ارتبط اسم "هارون الرشيد" باسم مدينة "الرقة"، كما ارتبط اسم "عبد السلام العجيلي" باسمها أيضاً، ولا نبالغ إذا قلنا بأنه هو ثالث عاشق مدنفٍ بحب مدينة "الرقة" حتى الرمق الأخير من قصائده التي نظمها في حبه لها.

إذ ارتبطت بوجدانه كما كل الذكريات التي كانت لتجرحه بالمطلق، ولم يعشق رجل مدينة كعشقه لها، فقد كان يقبّل قرميد سورها، وكأنه يشم عبق "هارون الرشيد" من بين ثناياه، إنه "مصطفى الحسون" الذي تماهى بحبه لمدينته، حتى أضحى "الفرات" يسكن شرايينه، ويجري لاهثاً في أوردته ليستقر في قلبه.

حمل "الحسون" هموم "الرقة"، وآلامها في أعطافه، وهام بها حباً حيث حطت به الرحال، وقدم نماذج من شعره في شتى أبواب الشعر وأغراضه، وبرع في الوصف، والغزل، والمرأة، والهم الوطني، وبرزت القيمة التاريخية بما كتب، مذ وعى حجارة الأثر العباسي، الذي تحفل به مدينة "الرقة"

الناقد الأستاذ "عبد السلام الحياني"، الذي خصص وقتاً كبيراً في تحقيق ديوان "الحسون" كتب عنه العديد من الدراسات النقدية التي نشرها في الدوريات والصحف المحلية والعربية، وهو أحد تلامذته النجباء، وأحد رفاق دربه، وتحدث عنه بشهادة تلاها في إحدى الأمسيات الأدبية فقال: «حمل "الحسون" هموم "الرقة"، وآلامها في أعطافه، وهام بها حباً حيث حطت به الرحال، وقدم نماذج من شعره في شتى أبواب الشعر وأغراضه، وبرع في الوصف، والغزل، والمرأة، والهم الوطني، وبرزت القيمة التاريخية بما كتب، مذ وعى حجارة الأثر العباسي، الذي تحفل به مدينة "الرقة"».

مدونة وطن "eSyria" ألقت الضوء على شخصية هذا الشاعر "الرقاوي"، والتقت الباحث الأستاذ "حمصي فرحان الحمادة" بتاريخ 5/11/2008، حيث بدأ حديثه بتعريفنا بهذه الشخصية بالقول: «هو "مصطفى إبراهيم الحسون"، المولود في "الرقة" عام /1928/م، ذاق مرارة اليتم بوفاة والده ولما يكمل الثالثة من عمره بعد، انقطع عن الدراسة النظامية، ولكنه كان محباً للقراءة والكتاب، فصار يقرأ ما تيسر له من الكتب، وطور نفسه لأن الله حباه بذاكرة وقادة، وأمده ببصيرة أهدته إلى الصواب بما يسعى إلى تحقيقه، عمل معلماً في مدرسة "الرشيد" الابتدائية، التي كانت المدرسة الوحيدة في "الرقة" وقتذاك، وكان لي شرف التتلمذ على يديه، وأنا طالب في الصف الثاني الابتدائي، بين عامي /1949 -1950/م، ثم صار مديراً للمدرسة ذاتها، ثم أميناً لآثار ومتاحف "الرقة"، وبرز حبه لهذه المدينة، وعشقه لتاريخها وهو في هذا المنصب، إذ كانت له اليد الطولى في الحفاظ على أوابدها الأثرية من الضياع، فقام بترميم "السور الأثري"، و"قصر البنات"، وجامع "المنصور"، أو الجامع "العتيق" كما يحلو لأهل المدينة تسميته».

أما عن شعره فقال تلميذه، الأستاذ "عبد السلام الحياني": «تعجز الكلمات عن وصف ما أشعر به عندما أقرأ لمعلمي الراحل "مصطفى الحسون" بعضاً من شعره، وكان سيفخر أيما فخر لو سمع أحد تلامذته يصف أسلوبه الشعري، الذي تميز بتوزعه بين مختلف أغراض الشعر العربي، لكنه كان مقلاً في المدح والهجاء، وقليلة هي قصائده في الرثاء، فالقضايا التي شغلته كثيراً ككل أبناء جيله في ذاك الزمان الجميل، الوطن وهمومه، وقضايا الأمة العربية، فقد أخلص للعروبة عقيدةً وتطلعاً، وتفاعل مع كفاح الشعوب العربية وهي تقارع المستعمر، في "الجزائر" و"فلسطين" و"العراق"، كان مترفاً في إحساسه الوطني، مشبعاً بالفكر القومي، إذ لم يعبر في كل شعره عن أي حزب سياسي، أو تنظيم حزبي، وعندما انفجرت الثورة العربية في "فلسطين"، وانبثقت المقاومة المسلحة كخيار للكفاح، قال في إحدى قصائده يفخر بالثورة ويبشر بمجد الأمة:

عـدنا أقـل المـــــــــلام الــيوم لاحـينا / أمــــــا ترى أرضنا أضحت مـــــــيادينــــا

كتائب الفتح فـي الجولان صاعقة / وعاصف في ربا الأردّن في سينا

وفـي الكـــــرامة والعرقوب ثـــــــــائرنا / والله أكـــــبر ردت فـي مــــــغانــــــينا».

