شكلّت "الرقة" منذ منتصف القرن العشرين علامة فارقة في المشهد الأدبي السوري، رغم بعدها عن المركز، وضعف وسائل الاتصال آنذاك، وسطع منذ أربعينيات القرن العشرين نجم "عبد السلام العجيلي" كأحد المؤسسين لفن القصة، ليس في "الرقة" وحسب، بل على مستوى سورية، ولعل الإلماعة الأهم والأكثر توهجاً ما تجلّى في كتابات الرواد منذ خمسينيات القرن العشرين، وعلى رأسهم الأديب الدكتور "عبد السلام العجيلي"، الذي برع في الكتابة بكافة أصناف الأدب، كالشعر والمسرح، وأدب الرحلات، والشعراء "مصطفى العبد الله الطه"، و"فيصل البليبل"، و"مصطفى الحسون"، والدكتور "إبراهيم الشعيب".

الحضور اللافت لمبدعي "الرقة" لم يأتِ من فراغ، بل كانت بوادره حاضرة منذ نهاية القرن التاسع عشر، وبدأت على ألسنة شعرائها الشعبيين، والتي شكلّت دعامة قوية للأثر اللامادي الذي تركه أجدادنا من قبل، حفظته صدور العامة والخاصة من أهلها.

كان والدي مولعاً بالسياسة، وانتســب إلــى حزب الشعب السوري، ويعد من القياديين البارزين في مدينة "الرقة"، ولنشاطه وثقافته حظي بالموافقة على حضور جلسات البرلمان السوري بصفة ضيف شرف مع رؤساء العشائر في خمسينيات وستينيات القرن العشرين

بعض من هؤلاء الرواد استطاع أن يترك آثاره بكتب مطبوعة، حفظتها المكتبات، وبعض آخر ظلّت آثاره حبيسة المخطوطات، مثل آثار المرحوم الشاعر "مصطفى الحسون"، ومنها أحد أهم المخطوطات التي كتبت عن "الرقة"، وهي مؤلفة من خمسة أجزاء، ويرصد فيها تاريخ "الرقة" كاملاً، إضافة لآثاره الشعرية الأخرى، وأيضاً آثار الشاعر "مصطفى العبد الله الطه"، التي لم يكتب لها أن ترى النور إلى حينه.

الأديب منير الحافظ

هناك أسماء أخرى غفلها الدارسون من أبناء "الرقة"، رغم حضورها اللافت في تلك الفترة، ولعلَّ اسم المرحوم الشاعر "عبد الله الحافظ" يأتي في مقدمتها، إن لم نقل من أبرزها، رغم أن ورثة "الحافظ" من الكتاب والمهتمين بالأدب، ويأتي في مقدمتهم ولداه القاص "بسام الحافظ"، والباحث والمسرحي "منير الحافظ"، فمن هو "عبد الله الحافظ"؟ ولماذا لم يكتب لنتاجه الأدبي أن يرى النور؟

وللتعرف على هذه الشخصية الأدبية، التقى موقع eRaqqa الأديب "منير الحافظ" بتاريخ (1/12/2009) ليتحدث عن سيرة والده الراحل، قائلاً: «ولد الشاعر الرّقي "عبد الله الحافظ" في عام /1920/، وترعرع في كنف أسرة دينية محافظة، عاش وحيداً لوالديه، وتنتمي أسرته إلى قبيلة "البريج" إحدى أبرز قبائل "العفادلة"، من بطون "البو شعبـان"، التي سكنت منذ قرون عديدة وادي "الفرات" بمحافظة "الرقة".

كان والده "الحافظ محمود" أحد رجال الفقه والإفتاء، فضلاً عن كونه إماماً وخطيبـاً فــي بدايات القرن العشرين، ولقب بـ"الحافظ" لحفظه القرآن الكريم، والأحاديث النبوية المسندة، كما أطلق عليه لقب "الخوجة"، وتعني المعلم لطلاب العلوم الدينية وحفظ القرآن في دور "الكتّاب" في "الرقة"، وكان يحاضر في "الرقة" و"الآستانة" فـي تركيا، ويعتبر "الحافظ" من أبرز شعراء المديح الديني عند الجماعات الصوفية، كما قرض الشعر "النبطـي"، وقيل أنه من رواد الشعر الغنائي الذي سُمـي "الموليا"، فكان يقرضه ويغنيه بصوته الطريب».

