«كما أراه، يعتبر واحداً من حملة إرث القصة "السيكولوجية" المثقلة بحركات النفس، وقلق الروح، واكتشاف الذات، ولعلَّ أكثر ما شدني وأنا أقرأ كتاباته، هو ذلك الأسلوب المسرحي الذي يتعاطى به مع القصة، كما في قصة "الشيخ مهماز"، وأستطيع- دونما شك- أن أبشِّر من الآن، بقاصٍ حقيقي يخرج من رحم هذه المدينة، رائع، صادق، مُعنَّى، اسمه "عبد اللطيف الجاسم"».

هذا ما كتبه الروائي الكبير "عبد الرحمن منيف"، عن تجربة القاص الرقّيّ "عبد اللطيف الجاسم"، لدى زيارته لمدينة "الرقة" منذ عدة سنوات.

رعاية أمي، تلك الأم العظيمة حقاً، كانت تبث فينا روح التماسك والحكمة، كنت أراها تغسل حوائجنا، وتغسل حوائج أبناء جيراننا الأيتام أيضاً، فكانت تقول: "كل شيء قرضة ودين، أغسل لهم الآن...حتماً سيأتي يوم من يغسل لكم في الغربة، لأن فعل الخير ينمو، ومركب به لله لا يغرق، ولي عندكم رجاء افعلوا الخير ما حييتم، لأن فعل الخير شجرة جذورها في الأرض وفروعها في السماء"، فكل هذه النواميس الحياتية التي كانت ترعاها أمنا العظيمة، نحس أنها تفجر في داخلنا ينابيع الرِّقة والبحث عن الأفضل

وعن مسيرة حياته يتحدث "الجاسم" لموقع eRaqqa، حيث يقول: «يبدأ "ألبير كامو" روايته "الغريب": "هذا اليوم ماتت أمي..."، وأنا أبدأ سيرتي الذاتية: "هذا اليوم مات أبي"، بعد عام وثلاثة عشر يوماً من ولادتي، رحل عن هذه المعمورة، وتركنا كومة لحم، ثلاثة أبناء وابنة وأم عظيمة... داهمتنا رياح اليتم باكراً بقسوة وعنف ضمن بقعة جغرافية نائية اسمها "الرقة"، النائمة على زند "الفرات"، يلمنا بيت عربي عتيق، الطقس البائس الذي يحوطنا جعلنا أشبه ما نكون بفراخ قطا، يحترق زغبها بنيران العوز وصعوبات الحياة دون حماية، مما أدى ذلك إلى تعثرنا، الذي يشبه الضياع لفقدان الرعاية والحماية والتوجيه».

عند استضافه للروائي الكبير عبد الرحمن منيف

سطور قليلة، لخص من خلالها كاتبنا سيرته الذاتية، لكن يبدو أنها لم تفِ بالغرض، لذلك فإنه سرعان ما راح يتابع حديثه الذي بدأه عن تلك الأيام الغنية بالفقر والشقاء، والتي رغم قسوتها فإنه يعتبرها صاحبة فضل عليه، حيث يقول:

«يبدو أن الألم والقسوة والوجع الروحي مدرسةٌ لصقل الذات ومدّها بلقاحٍ يعطيها المنعة والقدرة على التحمل الفطري، وكأن الإيمان بالصبر له علاقة بالوصول إلى مفتاح الفرج، نلتمُّ نحن الإخوة جميعاً تحت سقف غرفة من الفخار والطين. الحقيقة أن غرفتنا والفسحة التي تطل عليها عنوان مطابق تماماً لحالتنا، غرفتنا مختصرة الأشياء خاوية، لكن وللأمانة، دافئة نظيفة، والشمس زائر دائم داخلها، والنوافذ مفتوحة وهواء غرفتنا نقي أيضاً، وبدقة، رغم هذه الحالة الكارثية، كان ينمو بداخلنا شعور خفي كالضوء، يقودنا نحو أفق قد يكون أكثر وعياً يسبق عمرنا، لأننا أحرقنا مرحلة الطفولة الآمنة».

مدعوون إلى أعماق معذبة أول مجموعة قصصية للجاسم نشرت عام 1984م

ولا ينسى كاتبنا أن يتحدث عن والدته، التي زرعت فيه الكثير من القيم التي ساهمت ببناء ملامح شخصيته، فيقول: «رعاية أمي، تلك الأم العظيمة حقاً، كانت تبث فينا روح التماسك والحكمة، كنت أراها تغسل حوائجنا، وتغسل حوائج أبناء جيراننا الأيتام أيضاً، فكانت تقول: "كل شيء قرضة ودين، أغسل لهم الآن...حتماً سيأتي يوم من يغسل لكم في الغربة، لأن فعل الخير ينمو، ومركب به لله لا يغرق، ولي عندكم رجاء افعلوا الخير ما حييتم، لأن فعل الخير شجرة جذورها في الأرض وفروعها في السماء"، فكل هذه النواميس الحياتية التي كانت ترعاها أمنا العظيمة، نحس أنها تفجر في داخلنا ينابيع الرِّقة والبحث عن الأفضل».

