«عشت طفولتي في البيت الكبير لآل "الصطاف"، وكان ذاك البيت في ذلك الزمن الجميل، لا يكاد يخلو من الضيوف على اختلاف مللهم، وما زالت تنطبع في ذاكرتي صور متلاحقة مما كان يحدث فيه من نقاشات وجدالات، كنت وأنا الطفل الصغير أصغي السمع إليها، وقد وهبني الله عز وجل ذاكرة أحمده عليها، ومما لا يمكن أن تخونني فيه ذاكرتي، قدوم شيوخ قبيلة "الفدعان" إلى بيتنا عند نزولهم مدينة "الرقة"، وهم آل "المهيد" وأبرزهم الأمير "مجحم بن مهيد" رحمه الله، فكانت تتوافد إلى بيتنا أغلب عشائر القطر السوري، لتلقي السلام على أمير الجزيرة السورية "مجحم بن مهيد"».

هكذا يبدأ الأستاذ "غسان الصطاف"، المكنى بـ"أبي شجاع"، حديثه لموقع eRaqqa الذي التقاه في منزله بتاريخ (9/3/2009)م، وهو الشخصية التي شهدت أحداثاً مفصلية في تاريخ محافظة "الرقة"، وعاصر رجالات كان لهم الدور الكبير في صناعة تاريخ "الرقة"، إن لم نقل تاريخ منطقة الجزيرة السورية بشكل عام، حيث تابع حديثه بالقول: «من الأمور التي لن أنساها تلك النقاشات التي كانت تدور في منزل أهلي الكبير، وكان والدي وأعمامي رحمهم الله، بعد أن ينفض المجلس إلا من الخاصة يسمحون لنا نحن الصغار بالجلوس مع رجال سطرت أسماؤهم كتب التاريخ، ولأنني كنت أجيد فن الإصغاء منذ صغري، فقد حفظت الكثير من الآراء التي كانت تطرح في تلك الجلسات.

مرت على الأمة العربية أحداث جسام في تلك الفترة، منها حرب "السويس"، العدوان الثلاثي، والثورة الجزائرية، وظللنا نمارس نشاطنا الحزبي حتى تمت الوحدة السورية المصرية، وأذكر أن مكان الشعبة الحزبية كان في شارع "الوادي" خلف حلويات "الحموي" حالياً، وقبل ذلك كنا نمارس نشاطنا الحزبي في بيت استأجرناه في المدينة، ونظمنا المظاهرات بكل المناسبات، وأغلقنا مقر الحزب عند قيام الوحدة، وسلمناه إلى السيد "وجيه العبد الله" مدير مالية "الرقة" آنذاك، وشاركنا بفعالية في الاحتفالات بتلك المناسبة

ومن باب المداعبة أذكر أنَّ الشيخ "نوري بن مهيد"، ومن باب التحبب لي، كان يرسل في طلبي كي يجاذبني أطراف الحديث في شؤون عامة كثيرة، وكان معجباً من جرأتي في الردود، ويدرك معنى ما أقول من يعرف أنَّ الشيخ "نوري بن مهيد"، كان شخصية لها وزنها السياسي والاجتماعي في تلك الفترة، حيث كان زميل دراسة لعمي الأستاذ "عبد الفتاح الصطاف"، في المعهد الفرنسي بمدينة "حلب"، واشتغل في السياسة بحكم تركيبته الاجتماعية منذ صغره، فلقد كان والده ينجح كعضو في البرلمان تزكيةً، ولاحقاً أخذ هذا الدور الشيخ "نوري"، ثم اجتمع الرأي عليه من قبل كل شيوخ العشائر أن يكون رئيس كتلة العشائر، وصار بذلك شيخ مشايخ سورية».

الصطاف مع رفيق الدرب العجيلي

وعن معرفته بشخصيات أخرى، شكلَّت فارقاً بمسار المنطقة يتابع "الصطاف" حديثه بالقول: «أما الأمير الشيخ "مجحم بن مهيد" فقد شاء حسن طالعي أن ألتقيه أيضاً، وذلك في بيت العائلة، حيث كان يقطنه عند نزوله "الرقة"، وكانت الناس تتوافد للسلام عليه، وقد حدثني ذات مرة رحمه الله عن نسب قبيلتنا، وكان عالماً في أنساب العرب، وكانت علاقتنا نحن بيت "الصطاف" بآل المهيد تتميز بعمقها ومتانتها.

