عُرف عن الأديب "خليل جاسم الحميدي" نزوعه نحو الحداثة في كتاباته الإبداعية، وولعه الشديد بجماليات القصة الفنية واللغوية، وعنايته بالتعبير الاجتماعي، منذ بداياته المبكرة في ستينيات القرن العشرين، وهو مسكون بالحب والألم، يفيض بهذه الثنائية على كل من يقترب من مملكته المفتوحة على الآخرين، وكما هو مسكون بالحب والألم، تسكنه المرارة ورائحة الموت.

"الحميدي" الذي أقعده احتشاء دماغي غادرٍ لمدة عام، قبل رحيله المبكر بتاريخ (21/3/2007)، استطاع استشراف المستقبل وقراءة صفحة الموت قبل هذا التاريخ بأربعة أعوام عندما كرمته مدينته، ومنحته جائزة الإبداع، فتلا هذه الكلمات التي قرأ بها ثنائية الموت والحياة بقوله: «ما الذي يمكن لبدوي مثلي أن يقوله في هذا المقام، وهو المليء بالخيبات، والهزائم، والخيانات، والانكسارات، وروحه فيض من الحزن، والمرارة، ورائحة الموت تسكنه مثل دمه، وتغتال من هم الأقرب إلى روحه وقلبه في عزِّ النهار».

ما الذي يمكن لبدوي مثلي أن يقوله في هذا المقام، وهو المليء بالخيبات، والهزائم، والخيانات، والانكسارات، وروحه فيض من الحزن، والمرارة، ورائحة الموت تسكنه مثل دمه، وتغتال من هم الأقرب إلى روحه وقلبه في عزِّ النهار

وعن شخصية الأديب الراحل "خليل جاسم الحميدي"، تحدث لموقع eRaqqa بتاريخ (14/2/2009) الناقد "أسعد فخري" قائلاً: «حين كان الماء أحرفاً ترد الضمأ، لم يبخل علينا "الحميدي" بماء زلال، لقد عرف عنه احتفائه بالمختلف، والجديد، وتشجيع الكتاب الشباب، كما أنه يختلف عن مجايله بأنه يمتلك روح الشباب، لذا تجده محبوباً ومقبولاً من جميع الكتاب، كما يسجل له قراءته مساحة الموهبة لدى الآخرين، وتأسيسه لحالة صحية بين جميع الأدباء على اختلاف مشاربهم، وبهذه الصفات النبيلة استطاع أن يصل إلى مرتبة رئيس فرع اتحاد الكتاب العرب في "الرقة"، ثم عضواً في المكتب التنفيذي للاتحاد في "دمشق"، ورئيساً لتحرير مجلة "الموقف الأدبي"، ونائباً لرئيس اتحاد الكتاب العرب.

خليل جاسم الحميدي إشكالية النص ونزوع الحداثة

لقد شكل رحيله المبكر خسارة كبيرة للأدب، وترك فراغاً لن يستطيع أحد من أقرانه أو ممن أتى بعده، أن يسده، ويعوض المشهد الثقافي في "الرقة" وفي سورية هذه الخسارة الكبيرة».

ويضيف "فخري"، قائلاً: «في أربعينية رحيله، ألقيت كلمة بعنوان "مرثية للثريا" أحب أسجلها للذكرى في موقع eRaqqa جاء فيها.. هوذا مهرجان نهبِ رُقمك الأخير وأنت.. تفر مكتملاً كدوري متشاقٍ، يسترق الورد من هوى الحبر زقزقة أقلام الشكوى للصباح المتلاشي على أغصان شجرة الليل.

غلاف موت الرجل الغريب

هي ذي هدأة الليل الذي لّفه الغياب بين ألواح الرخام، كأقفال بكائنك الذي اخترع موته وفق قوانين الهباء يا صديقي.. كدهشة الماء أنت.. كخطوات النهر بأقدامه الرخوة يحصيها عليه الروج رحلت.. على هسيس الحزن في ناره الأولى قدِّر للحكاية أن تكون، فكنت، ثم رحلت..».

في عام /2005/ أصدر اتحاد الكتاب العرب، ضمن سلسلة أدباء مكرمون، كتاباً عن المرحوم "الحميدي"، بعنوان: الأديب "خليل جاسم الحميدي" (إشكالية النص ونزوع الحداثة)، وسنحاول من خلاله تقديم إطلالة بقلمه عبر مدارات سيرته الشخصية التي رصعت الكتاب.

غلاف قمر أخضر

يتحدث "الحميدي" عن مدينة "الرقة" قائلاً: «"الرقة" عندي هي أم الدنيا، وحبي الأول، فهذه الأميرة العباسية، أينما رحلت، وحيثما حللت تكون معي، ومع أني زرت مدناً كثيرة في الشرق والغرب، ورأيت في أسفاري الغريب والعجيب، المثير والمدهش، إلاّ أنني ظللت مملوءاً بعوالمها التي اختزنتها طفلاً ويافعاً، واغتنيت بها شاباً ومبدعاً، وقد ظلّت تلك العوالم، بجدتها التي لا تهرم ولا تشيخ، وبروعتها وسحرها، وغرائبها التي تشبه الخرافات والأساطير، تتقدم على كل جديد، وتبزّ كل غريب، وتجبُّ كل سحر، فقربها متجدد، وجديدها متنوع، وسحرها أبدي».