ويتابع "الجاسم" حديثه: «رغم حالة العوز والمعاناة، كان وعينا المترافق مع الشقاء والفقر قد نما هو أيضاً، فصار أشبه بقلق يتلبسنا، فأصبح هذا القلق قدراً لا مفر منه، وبدأت لعبة القلق واللعب معه، يتخللها منغصات مرة كالعلقم، تبدأ من اللقمة إلى الكساء إلى مستلزمات المدرسة. لا أذكر في مرحلتي العمرية من الصف الأول حتى السادس، وبالأخص الصف الخامس والسادس الابتدائي... قمة البؤس والحاجة، صدقاً يصل الأمر إلى عدم ذهابك إلى المدرسة وتركها من أجل قلم رصاص ودفتر وصدرية، وهذه أقل احتياجات طفل في الدنيا.

مجموعته القصصية الثانية نشرت عام 1991

حصلت معنا قصص مأساوية، كنا ننام دون أكل، ونصحو دون أكل، ونذهب إلى المدرسة سكارى وما نحن بسكارى.. حيارى، تلفحنا رياح الحاجة، وأقسم أنني قضيت ثلاث سنوات كاملة من الصف الرابع حتى السادس بحذاء بلاستيكي واحد، وأهل الخير أبدلوه لي لأن نعله قد اهترأ، وصار جلد راحة قدمي هو الذي يلامس الأرض، وعندما نتذكرها الآن مثل غصة حلوة، كجرعة العسل الحلو جداً، لكنها مؤلمة، حدَّت الكثير من طموحاتنا.. ناهيكم عن معاناتنا مع البرد. على فكرة.! كل الفصول نواجهها وجهاً لوجه، دون وسيط وقاية.

ويبدو أن مدرسة الألم التي ترعرعت فيها، أيقظت جانباً من الوعي الشخصي لديَّ، فانتصرت على جوانب مهمة في الحياة، وخسرت رهاناتٍ كثيرة، لكن- والحمد لله- لم أخسر الرهان مع ذاتي، وهذا هو المهم. اخسر رهانات كثيرة، لكن لا تخسرها مع ذاتك، لا ترفع الرايات البيضاء أبداً، رممت ذاتي ولم أنهزم من داخلي، فتورطت أجمل ورطة وأمتعها، بدأت ممارسة الكتابة وأنا طفل في الابتدائية، وصرت أشرح أحاسيسي على الورق، فعشقت هذه المتعة المحفوفة بالألم والرهبة، وتجرأت بالإطلالة على ذاتي متعرقاً تعرقاً صادقاً لبثِّ هموم تعتلج داخل صدري.

لم يعلمني أحدٌ الكتابة، ولم يشجعني أحدٌ على المضي فيها، نحن جيل بلا أساتذة، لقد علمت نفسي بنفسي، قرأت قصص القرآن وبعض الكتب التي كانت مرصوفة في مكتبة مدرسة "المأمون"، مثل "ألف ليلة وليلة" و"كليلة ودمنة" وغيرهما من الكتب، ورغم هذه البعثرة الكارثية، وضحالة مصادر الحصول على ما ترغب به نشعر بأن أحدنا مثل طائر "الفينيق"..ننهض، فكان للحب والحلم دوراً مهماً في تحصيف حياتنا البسيطة، وأنا متأكد أن أي عصفور في الدنيا لو أراد كتابة مذكراته، لكانت مثل مذكرات أي أمة من الأمم ملأى بالكثير الكثير من الأحداث.

فكنت أحلم أحلاماً صغيرة، قد تكون مشوبة بأحلام اليقظة، فهذه المشاعر انتشلتني من التردي الذي كاد يحطم كل أركان تطلعاتي الذاتية، فكان اللطف الأنثوي العفوي الذي أحاطتني به ابنة الجيران "الأرمنية" التي تكبرني ببضع سنوات، وبثها في ركام رمادي شيئاً من الدفء، هو الذي دفعني لأن أكتب بالقلم والدفتر الذي أعطتني إياه هي، فكانت هذه أول هدية في حياتي، قلم ودفتر، لأنني كنت بحاجة إليهما في المدرسة، فكانت أول صفحة في الدفتر رسالة أو خاطرة، ترشح منها مشاعر أقرب إلى العاطفية، وكأنها قريبة من لهفة الحب، إلى تلك البُنيَّة التي تجاورنا في السكن».

