«إن السكون الكثيف الأبيض الذي كان يغمر "الرقة" في خمسينيات القرن الماضي لم تقطعه إلاَّ ومضات لأفراد قلائل كان لهم تأثيرهم في تبديد ذلك السكون واختراقه ثقافياً ومعرفياً واجتماعياً.. إنهم ساهموا في رسم معالم الطريق لمن جاء بعدهم من مثقفي المدينة، وتخطيط النهج الأدبي لهم.

"عصام حقي" أحد الأدباء الذين كان لديهم الاستعداد نفسياً وفكرياً، وكان مشروعاً للمضي في إضاءات تلك النخب الثقافية».

بهذه الكلمات يلخص الأستاذ "عبد الغفور شعيب" المدير الأسبق لمديرية الثقافة في "الرقة" تجربة الأديب والمربي "عصام حقي"، ويقول عنه الأديب "إبراهيم العلوش": «هو أحد الذين زرعوا بي الأمل، وهو من أعادني إلى الأدب من حروف قصتي "المساء الأخير" التي كان الفضل له بجعلها تنمو لتكون مجموعة قصصية ذائعة الصيت، عنوانها "هذا عذب فرات"».

عصام حقي في مكتبه

موقع eRaqqa وبتاريخ (28/1/2009) التقى "عصام حقي" محاولاً نبش الذاكرة في هذه الإضاءة، فتحدث بداية عن طفولته قائلاً: «على ضفاف الفرات أبصرت عيناي النور في مدينة "الرقة" العام /1946/، وبين جنبات مكتبة والدي، وهي أول مكتبة عامة في المدينة، تنفست رئتاي الكلمة الأدبية، ممزوجة بنسائم ليالي صيف "الرقة" الرقيقة.

نعم.. في مكتبة أبي ترعرت وقرأت، كما قرأ معظم أدباء المدينة منذ بداية الخمسينيات من القرن الماضي، وعشقت الأدب، وتذوقت الشعر، وعرفت معناه وكنهه.

عصام حقي أيام الشباب

بدأت التعلم تلميذاً في مدرسة "الرشيد" على يد نخبة من الآباء المعلمين، مازلت استرجع ذكراهم بكل اعتزاز وحب واعتراف بالفضل، وفي مقدمتهم الشاعر الكبير "مصطفى الحسون"، شاعر "الرقة" و"بحتري" القرن العشرين، وبرعاية من معلم "الرقة" الأول "عبد الفتاح الصطاف".

كانوا جميعاً يرتادون أول مركز ثقافي في "الرقة" وأعني به مكتبتنا، وكنت هناك أترَّقب زيارتهم بلهفة، وأصغي إلى حواراتهم بشغف، وأستضيء بنور ثقافتهم وسعة علمهم، فتلّمست معاني الحروف، وآفاق الكلم، وأخص بالذكر كل حوار كان يشارك فيه ويظلّه بظلّه أديبنا الكبير الدكتور "عبد السلام العجيلي».

عصام حقي مع زوجته في الأندلس

ويتابع "حقي" في ذات السياق: «تدرجت بعدئذ في مقاعد الدرس، حتى غادرت "الرقة"، حاملاً الشهادة الثانوية في عام /1965/ موفداً باسم وزارة التربية إلى جامعة "دمشق" لدراسة اللغة العربية وآدابها، حيث هناك نخبة من علماء سورية وأساتذتها، وسأظل أفتخر ما حييت بالعلامة "سعيد الأفغاني"، و"أحمد راتب النفاخ"، و"عبد الكريم الأشتر"، وغيرهم من أعلام هذه الكلية ورموزها الشامخة، وفي عام /1970/ حصلت على شهادة الإجازة، وعدت إلى "الرقة" مدرساً مادة اللغة العربية في مدارسها الثانوية».

وعن محاولاته الأدبية، واهتماماته الشعرية، يقول "حقي": «كانت أولى محاولاتي الشعرية طفلاً في العاشرة من عمري، وهي محاولة أقرب إلى السجع، لكن اهتمامي بالشعر ازداد أثناء الدراسة الجامعية، وشاركت أول مرّة شاعراً في المهرجان الجامعي الشعري الأول للشعراء الشباب بقصيدة لفتت إليها الأنظار، وإليّ انتباه المهتمين».

ويتابع "حقي" قائلاً: «كان أول ما نشرته، قصيدة حاولت فيها الرّد على الشاعر الكبير "نزار قباني"، بعنوان "ردّاً على نزار"، وكانت ردَّ فعل عاطفياً صادراً عن شاب جرحته النكسة، وأثخنته بجراحها، وقد نشرتها جريدة "إلى الأمام" اللبنانية في أعقاب نكسة حزيران /1967/، وحين عودتي إلى "الرقة" عدت إلى أحضان الشعر في كل منابر المدينة الثقافية، وكان لي شرف الإسهام مع الرعيل الأول بإدخال الشعر الحديث إلى مدينتنا».