ويتابع "الحميدي" حديثه عن "الرقة"، وكيف استقى منها نسغ الحكاية: «"الرقة" مفطورة على الحكاية، ومنها انتقل النسغ إليَّ، فأينما تحركت ثمة حكاية بانتظاري، فللنهر حكايته، وللجبل حكايته، وللسور حكايته، ولمقابر شهداء صفين حكاياتها، ولقصر البنات، وباب بغداد، والجامع القديم، تاريخ وقصة وحكاية، وهي حكايات يغلب عليها الخيال والتوليف والخوارق والمعجزات، فتترك أثرها الساحر في نفوسنا، وترافقنا إلى فراشنا بكل أحداثها وشخصياتها، ووقائعها الغريبة، المثيرة والأسطورية».

ويضيف: «بالرغم من أنني بدأت شاعراً، ونشرت قصائد مبكرة في الثورة، والأسبوع العربي، والأحد اللبنانية، إلاَّ أن القصة كانت الأقرب إلى روحي، وظللت أميناً لنزوعي الشعري، ما خنته، أو تبرأت منه، لكنني وظفت مساحته التي تسكنني في خدمة القصة، ليعطيها خصوصيتها الشعرية، ونكهتها الواقعية السحرية في آفاقها المحلية والإنسانية.

أحببت الحكاية، وقد عجنتها الرقة بدمي حاضراً ومستقبلاً، ولا أجد نفسي إلاّ فيها، ففيها كل ما أفتقده، وكل ما أتوق إليه أو أشتهيه، عالم واسع فسيح الأرجاء، رغبات وأمنيات ممنوعة، أحداث تركض كالخيل الأصيلة، وحياة تتجدد كالأزهار، وأمجاد تنهض، دون دماء، ودون عناء..!».

وعن تأثره بمن سبقه من الأدباء، يقول: «لم أبهر إلاَّ أمام كتاب ثلاثة، هم "تشيخوف"، و"يوسف إدريس"، و"زكريا تامر"، وقد ظهر هذا التأثر واضحاً منذ البدايات، فمنهم تعلّمت فن الكتابة القصصية وتجلياتها، وكلّما شعرت بالعجز عدت إليهم، لأغتني بهم من جديد.

فمن "تشيخوف" أخذت الرجل الصغير، المهمش، والزائد عن اللزوم، بطلاً لقصصي، ومن "يوسف إدريس" أخذت متانة السرد وتجلياته المتنوعة، ومن "زكريا تامر" أخذت اللغة، وغرائبية الحدث، والخروج على حوامل القصة التقليدية».

وعن جماعة "ثورة الحرف"، التي أسس لها مع ثلَّة من أدباء "الرقة"، والدعوة للكتابة خارج المألوف السائد، يقول: «لقد سعيت مع زملائي "جماعة ثورة الحرف" التي شكلناها في "الرقة" في ستينيات القرن العشرين، ومن أعضائها "رشيد رمضان"، "إبراهيم الخليل"، "وفيق خنسة"، "محمد سطام"، "خليل جاسم الحميدي"، "عبد الله أبو هيف"، "إبراهيم الجرادي"، "عبد الفتاح الفندي"، أن نكتب القصة الجديدة والمختلفة عمَّا كتبه الآخرون قبلنا، القصة غير العادية، التي تجاوز المألوف والعادي في شكلها ومضمونها، ولغتها وحواملها الفنية والتقنية، وأن نبدأ من حيث توقف الآخرون».

وعن طابع الحزن الذي يغلف أدبه، يقول: «سمة الحزن التي تفيض بها قصصي الأخيرة، وهاجس الموت الذي يطارد أبطالها، فلأن الموت رافقني مبكراً وتحديداً من عام /1973/، وراح يحصد أقرب الناس إلى قلبي وروحي، وكان موتهم تراجيدياً، ما كانوا يموتون كما يموت الناس، وإنما كان يختطفهم الموت إما حرقاً أو غرقاً أو قتلاً، بدون مقدمات يموتون، وهم يلعبون، ويضحكون، أو يعملون، مما صبغ حياتي بالحزن والمرارة والسواد، وتعمق الجرح في القلب والروح بموت زوجتي التي تحولت حياتي بعدها إلى ليل دامس مليء بالمرارة، والعذاب، وصار موتها الشرفة التي أرى منها العالم.

ولم أجد شيئاً يعزيني، أو يخفف عني وقع المصيبة وفجائعيتها إلاَّ الكتابة.. ففي الكتابة أستحضر وجوه الراحلين، وأنفخ فيهم من روحي، فأعيدهم إلى الحياة، يضحكون، ويلعبون، وينطقون، وأعيد سيرتي الأولى معهم، أكثر مما عشت.. فهل أطلب من القصة أكثر من إعادة الحياة لمن لا أستطيع العيش دونهم».

بقي أن نشير أن الأديب "خليل جاسم الحميدي" ولد في مدينة "الرقة" عام /1945/، وغادر دنيانا في سنة /2007/ بعد أن ترك بصمة في مجال الإبداع لن تمحى أبداً، فقد نشر أول قصة له عام /1962/، وأصدر أول كتاب بعنوان "السخط وشتاء الخوف" عام /1975/، وتلاه "الركض في الأزمنة المنهوبة" عام /1977/، و"موت الرجل الغريب" عام /1987/، و"المغني والنخلة" عام /1998/، و"قمر أخضر على شرفة سوداء" عام /2003/، ويكتب إضافة لذلك النقد والدراسة الأدبية، لكنه مخلص لفن القصة، ولا يجد نفسه إلاّ في هذا الفن، كرمه اتحاد الكتاب العرب عام /2001/، ومنحته محافظة "الرقة" جائزة الإبداع عام /2003/ تقديراً لمسيرته الإبداعية، وأصدر اتحاد الكتاب العرب كتاباً عنه في سلسلة أدباء مكرمون، بعنوان: الأديب "خليل جاسم الحميدي" (إشكالية النص ونزوع الحداثة).