«ما زلت أذكر أطيافهم التي تزورني كل ليلة، وما زالوا يعيشون بين حنايا القلب، كالنبض يبعث فيه الحياة، أساتذتي الأفاضل: الأستاذ "حسين الفواز"، "عبد الفتاح الصطاف"، "محمد نور العجيلي"، "محمد صالح العجيلي"، وكم كانت تلك الأيام جميلةً، حيث كان لكل شيء طعم كطعم الفرح، بنفسي تلك السنين وأهلها، وعزائي بما أحاط به من دفء أبناء مدينتي».

بهذا الإحساس بحلاوة الزمن الذي كان يحياه، وثلةً من رفاقه، أيام كانت "الرقة"، بضع بيوتات، وبضع مثقفين، يبدأ الأستاذ "عادل عبيد آغا الكعكه جي" حديثه لموقع eRaqqa الذي التقاه في منزله بتاريخ (28/12/2008)، وهو ابن السيد "عبيد آغا الكعكه جي"، الذي كان رئيساً لبلدية "الرقة" في عام /1919/م، ونائباً في البرلمان، حيث يعرِّج الأستاذ "عادل" بنا بالحديث عن والده، فيقول: «كان عمري أثناء وفاة والدي /8/ سنوات، فلم أدرك منه إلا طيفاً جميلاً يزورني في ليالٍ حالكات، ولكن الرجل كما قيل لي كان محبوباً، كريماً، دمث الأخلاق، وحليماً، وأذكر بعض الحوادث التي رويت لي عنه، منها أنه كان هنالك رسم في البلدية يدعى "كرُّوزة"، وهو رسم على كل مواطن تأخذه البلدية عن الطريق الذي تسير به الناس، فإما يدفع مبلغاً من المال، أو يعمل مقابل ذلك مجاناً عملاً تحدده البلدية، والقصة تقول: بأن أحد المواطنين الذين طلب منهم هذا الرسم من قبل الموظف المختص، قام بسبِّ وشتم والدي لكونه رئيساً للبلدية، ولم يكتفِ بذلك، إذ أنه قدم بعد انتهاء الدوام، إلى مضافتنا، ووقف على الباب وأعاد شتم والدي، فاستفز ذلك شباب الحي من أبناء عمومتنا، فأرادوا النيل منه، إلا أن والدي منعهم من ذلك، وأجلسه بجانبه، ولف له سيجارةً من التتن، وسأله بهدوء عن سبب الشتيمة، فأخبره الرجل بأن ليس معه نقود ليدفعها عن رسم "الكروزة"، وغير قادر على العمل، وأن البلدية تطالبه بوفاء الرسم، فما كان من والدي رحمه الله إلا أن أخرج ليرةً ذهبية من جيبه، وأعطاها له قائلاً: ادفع منها الرسم البلدي، والباقي لك ولعائلتك، ومن هذه القصص كثير، وكان والدي حينها رئيساً للبلدية ونائباً في البرلمان».

أخذ دور "يوسف العظمة"، "عبد الرحمن البصير"، ودور "غورو"، "ضياء السيد أحمد"، بينما أخذت أنا دور الجنرال "غوابييه"، قائد الحملة الفرنسية على "دمشق"، واستمر هذا البيت ملتقى لنشاطاتنا لمدة عامين، ثم انتسبنا لنادي "الرشيد"، واشتركنا بالفرق الرياضية، حيث كنت مهتماً بالرياضة، ففي "حلب" كنت رئيساً لنادي "كرة المضرب"، وبعد حصولي على الكفاءة في عام /1951/م، استأجرنا مكاناً لناد آخر، نقضي فيه عطلنا الصيفية