وعن شعره، يضيف "منير الحافظ"، قائلاًً: «قرض والدي "عبد الله الحافظ"، رحمه الله الشعر في سائر لونياته، المنظوم، الحديث "شعر التفعيلة"، النبطــي، الأمر الذي جعل أساليبه تتـنوع وأغراضه تتعدد، كما أنـه كتب القصة القـصيـرة، والمقالة السياسية والاجتماعية، التي تناولت القضايا الأهم في حياتنا المعاشة، وعلى وجه الخصوص إبان فترة الاحتلال الفرنسي لسوريـة، وما بعد الجـلاء، وما حفلت بها من إحداث جسام، وقد نشر نتاجاته الإبداعـية فـي صحف عدة، داخل القطر وخارجه، ما لبثت كتـاباتـه، التي غلب عليها الطابع النقدي الساخر أن جلبت له البؤس، فعانـى وجع النفي إلى أطراف محافظة "الرقة"، في مناطق "مريبط"، و"تل أبيض"، كما نفي إلى محافظة "دير الزور".

كما تجرع مرارة السجن، وتعرض للملاحقة أيضاً من قبل السـلطـات والشخصيات المتنفذة وقتذاك، فأخذ ينـشر سائر مقالاتــه تحت اسم مستـعار "ابن المنخرين"، وهو كناية إلى موقع بركانين قديمين، يقعان بالقرب من موطــن قبيلته، ناحية "الكرامة"، الواقعة على سقي "الفرات"، شرق "الرقة" بنحو /30/كم».

وعن توجه السياسي، يقول: «كان والدي مولعاً بالسياسة، وانتســب إلــى حزب الشعب السوري، ويعد من القياديين البارزين في مدينة "الرقة"، ولنشاطه وثقافته حظي بالموافقة على حضور جلسات البرلمان السوري بصفة ضيف شرف مع رؤساء العشائر في خمسينيات وستينيات القرن العشرين».

وعن حياته وآثاره الأدبية، يقول: «ترك الرجل مخطوطتين، المخطوطة الأولى تضم قصائد شعريــة متنــوعة، منـها المنظوم، ومنها الحديث، وحملت عنوان "أصداء"، والمحطوطة الثانية تحتوي علـــى مجموعة قصص قصيرة بعنوان "تأملات".

عاصر "عبد الله" شعراء وقصاصيـن عرب ذاع صيتهم في الأربعينيات والخمسيـنيات من القرن الفائت، وتبـادل معهم الرسائـل، والتـقـى ببعضهم، الأمر الذي أغنى تجربته الأدبية والصحفية والمعرفية على السواء.

توقف الرجل عن الإبداع فــي نهاية الستيـنات لأسباب سيـاسيـة ، وأخرى بسبـب وقوعه فريســة مرض القلب المضني في السبعينيات حتى وافته المنية في شهر آذار من العام /1987/م ودفن في "الرّقة"».

ومن قصيدة "ليلة حلم"، يقول:

أطربنــي بأحاديث الهوى/ سكر الندمان والكأس هوى

وغفــى العشاق إلا عاشقاً/ وثوى الكل وجفني ما ثوى

يا لها من ليلــة مسحورة/ نام عنها الدهر حيناً وانزوى

علمينـي الحب حسناء فهل/ يعرف الحب سواك والهوى

ومن قصيدة أخرى له، حملت عنوان "إلى ابنة الغوطتين"، يقول:

سائلي يـا هند صريع الأزل/ واسألي ما شئت دمع المقل

ما خفرت العهد بل نامت على/ مسرح الشكوى أنين الشكل

حطم الهجران قيثـار الهوى/ وذوى جسمي وباقي هكيلي

كم شـكوت الهجر للطير وكم/ شيعت عيناي ركب الأمل

كم تلظى القلب بالآهات في/ كبوة الليـل ونوم المقل

ورمـاد مـن فـؤاد فاحـم/ غيّره النأي ولما يرحل

يوم يطوي الموت قلباً معدماً/ فاعلمي أن هواك قاتل.