«ما زلت أذكره بطلته البهية، وتقاسيمه الحلوة، وهيبته التي يفرضها بأي مكان حلَّ به، حتى إذا ما جاذبته أطراف الحديث، انفرجت أسارير قلبك لدماثة أخلاقه، وطيب معشره، كنا وفي كل عيد، وبعد خروجنا من جامع "الجراكسة"، نَؤمُّ بيته للسلام عليه، وتناول "الثريد"، الذي كنا ندعوه "بصبحة" العيد، وكان هذا طقساً عاشه كل رقيٍّ عاصر الشيخ "محمد صادق الفواز"، ما أجملها تلك الأيام، وما أُحيلاها».

بهذا الشعور، وهذه العاطفة، يبدأ الأستاذ الباحث "حمصي فرحان الحمادة"، حديثه لموقع eRaqqa بتاريخ (25/12/2008)، عن شخصية الشيخ "محمد صادق الفواز"، شيخ عشيرة "البياطرة"، وأحد أوائل المتعلمين في مدينة "الرقة"، ويتابع "الحمادة" حديثه لنا بالقول: «والده الشيخ "فيضي الفواز"، الذي سلمه مشيخة "البياطرة"، وهو غني عن التعريف بالنسبة لأهل "الرقة"، درس العلوم الزراعية في مدرسة "سلمية"، وهي وحدة تعليمية تابعة لجامعة "مونبلييه" الفرنسية، حيث حصل على الدبلوم في العلوم الزراعية سنة /1930/م، وهي بمثابة الهندسة الزراعية حالياً، وعين مأموراً مشرفاً على الزراعة في "الجزيرة"، و"الفرات"، فهو بذلك أول مهندس زراعي في مدينة "الرقة"، ومن مآثره بتطبيق العلم على أرض الواقع، قيامه بمهمة مكافحة الجراد النجدي، الذي اجتاح سورية عام /1942/م، مستفيداً من خبرته العلمية، عندما احتاجته الدولة لهذه المهمة».

كما رباه والده على احترام العلم، ربى أولاده على ذلك، فولده الدكتور "أسعد"، حاصل على الدكتوراه في الاقتصاد من جامعات "بلجيكا"، ويدرس حالياً في جامعة "دمشق"، وفيها يقيم، أما ولداه "ماجد"، و"اسماعيل"، فهما يعملان بالتجارة والزراعة، ويقيمان في مدينة "الرقة"، شأنهما بذلك شأن والدهما الذي عشق الزراعة، وأحبها، وعشق الأرض التي كان يعمل بها، فمنطقة "أبو قبيع" التي مارس بها زراعته، ربطته بها علاقة روحية، لدرجة أنه أوصى أن يدفن بها

وعن شخصية الشيخ، وكيف تم صقلها في سني عمره الأولى يحدثنا "الحمادة" بالقول: «منذ صغره، ولاحقاً بمقتبل سني شبابه، اعتاد وبتوجيه من والده الشيخ "فيضي الفواز"، على مجالسة كبار القوم، وعليتهم، من الشخصيات السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، وكان والده بذلك يعده لما هو آت من مهام ستلقيها عشيرته على كاهله، إذ أنه وبحسب العرف العشائري السائد في موروث منطقتنا، سيكون المؤهلَ ليكون شيخ العشيرة، وكان وبرغم حداثة سنه مدركاً لهذا الأمر، فاحترم حسن ظن والده وأقاربه به، فارتقى بسلوكه عن كل ما يشينه، وزاد في ذلك طيب المنشأ الذي تربى عليه، كيف لا، والشيخ "فيضي" والده، وهو المشهود له بالتقى، والعلم، والورع».

الشيخ في منزله

وكان للشيخ الدور البارز في هذه المحافظة، من ناحية العلم والمتعلمين، وعن ذلك يقول ضيفنا: «كان جيلنا لا يجد أمامه بعد الانتهاء من المرحلة الابتدائية، والتي كانت خمس سنوات، إما ترك التعليم، بسبب عدم قدرة الطالب الذي يرغب بالمتابعة، نظراً لظروفه المادية، أو المتابعة، ولكن خارج المدينة لعدم توفر مدرسة إعدادية، فبادر الشيخ "محمد صادق" رحمه الله، إلى إنشاء أول إعدادية خاصة في مدينة "الرقة"، وأسماها "المدرسة الأهلية"، وكان ذلك سنة /1953/م، والتي كان لها الفضل الكبير في فتح المجال أما أبناء هذه المحافظة لإكمال تعليمهم، واستمرت ترفد الحركة التعليمية بالجيل المثقف لمدة ثلاث سنوات، حين افتتحت إعدادية "الرشيد" الرسمية من قبل الدولة».