ولكون الرجل أول محام من أبناء "الرقة"، سجل في نقابتها، ومارس فيها المحاماة، فإنه تحدث لنا عن دور هذه المهنة في حياته، مقارنةً بدورها في حياة محامي هذا الجيل، فقال: «كان هناك للقانون روح نفهمها بطريقة أخرى، وكنا قليلي العدد، وكانت العلاقات مختلفة بين الزملاء المحامين والقضاة، إذ كان الوضع الاجتماعي للمحامي، أو رجل القانون، مميزاً أكثر من هذا الزمان، وكنا نقوم بنشاطات رديفة لمهنتنا، نعبر من خلالها عن توقنا لتميز مدينتنا، وبعث روح جديدة فيها، وعلى سبيل المثال لا الحصر، أذكر أنه في عام /1965/م، قمنا بتأسيس نادٍ أسميناه نادي "حملة الشهادات العليا"، أنا والدكتور "أنتيبا"، في منزل السيد "أحمد الخليف"، بجانب منزل السيد "عبد العظيم العجيلي" حالياً، وجمعنا كل حملة الشهادات العليا من أطباء، ومحامين، وصيادلة، وقضاة، وبعض الموظفين الكبار، وشكلنا للنادي مجلساً للإدارة يتكون من رئيس، وأمين للسر، وخازن، وكان الدكتور "أنتيبا" أكبر الأطباء سناً حينها في المدينة، أول رئيس لهذا النادي بالانتخاب سنة /1965/م، وكان اقتراعاً سرياً، برغم قلة عددنا كحملة شهادات عليا في ذاك الزمان، إذ لم يكن يتجاوز عددنا 25 عضواً، وتم الاتفاق على تجديد رئاسة هذا النادي كل عام، حيث شغلت منصب الرئيس فيه في السنة الثانية، وفي السنة الثالثة كان رئيسه السيد "حكمت العاصي" المحامي، حيث حُلَّ وسلم للشؤون الاجتماعية بعد حله».

الأستاذ عادل كعكه جي

وعن العلاقات الاجتماعية أيام زمان، تلك التي عاصرها "الكعكه جي"، يقول: «كان التفاهم والمحبة سيد العلاقات بين الناس، وكان أهل "الرقة" أسرةً واحدة، وكمثال على ذلك الانسجام أذكر لك مثالاً عن أيام الأعياد، فبعد رجوع الناس من صلاة العيد، وزيارة المقابر، يأتون للمضافات، حيث كان لكل عشيرة مضافة تستقبل فيها الناس، إذ يجتمع أهل العشيرة بالمضافة، ويقسمون إلى قسمين، قسم يذهب لمعايدة الأحياء الثانية، والقسم الآخر يستقبل الوافدين من أحياء أخرى، وأذكر حينها تلك اللحظات جيداً، فلقد كان عمي "حسن آغا" رئيساً للبلدية بعد وفاة والدي، وكنت برفقته مع بقية أفراد عائلتنا، نقوم بتلك الواجبات الاجتماعية، فكنت ترى الشوارع مكتظة بالناس، إذ كانت المحبة والألفة منتشرةً كثيراً بينهم، وبوصول الكثير من الوافدين إلى "الرقة"، قلَّت هذه الظاهرة كثيراً نتيجة لتغير التركيبة الاجتماعية للبلد».

ولدى سؤاله عن اعتقاده إن كانت "الرقة" قد فقدت هويتها الاجتماعية بتوافد أبناء المدن الأخرى إليها، قال: «تقريباً تغيرت أشياء كثيرة في "الرقة"، ولا أستطيع القول بأنها فقدت هويتها، فتلك الهوية مغرقة في القدم، كفراتها العذب السلسبيل، ولكن أقول بأن العادات الاجتماعية تغيرت كثيراً، من تعبير عن الفرح، والحزن، وعادات الطعام، فبدون أن تدري لا بد لك من التأثر بالآخر، بعاداته وتقاليده، لكن مع الحفاظ على روح عاداتك وتقاليدك، فأنواع الطعام التي كانت سائدة أيام زمان، تغيرت الآن، والأعراس، تغيرت كثيراً، فنادراً ما ترى "الزفَّة"، التي كانت طقساً لا بد منه في أي عرس رقي».

في مكتبته ومراجعة للذكريات

يسوقنا الأستاذ "عادل كعكه جي"، بذاكرته الوقادة، لما يختزنه من رائحة الزمان القديم، لسؤاله عن مظاهر "الزفة"، أيام زمان، فيقول: «كانت الدبكة تعقد بعد صلاة العصر، في بيت العريس، الذي يكون قد ذهب لبيت أحد أصدقائه، حتى يستحم، ويتزين، ثم يتناول الطعام، وعند مغادرته بيت صديقه نحو بيته، تسير به "الزفة"، يتقدمها الشباب الذين يغنون أغاني "الهوسة" الرقية المعروفة، ويسير الرجال الكبار خلفهم، والنساء وراءهم يصفقن، ويزغردن، ويغنين، وعند وصول "الزفة" لبيت العريس حيث عروسه تنتظره، يتم إدخاله لعروسه، والشباب من المقربين منه، تغني له /جوزناه وخلصنا منُّو يلعن أبو الغاير منُو/، لقد كانت حفلة العرس ملتقى لكل أهل البلد، فالكل كان يشارك بالدبكة، التي تستمر لما بعد صلاة العشاء، حيث يجيء الشاعر الشعبي، ويستثير فتوة الشباب، فتجري الماء الساخنة في عروقهم، وتشتعل الساحة بصهيل الدبكة الفراتية، التي كان أفرادها خليطاً من الشباب والبنات، وبعد ذلك يأتي دور "الربابة"، و"الدفّ"، حيث يتناوب أصحاب الأصوات الجميلة من الشباب والبنات في الغناء، وكان الطابع الشعبي يسود تلك الجلسات، وتسود النوايا الحسنة بين الجميع، فالكل أحباب، إذ كنت ترى شقيقتك تدبك على يد شخص لا تعرفه، وتأخذ الأمر بمنتهى رحابة الصدر، لكن الآن ذهبت هذه العادات وذهب أهلها، وسادت عادات استوردناها من بلدان أخرى، وهي بمجملها بعيدة عن موروثنا الشعبي الأصيل».

