عندما نتحدث عن المبدع فلا يمكن أن نوجز الكلام، ولا نستطيع أن نلخص الحقائق، ونحن ننهل من معين لا ينضب عطاؤه، ونبع لا يجف ماؤه، ويخطئ الظن من يختزل الإبداع في فن الكتابة الأدبية الخالصة... من قصة وشعر ومسرح وسواها من الفنون والأجناس الأدبية، بل الإبداع في الإتيان بكل ما هو جديد، وكل تغيير يبعث الحياة في ركود المجتمع، وكل ما يسهم في إنماء طرق تفكيرنا وتشعبها واسترسالها، أي بمعنى خلق حالة من التحفيز الذهني تنشد التغيير والتبديل.... ولا مكان متقدم بين الأمم لأمة لا تحتفي بمبدعيها، ولا تجزل العطاء لمن أعطاها، حتى تتأصل حالات الإبداع وتتلون بألوان مجتمعاتها.... وإن ابتعدنا عن التلخيص في مقدمة هذا المقال، فلا يمكن الإمعان في الاسترسال فيها دون إثبات أن المقصود بهذا الكلام هو الدكتور "عبد الجليل العلي"، وما يشكله في الذاكرة الجمعية لأبناء "الرقة"..

وعن ولادته ونشأته وولعه بالعلم تحدث الدكتور "العلي" لموقع eRaqqa بتاريخ (11/1/2009) قائلاً: «ولدت من رحم المعاناة مصنع الرجال، وكان ذلك في عام /1949/ يوم كانت "الرقة" قرية كبيرة لم تعرف المجتمع المديني، بشوارعها المتربة، وأسواقها الشعبية، وسورها العتيق، أحببت العلم منذ نعومة أظفاري، فأنا والعلم صنوان لا ينفصلان، ولقد أكسبني العلم المكانة الاجتماعية لاحقاً... وحب الأهل والحارة الشعبية ولا يزال... ولا يمكن للجد إلا أن يؤتي ثماره، ولا تملك الحقول إلا أن تؤتي أُكلها، فبعد أن تدرجت متفوقاً في مراحل التعليم الابتدائية والإعدادية، استطعت أن أحصل على المرتبة الأولى في شهادة التعليم الثانوي على مستوى المحافظة في عام /1966/».

لم تنتهِ مسيرتي الثقافية عند هذا الحد، ولم أتوانَ عن البحث ومواصلة التحصيل العلمي، فتم تكليفي في العام /1982/ ملحقاً ثقافياً في السفارة السورية في "موسكو"، وتابعت من هناك دراساتي العليا وحصلت على شهادة الدكتوراه في عام /1988/ من معهد الاستشراق في "موسكو"

ويضيف: «كانت الرحلة في "حلب" بعد ذلك شاقة وممتعة في آن، فلن أنسى ما حييت الطريق المتعرج بين سنابل القمح الذي يربط بيتي بكلية الآداب، لتحتضنك في نهايته سفينة الآداب، بقاعاتها الكثيرة الواسعة، ونحن نصغي السمع لأساتذة اللغة العربية، وهم يجوبون بنا بحار اللغة ورحابها الفسيحة... أحببت اللغة العربية، أحببت ألفها وياءها، أحببت نحوها وصرفها وبلاغتها، ولم أدخر جهداً في التحصيل العلمي، فهي جزءُ من الرسالة التي نذرت نفسي من أجلها، والسبعة فرنكات التي كان والدي يعطيني إياها مطلع كل شهر كمصروف جامعي... كنت أدخر منها جزءاً لشراء الكتب والمراجع، ولدي الآن مكتبة عريضة تضم عناوين كثيرة من المصادر والمراجع وأمات الكتب في اللغة وسواها..».

الدكتور عبد الجليل العلي يتحدث للموقع

ولم ينتظر الدكتور "عبد الجليل" حتى التخرج لينطلق في ميدان العمل والكفاح، بل خطا أولى خطواته العملية، وبدأ مكلفاً في مدارس "الرقة" عام /1968/، ويقول: «لي ذكريات لا تنسى عن تلك الأيام الخوالي. وعقب تخرجي من جامعة "حلب"، وحصولي على إجازة اللغة العربية، عُينت مدرساً في إحدى مدارس "الرقة"، ثم توليت إدارة عدداً من المدارس، ورئيساً لفرع الاتحاد الرياضي في "الرقة" في بدايات إحداثه عام /1973/. وهذه الفترة كانت بدايات التكوين، والدخول في معترك الحياة، وهي أيام جميلة وإن كانت صعبة. عُينت حينها مديراً لثانوية "الرشيد" في وقت يقارب فيه عدد طلابها زهاء /1400/ طالب وطالبة، ولم أكن قد تجاوزت عتبة الـ /23/ عاماً. وفي عام /1975/ نُدبت من خدمة العلم مديراً لتربية "الرقة" حتى نهاية عام /1977/ وبعدها أوفدت إلى "موسكو" لتدريس مادة اللغة العربية في مدرسة الجالية العربية».

