«"مريبط" هي كل شيء، هي الأهل، والأصدقاء، والخلان، ومرابع الطفولة ومدارجها، هي الأم والأب، هي النهر والتل، و"البرك" والعيدية، والمسحر في رمضان، هي الدبكات الشعبية، والأيادي المتشابكة، الشباب والبنات، هي "القوسار"، و"الخمسة"، هي خبز الصاج، و"التالي"، هي النجعة إلى الصوان في فصل الربيع، هي "الكرمة"، العزيمة التي نلتف حولها متحلقين، وأشجار التوت، والمشمش، والرمان، هي القريبة من "حلب"، والمفازة، وأصحاب الخانات" و"جب القبة"، و"باب الفرج"، و"سينما أوبرا"، و"الطرمايا"، وحارة "السيسي"».

بهذا الفيض من المحبة، يتحدث الباحث "خلف علي المفتاح" بتاريخ (25/11/2009) لموقع eRaqqa عن "مريبط" التي شهدت ولادته، وفيها أطلق صرخته الأولى.

العمل الثقافي والحزبي سفينة، والعمل السياسي والإداري زورق، الثقافي فضاء واسع، والسياسي حيز محدود، في الإداري السؤال ماذا أنجز؟ وفي السياسي والحزبي ماذا أقول؟ كانت السنوات التي قضيتها في العمل الثقافي، هي الأجمل في حياتي، وعلى الرغم من صعوبة التعامل مع الوسط الثقافي، فقد استطعت خلال سنوات عملي كمدير للثقافة، أن أؤسس لعلاقات ممتازة مع المثقفين والكتاب والفنانين، مازلت إلى الآن أعتز بها، من خلال تواصلي مع الجميع في "الرقة"، وخارجها

ويتابع حديثه حول ولادته، ونشأته الأولى، قائلاً: «ولدت في قرية "مريبط"، في محافظة "الرقة" عام /1955/، وهي قرية جميلة، تغفو على الضفة اليسرى لنهر "الفرات"، قبل أن تغمرها مياه البحيرة المتشكلّة خلف سد "الفرات"، وتبعد عن "الرقة" نحو /100/كم، وفيها عُثر على أقدم مسكن للإنسان في التاريخ، يعود للألف التاسع قبل الميلاد، وكنت السادس بين إخوتي وأخواتي العشرين.

كتاب إضاءات سياسية

درست الابتدائية والإعدادية في "مريبط"، بمدرسة "رفعت الحاج سري"، ونلت الشهادة الإعدادية عام /1971/، ثم الشهادة الثانوية، دراسة حرة عام /1974/، وحصلت على شهادة الصف الخاص، معهد إعداد المعلمين نظام السنتين، عام /1975/، والإجازة في الحقوق من جامعة "دمشق" عام /1984/، بعد أن حصلت على الثانوية مرة أخرى.

عشت في بيئة ريفية تعمل بالزراعة، حياة ميسورة، وعائلة متعلمة، حيث كان الوالد يرحمه الله، يجيد القراءة والكتابة والحساب الذهني، ما أهله لأن يعمل وكيلاً في "البرك"، وهو العبارة التي كان تنقل الناس وحاجاتهم من "المريبط" إلى الضفة المقابلة، وكان جميع إخوتي من المتعلمين، وحصلوا على شهادات علمية، أغلبها جامعية، فمنهم المدرس، والمهندس، والمحامي، والمعلم. وكان والدي يهتم بالسياسة، حيث كان عضواً في الاتحاد القومي، التنظيم الذي شُكل بعد قيام الوحدة السورية المصرية.

كتاب نحن والعالم

ويتابع في ذات السياق قائلاً: «كانت "مريبط"، تتوسط الطريق بين "الرقة"، و"حلب"، لذا فقد كانت معظم علاقاتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية مع "حلب" مباشرة، ونتيجة لهذه العلاقة، تعرفنا على أسس الحضارة الحديثة، فقد دخلت الكهرباء إليها مبكراً، وتعرفنا على الصحف والمجلات والكتب، وغيرها من وسائل الثقافة، عبر الوافدين إلينا من مدينة "حلب" مباشرة، دون أن تمر عبر "الرقة"، كما في بقية الحواضر التي تتبع لها، إضافة إلى العلاقة التي تربط أصحاب رؤوس الأموال في "حلب" مع منتجي الغلال الزراعية في المنطقة.

هذه الميزة وفرَّت لنا فرصة الانفتاح على العالم الخارجي، والإحساس بأهمية العلم والمعرفة، وإدراك أهمية التعليم، وارتقاء مدارجه الصعبة آنذاك، كما أن "المريبط" بما تتمتع به من أهمية تاريخية، باعتبارها أول مسكن في التاريخ، والمكان الذي شهد أول استيطان بشري، وضعت نصب أعيننا بأن المكان الذي ننتمي إليه، هو أس قوي من أساسات الحضارة الإنسانية، لذلك كانت "المريبط" الأم الحقيقية لنا جميعاً، فهي الوالدة الحنونة يرحمها الله ويطيب ثراها، وهي الوالد الصبور والكيس يرحمه الله».

كتاب العالم من حولنا

وعن الحدث الهام الذي ترك أثراً في شخصيته، والشخصيات التي أثرّت فيه، يقول "المفتاح": «لعل انصرافي عن متابعة الدراسة في الثانوية الصناعية، وأنا في السنة الأخيرة، والتوجه لدراسة الثانوية العامة، الفرع الأدبي، دراسة حرّة، هو الحدث الأهم والأبرز، الذي شكل تحولاً في حياتي، حيث استطعت أن أحقق أمنية حياتي، وهي الدراسة في الجامعة، والحصول على شهادة الحقوق.