وسألناه هل غادرت الشعر؟ فتحدث قائلاً: «لم يغادر صوت الشعر حنجرتي يوماً ولا أذني.. أكتب الشعر قليلاً، وأسمعه، وأقرأ دواوينه كثيراً، وأحتفظ بشعري لنفسي.. في أوراق مبعثرة، المخطوط عندي كثير، والمفقود منه أكثر، ويشدني عملي التعليميّ، ويستهلك جلّ وقتي، ويدرّ علي ما كان يعينني على مواجهة أعباء الحياة ومصاريف الأولاد».

وقلنا له لماذا لا تنشر؟ فأجاب: «لا أحب النشر في زمن كثر فيه الكتبة، وقلّت الكتابة، وتشوش المظهر الأدبي، واختلط فيه الغث بالسمين، وفضلّت أن تبقى كلمتي حبيسة الخزانة، وذلك خير من استجداء قارئ لها مرغماً، أو بسيف الحياء، لا أحب النشر وأنا أعلّم طلابي مقولة "محمد حسين هيكل" التي تقول: (حرية القلم هي المظهر الأسمى لحرية الإنسان في أسمى صورها ومظاهرها).. هذه المقولة التي تحتاج كي تبصر النور إلى المدينة الفاضلة».

وسألناه هل ثمّة تعارض بين التخصص اللغوي وبين الموهبة الشعرية؟ فرّد قائلاً: «ليس ثمّة تعارض، والعكس هو الصحيح، فالتخصص يصقل الموهبة ويهذبها وينقّيها من شوائبها، وإن كان هناك تعارض ما، فإنما هو بين الموهبة والمجتمع الاستهلاكي الذي يرغم المرء على الهبوط إلى الواقع من أحلام الخيال المحلق على أجنحة القصيدة».

وسألناه هل نستطيع القول إن فن الرواية أزاح الشعر الذي كان بالأمس ديوان العرب؟ فأجاب: «لكل فن أدبي مكانته واحترامه، ولعلّ من العسف أن ندّعي أن فناً ما يزيح في مسيرته فناً أدبياً آخر، ليحل محله، في ما يشبه انقلاباً أو ثورة..

إن الفنون الأدبية تتساير، ويكمل بعضها بعضاً عبر العصور، قد يخفّ بريق القصة حيناً، وألق الشعر حيناً، ولكن سرعان ما يسترد المعدن الأصيل لمعه وتوهجه بمجرد أن يزول عنه غبار الركود ورماد الزمن.. والتاريخ الأدبي أنبأنا بأن الملحمة الشعرية الإغريقية، كانت قصة شعرية خالدة، وتاريخاً قائماً بذاته، لا يستطيع أحد أن يتنكر له كيلا تصطك عظام "هوميروس" قهراً في لحده.

أجل إن الفن العظيم يستطيع مواكبة الحياة بكل ظروفها وتعقيداتها وتناقضاتها.. وليس مهماً نوع ذلك الفن، طالما أنه عظيم...».

في عام /1977/ غادر "عصام حقي" سورية إلى المغرب معاراً، وقلنا له ما الذي اكتسبته من هذه التجربة؟ فقال: «أقمت في المملكة المغربية خمس سنوات بوصفي مدرساً معاراً، زرت خلالها أسبانيا عدّة مرات، أهمها ما أمضيته في الأندلس من أيام جميلة.

أغنتني التجربة المغربية باتجاهين، اتجاه الطبيعة الساحرة التي تتمتع بها المغرب والأندلس، واتجاه الشعب المغربي الطيب الذي لا يختلف سحراً عن طبيعته، فكانت المغرب غنيّة في المكان والإنسان.

المغرب بلد "اللزوميات"، فيه ما يلزم وما لا يلزم، وأسمح لنفسي أن أستعير من الشاعر "المعري" ذلك. في المغرب ثلج وصحراء.. جبال وسهول، بشرة سوداء قاتمة وأخرى بيضاء ناصعة.. فيه المحيط الأطلسي المخيف والرائع، والبحر المتوسط الوديع الهادئ.. فيه الغابات الكثيفة والممتدة، وفيه الرمال الجافة القاحلة.

إن سحر المكان ودفء الإنسان يلهم الشعراء والأدباء ويفجر قرائحهم الأدبية، فتكون هناك الكلمة، ويكون الحرف، ويكون أدب الأدباء، وشعر الشعراء، ويكون اللحن الأندلسي نغمة تتوغل في العروق فتنصهر مع دماء الإنسان ولا زال في دمي شيء غالٍ من ذكريات المغرب..!».

وأخيراً اخترنا أبياتاً من الشعر من قصيدة له بعنوان: "الملكة".. على أبواب الأربعين، يقول:

إني كبـرت وأنتِ اليـوم لم تزل ترب البراعم في بستانك الخضلِ

الأربعون وقـد جاذبتهـا نثـرت في واحة الحب أزهاراً من الأملِ

الأربعـون خلاصـات لملحمـة أنشـدت أحرفها بالواجف الثملِ

أنشدت أحرفها.. حرف يضج صبا في عنفوان، وحرف ذاب بالمقلِ

لي في عيونك أسـفار وما كُتبت إلاَّ بحرِّ لظى في القلب مشـتعلِ