ويتحدث الدكتور "عبد الجليل" عن هذه الفترة من حياته بشيءٍ من الفخر والاعتزاز، ويقول: «كانت فترة استلامي لمديرية التربية بالرقة قصيرة وغنية، وهي إحدى المفاصل الهامة في حياتي المهنية والتربوية، لقد تزامنت مع إحداث سد "الفرات" العظيم. وما رافقه من غمر قرى السد ببحيرة "الأسد". فنظرياً انتقل أهالي هذه القرى إلى محافظة "الحسكة"، وعملياً هم أنشؤوا قرى جديدة على ضفاف البحيرة، وهذه القرى كانت بحاجة إلى مدارس جديدة. وتلك كانت المهمة الحلوة التي نذرت نفسي لها، وسعيت مع الوزارة لإحداث العديد من المدارس في هذه القرى وفي مدينتي "الثورة" و"الرقة"».

مبنى كلية الآداب بالرقة

ويتابع "العلي" حديثه عن الغربة، قائلاً: «لم تنتهِ مسيرتي الثقافية عند هذا الحد، ولم أتوانَ عن البحث ومواصلة التحصيل العلمي، فتم تكليفي في العام /1982/ ملحقاً ثقافياً في السفارة السورية في "موسكو"، وتابعت من هناك دراساتي العليا وحصلت على شهادة الدكتوراه في عام /1988/ من معهد الاستشراق في "موسكو"».

ولم تنسَ "الرقة" فضل الدكتور "عبد الجليل العلي" عليها، ولم ينكر أبناؤها أياديه البيضاء وبصماته الواضحة في ميدان التربية والتعليم، فانتخب عام /1987/ عضواً في المكتب التنفيذي لمجلس محافظة "الرقة" واستمر مسؤولاً عن قطاع التربية والثقافة حتى العام /1993/، حيث عاد موجهاً اختصاصياً لمادة اللغة العربية التي زاولها في عام /1986/ قبل انتخابه في عضوية المكتب التنفيذي، إلى أن تم تعيينه في عضوية الهيئة التدريسية لجامعة "حلب" في عام /2004/.

محمد عبد الحميد الحمد

ويقول عن تعيينه في الهيئة التدريسية للجامعة: «كان حلماً راودني منذ خمسة عشر عاماً وتحقق منذ حين، لقد تقدمت بطلبي لتعييني في عضوية الهيئة التدريسية لجامعة "حلب" منذ عام /1989/، وتم رفض الطلب حينها، ولم يمت الحلم بل تحقق في عام /2004/. وبعد صدور مرسوم إحداث جامعة "الفرات" وإحداث كليات في محافظة "الرقة"، كُلفت عميداً لكليتي التربية والآداب في العام الدراسي /2005 ـ 2006/، إضافة إلى إشرافي على شؤون الكليات الأخرى تطوعاً، وبدأت إسهامات الانطلاقة الأولى لهذه الكليات المحدثة تؤتي أكلها، وسعيت بدأب لإحداث كليات أخرى تناسب سوق العمل وتتواءم مع حاجة محافظة "الرقة"، حيث توجت مؤخراً بإحداث كليتي الكيمياء والعلوم الطبيعية، كما كنت من أوائل الذين شاركوا في الدراسات التمهيدية لإحداث جامعة "الاتحاد" الخاصة ومركزها الرئيسي في مدينة "الرقة"، وما أزال أدرس فيها مادة اللغة العربية، كما جرى تعييني مؤخراً عضواً في لجنة تمكين اللغة العربية في "الرقة"».

ويختتم الباحث الرقي "محمد عبد الحميد الحمد" الحديث عن الدكتور "العلي" ملخصاً تجربته بقوله: «إن الحديث عن الدكتور "عبد الجليل العلي" هو حديث عن تجربة حياة، ومسيرة إبداع وعطاء، ومؤدى رسالة. له في التربية والتعليم باعٌ طويل، وجميل لا ينكر، وفضل لا ينسى، مثقفون كُثر من أبناء "الرقة" وأطبائها وأساتذتها ومهندسيها، تتلمذوا على يديه، وهم يفخرون بذلك، ويتحدثون بحنين إلى ذاك الماضي الدافئ، وهو يفخر بأن نجاح أولئك التلاميذ أيقونة يزين بها صدره، وهو ما يزال يتابع تلك المسيرة التربوية، وكأنه يأبى إلا أن يلقن أبناء "الرقة" أسس التربية والتعليم في المدارس الابتدائية، ويرعاهم ويتابع همومهم وهم يتابعون دراساتهم الجامعية، تماماً كرسالة الحياة الخالدة، لن تتوقف ولن تنتهي».