التحول الثاني في حياتي، تمثل في مغادرتي سورية متوجهاً للعمل معلماً في السعودية في عام /1982/، حيث عملت معلماً في مدرسة تقع في منطقة "الحجاز"، وهناك في منطقة "إضم"، عملت أقل من سنة، ورغم إغراءات المال، عدت إلى سورية لأحيى حياتي الطبيعية فيها.

أكثر من أثرّ في حياتي هو المرحوم أخي "أحمد" خلال دراسته في جامعة "حلب"، حيث حببني بقراءة الصحف والمجلات والكتب والصيد والشعر، فقد كان من أوائل الخريجين الجامعيين في "مريبط"، إضافة لذلك فهو كاتب، يقرض الشعر، وله مساجلات ومعارضات شعرية لكبار الشعراء، لم يُكتب لها أن ترى النور، فقد ظلّت محبوسة بين صدور محبيه، وفي أوراقه التي بقيت حبيسة الأدراج، كما كان لوالدتي بحنانها، وعاطفتها الطاغية، أثر كبير في توجهنا نحو العلم، والتآلف مع الآخرين، ما جعلنا أسرة متحابة، ومتماسكة، ومتفاعلة مع محيطنا القريب والبعيد».

"المفتاح" عمل في مجال الإدارة، والثقافة، والسياسة، وكان ناجحاً في كل الوظائف التي شغلها، وعن ذلك يقول: «العمل الثقافي والحزبي سفينة، والعمل السياسي والإداري زورق، الثقافي فضاء واسع، والسياسي حيز محدود، في الإداري السؤال ماذا أنجز؟ وفي السياسي والحزبي ماذا أقول؟

كانت السنوات التي قضيتها في العمل الثقافي، هي الأجمل في حياتي، وعلى الرغم من صعوبة التعامل مع الوسط الثقافي، فقد استطعت خلال سنوات عملي كمدير للثقافة، أن أؤسس لعلاقات ممتازة مع المثقفين والكتاب والفنانين، مازلت إلى الآن أعتز بها، من خلال تواصلي مع الجميع في "الرقة"، وخارجها».

آخر المناصب التي تنسمها "المفتاح"، هو منصب المدير العام لمؤسسة "الوحدة" للصحافة والطباعة والنشر والتوزيع، وهي من كبرى المؤسسات الإعلامية في سورية، إضافة لذلك هو عضو اتحاد الصحفيين السوريين، وعن رؤيته للعمل الإعلامي في سورية، وآفاق تطويره، يقول: «أهم إنجاز للإعلام السوري، أنه بقي إعلاماً عربياً سورياً في الوقت الذي فقد فيه أغلب الاعلام العربي هويته، وهو إعلام مواجهة وتحدٍ ونقد وتنوير، ولكنه إعلام له هوية، قد لا تروق للآخرين.

الاعلام كأي شيء يتطور بتطوير مكوناته من خطاب وتقانة وكادر، ولكن الاعلام يحتاج إلى دعم مادي غير محدود ليستطيع المنافسة في عصر التقانة والانتشار الواسع. والتطوير ممكن وحاصل، ولكي تطور، تحتاج إلى كوادر مؤمنة بالتطوير ومهيأة، وتمتلك رؤية، وإرادة، ومنهجاً واضح المعالم، وقاعدة شعبية متفاعلة، وبيئة حاضنة، ومناخاً منفتحاً على جميع الاتجاهات».

دأب "المفتاح" خلال السنوات العشر الماضية على نشر المقالات الفكرية والسياسية في الصحف والدوريات المحلية والعربية، وجمع معظمها في كتب ثلاثة، حملت عناوين: "نحن والعالم"، و"العالم من حولنا"، وآخرها "إضاءات سياسية"، وعن دواعي نشرها في كتب، يقول: «معظم ما كتبته يحمل سمة الرأي، لذا فالتعبير عن الرأي في كتاب مطبوع إبراز للهوية الفكرية للمثقف والكاتب، وأنا منسجم مع نفسي وعقيدتي وانتمائي في كل ما أنشره وأكتبه وأعبر عنه في حواري مع الآخرين.

إنني من الذين يراهنون على أن الكتابة فعل مقاوم، خاصة وأن الأحداث التي تمر بها المنطقة العربية، تحتاج إلى عمل فوري وحاسم، يستند إلى تحليل ورؤية تنير الطريق أمام القوى الفاعلة في مجتمعنا، وأرى فيها ـ أي الكتابة ـ تفحص طويل ورؤية ومنارة لأشد كهوف الوعي عتمة، وتأمل هادئ للمستقبل.

من هنا جاءت مقالاتي السياسية في إطار رؤية وتحليل لما يجري في منطقتنا، وإضاءة للمستقبل من خلال القناعة من أنها قابلة للتكرار في أي وقت، علماً أنها قراءة للواقع في حركيته لا في جموده، قراءة ترى مستقبل الأمة في المعاني التي قدّمها الفعل المقاوم، مجسداً بما جرى في لبنان وفلسطين والعراق».

يذكر بأن "الباحث خلف المفتاح"، عضو في اتحاد الكتاب العرب، وقد تقلد العديد من الوظائف، فقد عمل معلماً، ومديراً لمدرسة "المتنبي" الابتدائية، ثم مديراً للثقافة في "الرقة"، وأميناً لشعبة التربية للحزب، ثم عضواً لقيادة فرع الحزب، فمديراً لمدرسة الإعداد الحزبي، ويشغل حالياً منصب المدير العام لمؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر والتوزيع، وعضواً للجنة المركزية للحزب.