وعن تلك العلاقة الروحانية بالمكان الذي يعيش فيه، وولعه بآثار "الرقة"، وما ترك ذلك في شخصيته، ولاحقاً في شعره من أثر، قال "الحمادة": «لقد أعجب "الحسون" بالخليفة العباسي "هارون الرشيد"، كخليفة عربي، ورمز تاريخي يعبر عن عظمة السلطان العربي، لذا نراه في إحدى قصائده يتوجه له بالشكوى لما آلت إليه أحوال الأمة العربية، وكأني به يراه صرحاً أثرياً رابضاً يتحدى الفناء، كأنه الشيخ الطاعن في السن الذي لا يخشى السنون التي تمر عليه، متكئاً على هيبته ووقاره غير عابئٍ بالهرم، إذ يقول فيها:

الـدهـر نكــــــــس رأســــــــــــــه / ورفـعــــت للأحـداث رأساً

وجلست كالشيخ الـوقـــــــــــو/ ر تلـقـــــــن الأجـيال درسـاً

تصغي إلى نجوى الزما/ ن تمـر فـي الآذان هـمساً

نكـساً يـريــــــــد لك الفنـا / وأبـيت إطـــــــراقـاً ونـــكــــــــــــســـاً

طاولـت أعـناق السما/ ء وما ارتضيت الأرض رمساً.

وفي قصيدة أخرى له، يصف قصر "الحيرة الغربي"، الذي بناه الخليفة الأموي "هشام بن عبد الملك"، فرثى ذلك القصر كما رثى "البحتري" ديوان "كسرى":

راع منها السنون من بعد أنس / رائعات الفنون من عبد شمس

آنـســـــــــتني الديار تروي حـديــــثاً / وحـديث الديار إينـاس نفســـــــــــي».

وأنهى "الحمادة" حديثه عن "الحسون" بقوله: «إنه عاشق "الرقة"، الذي استحم بعين "العروس"، فتطهر من رجس الواقع، وشرب من "بليخها وفراتها" وما ارتوى، إلى أن قضى وهو صدٍ، كان دمث الأخلاق مع كل من عرفه، ربى فأحسن التربية لأولاده، ترك لنا ديواناً شعرياً يحمل اسم "البيان والجمال"، ومجموعة من المخطوطات التاريخية من أهمها "تاريخ الرقة"، من خمسة مجلدات، غادر الدنيا في أحد الأيام الفراتية الطويلة من شهر أيلول في عام /1995/م، رحمه الله وجزاه عنا خير الجزاء».

أما الأستاذ "ابراهيم دهام"، الموظف في مديرية اقتصاد "الرقة"، الذي كان صديقاً مقرباً من المرحوم "معن مصطفى الحسون" أحد أبناء الشاعر "مصطفى الحسون"، فقال عن هذه الأسرة وربّها: «عندما أتذكر تلك الأيام، أشعر بالغصة، فقد كانت زياراتي لصديقي المرحوم "معن"، تكاد تكون دوريةً بشكل يومي، لكوننا طلاباً في الصف ذاته، وعندما كنت أزوره في المنزل، كان الأستاذ "مصطفى الحسون" يطالعنا بوجهه البشوش، وكنت أرتعد لمرآه، إذ كان صاحب شخصية قوية، لكنه كان حنوناً، وعطوفاً في بيته، وكريماً، ولا أذكر مرةً رأيته في منزله، إلا والكتاب بين يديه، وكان يشجعنا على القراءة، لأنها برأيه مفتاح الخلود».

يذكر أن الأديب المرحوم "معن مصطفى الحسون" ابن شاعرنا "الحسون"، من أهم كتّاب القصة القصيرة في "الرقة"، كما برع في الترجمة عن اللغة الإيطالية، وأصدر مجموعة من الترجمات نذكر منها: روايتا "البارون المعلق" و"الفيسكونت المشطور" للكاتب الإيطالي "إيتالو كاليفينو"، ورواية "ليال هندية" للكاتب "أنطونيو تابوكي"، و"صحراء التتار" للكاتب "دينو بوتزاتي".

  • تم تحرير المادة بتاريخ 8/11/ 2008.