وعن الأحداث التي تركت أثراً في حياته يقول "الكعكه جي": «عندما كنت طالباً في "حلب"، كان عددنا قليلاً، إذ كنا حوالي /11/طالباً، غير الذين سبقونا في الدراسة من أمثال الأستاذ "حسين الفواز"، الدكتور "عبد السلام العجيلي"، "حامد الخوجة"، لكنَّ مجموعتنا التي كانت مؤلفةً من "محمد نور غالب"، "فوزي الفواز"، "ابراهيم الشعيب"، "أحمد جمال العويد"، عبد الرحمن البصير"، "درويش الذويب"، "ضياء السيد أحمد"، "فائق السيد أحمد"، "محمد أمين قاسم"، "إسماعيل الحمود"، "محسن فؤاد"، "عبد الوهاب الويس"، فأذكر عنها أنه في سنة /1947/م، قمنا باستئجار بيت في "الرقة"، كي نلتقي به نحن الطلاب الذين كنا ندرس في "حلب"، بدلاً من الذهاب إلى المقاهي، لنمارس فيها نشاطات ثقافية، وفنية، وقمنا بتمثيل مسرحية في عام /1948/م، كانت باسم "يوسف العظمة"، وكانت أعمارنا قرابة الـ/15/عاماً».

مع ولده البكر المهلب.

ويتابع "الكعكه جي" حديث الذكريات عن تلك الأيام، فيقول: «أخذ دور "يوسف العظمة"، "عبد الرحمن البصير"، ودور "غورو"، "ضياء السيد أحمد"، بينما أخذت أنا دور الجنرال "غوابييه"، قائد الحملة الفرنسية على "دمشق"، واستمر هذا البيت ملتقى لنشاطاتنا لمدة عامين، ثم انتسبنا لنادي "الرشيد"، واشتركنا بالفرق الرياضية، حيث كنت مهتماً بالرياضة، ففي "حلب" كنت رئيساً لنادي "كرة المضرب"، وبعد حصولي على الكفاءة في عام /1951/م، استأجرنا مكاناً لناد آخر، نقضي فيه عطلنا الصيفية».

وعن حدث مفصلي يذكره دائماً، يقول "الكعكه جي": «فكرنا ذات مرة بعدم وجود مدرسة إعدادية في "الرقة"، تستطيع احتواء خريجي المدرسة الابتدائية الذين لا تسمح لهم ظروفهم المادية بمتابعة تحصيلهم في مدينة "حلب"، وفي عام /1951/م، كان عددنا كطلاب استطاعوا إكمال دراستهم، لا بأس به، فقررنا تشكيل وفد يذهب إلى "دمشق" لمقابلة وزير المعارف آنذاك، الدكتور "عبد الوهاب حومد"، وكان من أعضاء الوفد غيري أنا، كل من "عبد الوهاب الويس"، "درويش الذويب"، "مصطفى الحسون"، وعند وصولنا إلى "دمشق"، التقينا شاباً رقياً، هو الأستاذ "محمد الراكان"، الذي كان طالباً يدرس في السنة الثالثة في كلية العلوم، وعند شكوانا له صعوبة لقاء وزير المعارف، أجابنا بأنه سيأخذنا إلى مكتب حزب البعث، حيث سنقابل الأستاذ "ميشيل عفلق"، أو الأستاذ "صلاح البيطار"، ووصلنا للمكتب، ولم نجد الأستاذ "ميشيل"، الذي كان مسافراً، ولم يكن موجوداً سوى الأستاذ "البيطار"، حيث تكلم الأستاذ "الراكان"، للـ"بيطار"، شارحاً سبب زيارتنا، وبأننا نسعى لمنفعة جماعية لمحافظتنا، فأبدى سروراً كبيراً لاجتهادنا، وقام بدلنا على من سيسهل لنا مقابلة وزير المعارف، إذ دلنا على مكان إقامة السيد "جلال السيد"، وشقيقه الأستاذ "سعيد السيد"، الذين تربطهم صلة وثقى بأمين عام وزارة المعارف، الأستاذ "أحمد الفتيح"، ولم يتردد الأستاذ "جلال" بعد الترحيب بنا، بالاتصال فوراً بالأستاذ "أحمد الفتيح"، شارحاً له طلبنا، واستطاع الحصول لنا على موعد معه، في تمام الحادية عشرة ظهراً، حيث سيؤمن "الفتيح" بدوره لنا لقاء وزير المعارف».