وعن أثر القراءة والاطلاع على تجارب الآخرين، ودورهما في تكوين شخصية الكاتب، يقول "الجاسم": «عندما بدأت أتلمس حواف الكتابة وضفافها وألتقي مع أقراني الذين يتعاطون هواية الأدب، كان لدي ما يجعلني واثقاً من أنني امتلك القدرة والمخزون الذي سيدفعني باتجاهٍ أترك من خلاله بصمة تخصني في هذا المضمار، كنت نهماً لقراءة أي كتاب يقع بين يدي، والحقيقة فقد كانت عادة القراءة رائجة في ذلك الوقت- أي فترة السبعينيات من القرن العشرين- لأنها الملاذ الوحيد للخروج من الرتابة والملل، في تلك الفترة قرأت "زوربا اليوناني" للكاتب "نيكوس كازانتزاكيس"، انفجرت في داخلي عوالم مهمة، وكان هناك نوافذ فتحت إلى أماكن خالية تريد الامتلاء، لأن الثقافة عالم بلا حدود.

لذلك صرت أفهم جيداً- بعد مدة لا بأس بها من الزمن- عبارة "ألبير كامو": "كافكا دائماً بإزائي"، وكنت أقرأ لأكوِّن أفكاراً وأطلع على ثقافات العالم، فقرأت أهم ما كُتِبَ من أعمال أدبية على الصعيد العالمي والمحلي، وقد كان للأديب والصديق "سامي حمزة"- أطال الله عمره- فضل كبير عليَّ في هذا الجانب، حيث كان يشغل وظيفة مدير المكتبة لدى المركز الثقافي في "الرقة"، حيث انتخب لي منها عشرات الكتب القيمة والنادرة، التي ما كان لي أن أطلع عليها لولاه.

هذه الثقافة هي الذخيرة الحقيقية التي تنمي الوعي فينا، وتمنحنا القدرة على تكوين كيان ثقافي ذاتي. هذه القراءات صقلت أنفسنا وجعلتنا نطلع على ثقافات العالم المتمدن، فعالم الثقافة هو عالم الإبداع بلا حدود، فكنا نسافر ونطلع على بيئات العالم البعيد من خلال دفتي كتاب، عرفنا الكثير عن العالم من خلال أدبائه، لأن الكاتب هو السفير الحقيقي والمرآة الناصعة التي تعكس صورة وطنه، فتحضر الأمم يقاس بكثرة مفكريها ومبدعيها وعلمائها، لا بالأرصدة والقصور والسيارات، فكانت هذه الكتب التي قرأت، هي من انتشلني من الرقاد إلى اليقظة، وكانت النبراس الذي اهتدي به في كثير من اللحظات.

أعتقد أنني تولعت بأجمل متعة في الحياة، أعني عشقي للأدب، وأن أعظم الروايات هي تلك التي اندرجت في تلك المقولة "الهيغلية": الظاهر المخادع.. والواقع المختفي المنتظر للاكتشاف، الظاهر يخفي واقعاً مناقضاً».

ولد القاص "عبد اللطيف الجاسم" في مدينة "الرقة" عام /1958/م، شارك في العديد من الأمسيات الأدبية التي أقيمت في المركز الثقافي بـ"الرقة"، نال العديد من الجوائز، آخرها كان جائزة "البتاني" للقصة القصيرة، له مجموعتان قصصيتان، الأولى بعنوان "مدعوون إلى أعماق معذبة" عام "1984/م، والثانية بعنوان "متى نستيقظ نحن الأحياء" عام /1991/م.

كما أن لديه تحت الطبع عدة أعمال منها: "وحوش خفية" و"رياح الآلهة"، بالإضافة لعمل روائي قيد الإنجاز، وهو بعنوان "ذاكرة في الهواء الطلق".

القاص والصحفي "يوسف دعيس" فقد قال عنه: «تتميز قصص "عبد اللطيف الجاسم" بمقاربة شديدة للواقع حيث تراه يتلمس هموم الإنسان البسيط بحرفية عالية، يلتقط المفردات اليومية للناس البسطاء بأدق تفاصيلها، ليعيد صياغتها بلغة بسيطة لكنها من النوع السهل الممتنع، ففي مجموعته الأولى "مدعوون إلى أعماق معذبة"، يجاهر بالانتصار للإنساني، من خلال كشف المسكوت عنه في المجتمع، محاولاً تصعيد الحالة المهمَّشة لتكون محوراً رئيساً في الحياة، كما يحاول جاهداً أن يسلط الضوء عليها، باحثاً عن حلول ناجعة لهذه المخبوءات.

أما في مجموعته القصصية الثانية "متى نستيقظ نحن الأحياء" فنجد أن "الجاسم" لم يبتعد في تناوله لموضوعاته عن المجموعة الأولى، إلا أننا نلحظ أن هناك جنوحاً واضحاً نحو استخدام اللغة الشعرية في الصياغة القصصية، الأمر الذي أضفى جواً خاصاً من الرمزية وعمق الدلالة، شمل أغلبية الأعمال».