وكان أبي وأعمامي لا يسمون المولود الذكر إذا ما ولد، بل كان يسميه الأمير "مجحم بن مهيد" بنفسه، وأذكر حادثةً رويت لي لاحقاً حول هذا الموضوع أنَّ الأستاذ "عبد الفتاح الصطاف" رحمه الله، ولدت له زوجه مولوداً ذكراً، وكان الأمير في عمق "البادية"، وقد يطول نزوله إلى المدينة، فبدأ الأهل والأقارب يداعبون زوجة الأستاذ "عبد الفتاح" حول اسم مولودها، وماذا سيسميه الأمير "مجحم"، فمنهم من يقول لها سيسميه "حنظلة"، ومنهم من يقول لها سيسميه "جلمود"، وهي لمنبتها غير الرقي، كانت تحسبهم جادين في هذا الأمر، فخافت أن يحمل مولودها اسماً غريباً، ولكن فاجأها الأمير عندما أسمى مولودها "مثنى"».

الأمير ثامر النوري بن مهيد أخو الصطاف بالرضاعة

يتمهل الأستاذ "غسان الصطاف" قليلاً عندما يبدأ الغوص في تلك الذكريات العتيقة، ثم يتابع حديثه لنا قائلاً: «عند ولادتي أرضعتني الأميرة "شمسة بنت محمد بن مهيد"، زوجة الشيخ "النوري بن مهيد"، وذلك كما قلت لك للعلاقة بين بيت "الصطاف"، وبين "آل المهيد"، ووالدها هو "محمد بن مهيد"، المعروف بين البدو وأهل المنطقة باسم "محمد الشيوخ"، وهو جنرال حرب قبيلة "الفدعان" كما وصفه المستشرق الألماني "أوبنهايم".

وكان أخي بالرضاعة هو الأمير "ثامر بن النوري بن مهيد"، وما أذكره أيضاً هو زيارة الأمير "خليل بن حاكم بن مهيد" لبيتنا، فيناديني الأمير ويطلب والدي مني أمامه أن أردد له ماذا كان أهل المنطقة يقولون عنه شعراً، فأخجل بدايةً، ثم لا ألبث أن أقول له شعر الهجاء ذاك، فيضحك كثيراً ويربت على كتفي وأنصرف لشؤوني، كما لا يفوتني القول بأن الأمير "مجحم بن مهيد" هو من قام بالخطبة لوالدي بعد أن رفض طلبه في البداية».

مشاركة في إحدى الاحتفالات القومية

وعن نسبه الذي يعتز به كثيراً، وكيفية قدومهم إلى "الرقة"، يحدثنا ضيفنا "الصطاف" فيقول: «يرجع نسبي إلى "عمر بن معد يكرب الزبيدي"، والرواية حول قدومنا "الرقة" تقول بأن أجدادنا كانوا ثلاثة أخوة، يقال بأنهم اختصموا مع أقارب لهم، فخرجوا من مكان إقامتهم في "حويجة العبيد"، أما الرواية الثانية فتقول بأنهم خرجوا عقب ثأر مع أحد قاطني المنطقة، فقصدوا منطقة شمال شرق "أورفة"، بناحية يقال لها ناحية "الدكرلي"، أو "الدكرليسية".

ونقلاً عن الأستاذ "محمد عبد الحميد الحمد"، أن معنى كلمة "دكرليسي" في اللغة التركية ذوي الشأن، أو الآغوات، وهم سلالة عربية حاولت أن تقيم دولة في تلك المنطقة تدعى بالدولة "الرمضانية"، وينقل الأستاذ الباحث "محمد عبد الحميد الحمد" هذه المعلومات عن مدير المركز الثقافي في تلك المنطقة، عندما زارها متتبعاً أحد بحوثه عن الرواد الأوائل الذين قطنوا المنطقة، كما أكدَّ لي الشاعر المرحوم "مصطفى العبد الله الطه"، الذي كان يعمل مترجماً للغة التركية على الحدود مع الأتراك، صحة تلك المعلومة اجتمعوا في "حويجة العبيد"، أما أخوالي فهم من "البوبدران، وجئنا "الرقة" وصرنا مع الحلف الكردي، حيث كان سكان "الرقة" حينها يقسمون لحلفين، "العشارية"، و"الأكراد"».

وعن انخراطه في العمل السياسي، والحزبي، يتابع "الصطاف": «في خمسينيات القرن الماضي، كنا منتسبين لصفوف حزب البعث العربي الاشتراكي، ونحن طلاب في مدينة "حلب"، حيث عاصرنا كتلاميذ أقطاباً من المعلمين الأوائل الذين تركوا بصمة في مرحلة مهمة من تاريخ هذا البلد، أذكر منهم الأستاذ الكبير "سليمان العيسى"، الأستاذ "فائز إسماعيل"، الذين تعلمنا على أيديهم حب الوطن، حيث كنا نحن الطلاب البعثيون بؤرة لكل المظاهرات التي حصلت ضد نظام "أديب الشيشكلي" الدكتاتوري.