وعن جانب مهم في شخصية الشيخ، يعرفه الكثير من أهل "الرقة"، يحدثنا "الحمادة": «كانت لدى الشيخ برغم كثرة خصاله الحميدة، صفة تميز بها، واختبرها البعيد قبل القريب، إذ كان حليماً بكل ما تعنيه هذه الكلمة، وسأدعم كلامي هذا بحادثة يعرفها الكثير من أبناء "الرقة"، ففي عام /1956/م، صدمت إحدى السيارات ابنه "حسان"، البالغ من العمر حينها /10/ سنوات، وكرد فعل سارع أفراد عشيرته بعد أن أيقنوا بأن الطفل قد قضى في تلك الحادثة، إلى السائق المذعور يريدون الفتك به، وهيأ الله الشيخ في تلك اللحظة، ومنعهم من الاقتراب من السائق، حيث أدخله بيته، وأمنه على نفسه، ودعاه للطعام، ولم يتركه إلا وقد سامحه على دم ابنه، أما الحادث الثاني الذي يؤكد صفة الحلم لدى الرجل، امتحان إلهي آخر لصبر المؤمن المحتسب، فلقد شاءت إرادة الله سبحانه وتعالى أن يفطر قلبه على ابنه "خليل"، بحادث سير مروع على طريق "حلب"، "الرقة"، وذلك في عام /1984/م، وكعادة الناس جاء أهل السائق الذي تسبب بالحادث إلى دار الشيخ للسلام عليه وتعزيته، ودفع الدية، فقام بإكرامهم، حيث استقبلهم ببشاشة، وذبح الذبائح كعادة أهل المنطقة عندما يزارون، وحينما حاولوا دفع الدية، والتي كانت مبلغاً مالياً قدره /200000/ ليرة سورية، قام الشيخ رحمه الله بردها لهم، كترحاب بقدومهم، وقال لهم بأن قضاء الله وقدره، جزاؤه الصبر والاحتساب، وليس من يقدر على دفع ثمن ذلك سوى الله، فغادروا وأفواههم تلهج بالثناء، والشكر، والمديح، للرجل».

شهادته الزراعية

وعن حب الناس وتقديرهم له، يقول الباحث "حمصي فرحان الحمادة": «كان محبوباً من كل أهل المدينة لسماحة أخلاقه ورفعتها، وكان محبوباً بشكل خاص من قبل أبناء عشيرته، الذين تفننوا في إظهار حبهم واحترامهم له بطرق كثيرة، فكانوا كلما ساروا بفرح، أو كما يسميه أهل "الرقة"، "الزفَّة"، لا بد من المرور ببيته، حيث تكون "هوسة" العرس أمام باب منزله، كتحية له، حيث يهتف من يتولى أمر تلك "الهوسة" قائلاً:

("صادق البيت، إحنا رواكو "صادق" المر يا من ظاكو)، حيث "ظاكو" مفردة شعبية جاءت من الفعل "ذاق"، أم "رواكو"، فهي أيضاً مفردة شعبية تعني "الرواق"، وهذا يدل على أن الجميع متفقون على محبة الشيخ واحترامه».

الباحث "الحمادة"

وعن تجربة الشيخ السياسية، ودلالاتها عن شخصيته، يحدثنا "الحمادة": «خاض الانتخابات النيابية عام /1953/م، بقائمة تضم بالإضافة إليه كل من: "رشيد العويد"، "خلف الحسان"، ولكنها لم تحقق ما طمحت إليه من نجاح، وتكررت تجربته الانتخابية مرةً أخرى عام /1954/م، بقائمةٍ ضمت معه كل من: "محمد بركات" ممثلاً للمنطقة الغربية، "خلف الحسان" ممثلاً للمنطقة الشمالية، "هويدي البوحبال" ممثلاً للمنطقة الشرقية، بينما كان الشيخ في التجربتين الانتخابيتين، ممثلاً للمدينة، وبرغم عدم توفقه في التجربتين معاً، إلا أنهما تدلان على محبة أهل المدينة للشيخ، وإصرارهم على أن يكون ممثلاً لهم، ولم يجرب حظه في السياسة مرةً أخرى، وللمعلوم أنَّ تلك القوائم كانت تمثل قضاء "الرقة" كاملاً».

وعن أولاده يقول "الحمادة": «كما رباه والده على احترام العلم، ربى أولاده على ذلك، فولده الدكتور "أسعد"، حاصل على الدكتوراه في الاقتصاد من جامعات "بلجيكا"، ويدرس حالياً في جامعة "دمشق"، وفيها يقيم، أما ولداه "ماجد"، و"اسماعيل"، فهما يعملان بالتجارة والزراعة، ويقيمان في مدينة "الرقة"، شأنهما بذلك شأن والدهما الذي عشق الزراعة، وأحبها، وعشق الأرض التي كان يعمل بها، فمنطقة "أبو قبيع" التي مارس بها زراعته، ربطته بها علاقة روحية، لدرجة أنه أوصى أن يدفن بها».

ويذكر أن الشيخ "محمد صادق الفواز"، ولد في "الرقة" عام /1910/م، وعاش فيها، وتوفي في عام /1985/م، ودفن في تلةٍ مشرفة على الطريق العام بمنطقة "أبي قبيع"، التي أحبها، وقضى فيها أجمل سنوات عمله كمزارع يحمل شهادةً عليا في الزراعة، ربط فيها العلم بالتطبيق، وما زال يذكره أهل "الرقة" كأحد رجالاتها الأفاضل.