شرارة كهربائية بمجرد لمسها، وهذه العشبة كانت سبب شفائها من مرضها، وكانت لا تطلع أحداً عليها، فهذا سر المهنة وسبب تفردها، وكانت تردد "عمشة الحكيمة" هذا المثل الشعبي دائماً: "ما يصير طبيب إلا من بعد علة"».

العطار "صبحي عويرة" وهو من أصحاب أول محل عطارة في مدينة "الرقة" قال: «منذ نعومة أظفاري وأنا أعمل في هذه المهنة التي ورثتها أباً عن جد، وقد كان جدي ووالدي بمثابة أطباء وصيادلة في هذه المدينة، فعندما افتتح جدي ـ منذ مئة سنة تقريباً ـ أول محل عطارة في "الرقة" لم يكن هناك أي طبيب، وكان اعتماد الناس الأساسي في علاج الأمراض على الأطباء الشعبيين والعطارين وبعض الشيوخ أو "السيَّاد"، وبقي الأمر كذلك عقوداً طويلة، إلا الأمر تغير عما كان عليه خلال الأربعة عقود الأخيرة، حيث بدأ عدد الأطباء الجامعيين سواء من أهالي "الرقة" أو من المحافظات الأخرى بالازدياد، الأمر الذي ساهم بابتعاد الناس شيئاً فشيئاً عن الأطباء الشعبيين، لكن الآن ورغم وجود مئات الأطباء من كافة الاختصاصات، فهناك الكثير من الناس من يلجأ إلى الطب الشعبي و"السيِّاد" بسبب قناعتهم الخاصة بأن الطب الحديث لا يعالج كافة الأمراض، وأن هناك العديد من الأمراض لا تعالج إلا عن طريق الطب الشعبي أو الطب العربي، ويعبرون عن هذه ذلك بقولهم: "هذا المرض مو شغل دكاترة"».

وبسؤال "العدواني" عن الأطباء الأوائل في "الرقة"، الذين يحملون شهادات علمية، أجاب قائلاً: «يعتبر الطبيب "فؤاد أيوب آغا" أول طبيب في منطقة "الرقة" بشكل رسمي وهو من مواليد عام /1875/م، وكان والده "أيوب آغا الصيادي" قد قدم إلى "الرقة" في بداية تكوين الخلية الأولى للمدينة عام /1870/م. ثم جاء الطبيب "عبد السلام العجيلي" الذي ولد عام /1918/م في مدينة "الرقة"، ودرس الطب في أربعينيات القرن العشرين في جامعة "دمشق" وتخرج فيها عام /1945/م، ومارس المهنة بشكل رسمي عام /1948/م، وهو يعتبر أول طبيب من أبناء "الرقة"، وقد مارس هذا الطبيب مهنته بشكل دائم في محافظة "الرقة" وكانت له شهرة كبيرة في المنطقة، وعندما بدأ الدكتور "عبد السلام العجيلي" مهنته كطبيب عمل عنده شخص أرمني يدعى "تيتوز" بصفة ممرض وصيدلي بآن واحد، وكان يسميه أهل الرقة "طاطوز"، وقد كانت له شهرة واسعة بينهم، فعلاوة على أنه كان ممرضاً بارعاً، فقد كان ذا روح مرحة وحاضر النكتة، يرسلها بلباقة وذكاء بالرغم من لغته العربية المكسرة، ويعتبر "طاطوز" أول صيدلي في مدينة "الرقة".

ومن الأطباء الأوائل كذلك الدكتور "محمد منير أنتيبا" وقد قدم هذا الطبيب من مدينة "حلب" واستوطن في مدينة "الرقة" ومارس مهنته فيها وكان ذلك في أوائل الخمسينيات من القرن العشرين، وقد توفي ودفن في "الرقة"».