وأذكر أنني أصبت في إحدى تلك المظاهرات إصابة ما زلت أحمل علامتها الجسدية بعد مضي كل تلك السنين، فتمَّ إسعافي وإرسالي إلى "الرقة" بشكل سري، وبقيت فيها حتى حصول العصيان في حلب" بقيادة "مصطفى حمدون" حيث هاجم الطلاب مقر حزب "حركة التحرير"، وهو حزب السلطة آنذاك، وعمَّت المظاهرات كل مدينة "حلب"، وتباعاً تكاتف كل القطر بمختلف قطاعاته، في تلك الثورة لإسقاط ذلك النظام الديكتاتوري، الذي قرر تسليم السلطة للشعب وغادر القطر باتجاه الأرجنتين، وكان ذلك نصر مبين لقيادة البعثيين آنذاك، "أكرم الحوراني"، "ميشيل عفلق"، "صلاح البيطار"، وطلب مني والدي عدم الرجوع إلى "حلب" ثانية، فعملت معلماً وكيلاً في مدرسة "الرشيد" الابتدائية لمدة أربع سنوات تقريباً، وبدأ في تلك المرحلة نشاط الأحزاب السياسية، حيث كُلفنا بشكل رسمي أنا والأستاذ "إسماعيل الحمود"، و"حسن رمضان"، بتشكيل نواة لشعبة حزبية، وكان نشاطنا ملحوظاً في تلك الفترة».

وعن الأحداث الجسام التي مرَّت على الأمة العربية وقتها، ومشاركتهم في التفاعل معها، يتابع "الصطاف" بالقول: «مرت على الأمة العربية أحداث جسام في تلك الفترة، منها حرب "السويس"، العدوان الثلاثي، والثورة الجزائرية، وظللنا نمارس نشاطنا الحزبي حتى تمت الوحدة السورية المصرية، وأذكر أن مكان الشعبة الحزبية كان في شارع "الوادي" خلف حلويات "الحموي" حالياً، وقبل ذلك كنا نمارس نشاطنا الحزبي في بيت استأجرناه في المدينة، ونظمنا المظاهرات بكل المناسبات، وأغلقنا مقر الحزب عند قيام الوحدة، وسلمناه إلى السيد "وجيه العبد الله" مدير مالية "الرقة" آنذاك، وشاركنا بفعالية في الاحتفالات بتلك المناسبة».

ولتلك الموهبة التي منحه الله إياها من ذاكرة وقادة، كان الأستاذ "الصطاف" عريف حفل أغلب المناسبات التي كانت تمجد الأحداث الكبار التي حلم بها الشارع العربي، ومنها الوحدة بين سوريا ومصر، حيث تابع مختتماً حديثه لنا بالقول: «كنت مهتماً بالشعر في تلك المناسبات القومية، ففي مناسبة الثورة المصرية ألقيتُ في مهرجان أقيم في "الرقة"، قصيدة للشاعر الكبير "سليمان العيسى"، وفيها يقول:

منىً طالما هدهدت مـحجري/ ومـرت عذاباً على ناظري

وما كان نفح الهوى والشباب/ بأمتـع منهن فـي خاطري

منى كنـت أعصرها نـغمة/ مـن الشعـر في وتر ثائـر

وأخفي حنيني علـى جـذوة/ وأصحو عـلى قيدي الآسـر

أتدرين يا مصر أيُّ الرؤى/ ألحت على الشعر والشـاعـر

بيوم كأن شبــاب الربيع/ تنفـس في ثـغره العـاطـر

أطل على النيل مستلهمـاً/ أضيـع مع الـزورق العابـر

أغنـــيك تمتمة حلـوة/ ومـن لـي بقيثارك الساحـر

أحــس الطلائع من أمتي/ زمـاجر فـي الموكب الـهادر

أضم بروحي شموخ النخيل/ أرى مصـر في فجرها الظافر».

ويذكر أنَّ الأستاذ "غسان بن عبد الله بن مصطفى الإبراهيم العيسى اليحيى الرمضان آغا"، قد ولد في "الرقة" عام /1936/م، وهي السنة التي عرفت باسم سنة "الوفد"، وهو الوفد السوري الذي ذهب إلى "باريس" للمفاوضة على استقلال سورية، درس الابتدائية في مدرسة "الرشيد" الابتدائية، ثم تابع دراسته في ثانوية "بني حمدان"، التي قطع دراسته بها بناء على الحاجة الماسة لوجوده بجانب والده، يعتبر من أكثر أصدقاء الدكتور "عبد السلام العجيلي" ملازمة له، قارئ للكتاب من الطراز الرفيع، يتميز بذاكرة وقادة أتاحت له تنمية ثقافته أكثر، بحيث ساعدته على تنضيد تلك الأفكار التي آمن بها، وترجمها على أرض الواقع عملاً.