وحول تفاصيل ذاك اللقاء مع وزير المعارف، يقول ضيفنا: «فكرنا ليلاً بوجوب أن يذهب معنا من هو أكبر سناً، وشاء حسن الطالع أن يتواجد في "دمشق" بعض أهل "الرقة"، بسبب اقتراب تعيين رئيس لمجلس المدينة، وكان المتنافسون على هذا المنصب كل من "خلف القاسم"، "علي الويس"، "صادق الفواز"، فاتصلنا بهم، بالذهاب لمكان إقامتهم في فندق "بردى"، وشرحنا لهم سبب وجودنا، طالبين منهم مرافقتنا، وكان منهم "حسين العلي الجدوع"، "علي الشواخ"، "مهاوش الماخوذ"، فوافقوا على ذلك، وكان الاتفاق هو اللقاء في تمام الحادية عشرة، أمام وزارة المعارف، التي كانت بجانب التكية السليمانية، وهي أيضاً بجانب فندق إقامتهم، وعند وصولنا لمكتب أمين عام الوزارة، استطاع إدخالنا لمقابلة الوزير، الذي استقبلنا، فشرح له الأستاذ "محمد الراكان"، سبب قدومنا، ورغبتنا بافتتاح صف إعدادي واحد في المحافظة، فأكبر فينا حرصنا على مصلحة بلدنا، وأكد بأنه طلب حق، ولكن لا يمكن إجابته لضرورات أخرى، أهمها تعميم التعليم الابتدائي، في المناطق الحدودية، وأهمها "الرقة"، وهي خطة وزارية، وليس هناك من خطة لافتتاح إعداديات في أي منطقة حدودية، ولكني لن أرجعكم خائبي الوفاض، فسأعطيكم باسم الوزارة منحة قدرها 20 مقعداً، في كل من "دير الزور"، "و"حلب"، مناصفةً وذلك على نفقة الدولة».

ويختتم "الكعكه جي" حديثه لموقعنا بالقول: «بعد انتهاء الوزير من حديثه، قال أحد الحاضرين ممن دخل معنا، موجهاً كلامه لوزير المعارف، بأنه يريد هذه المنحة مناصفةً بين حلفي "الرقة": "العشاريين"، و"الأكراد"، لكن الوزير الذي لم يفهم بدايةً ماذا يقصد بكلامه، أجابه بأن المنحة هي لمن يحتاجها فقط، وليست غير ذلك، فعدنا من "دمشق" وقد حصدنا نصراً معنوياً لأبناء مدينتنا، وهي ليست بالمنة عليهم أبداً، فمن يخدم بلده، سيأتي يوم ترد له هي ذاك الجميل، وما لقاؤكم السعيد بي في هذا اليوم، إلا شكلاً من أشكال العرفان».

ويذكر أن الأستاذ "عادل كعكه جي" ولد في عام /1932/م بمدينة "الرقة"، حصل على الشهادة الابتدائية منها في عام /1945/م، ثم دخل مدرسة التجهيز الأولى في "حلب" عام /1950/م، وحصل على شهادة "البكالوريا" من مدرسة "المأمون" بـ"حلب"، في عام/1953/م، دخل جامعة "دمشق" في عام /1954/م، وتخرج منها عام /1957/م، ثم التحق بخدمة العلم لمدة ثلاث سنوات، وكان أول محامٍ من أبنائها يسجل في نقابتها، ويمارس المهنة فيها، وكان هناك محامون قبله من غير أبناء المحافظة، واستمر في ممارستها حتى تقاعده /1999/م، له من الأولاد كل من "المهلب"، "رزان".