«يمتلك الفنان "مصطفى أوقطاي" حساسية مرهفة في تجسيد اللحظة الراهنة بكل أبعادها، وما تحتويه من نبض وروح مؤتلق بفضل حرفيته العالية باستثمار الظل والنور، وعمق الصورة الذي يعكس حالة من التفاعل والتماهي مع المتلقي، وهو مخلص لحرفته التصوير الضوئي، لكن حرفيته هذه لم تأتِ من فراغ، بل جاءت من خلفية رسام مبدع، برع في فن التصوير الزيتي، واستفاد من خبرته في التصوير ليعكسها ببراعة فائقة في رسم الوجوه (البورتريه)، وإبراز ملامح الإنسان وجوانيته».

بهذه العبارات استهل الفنان "محمد الرفيع" حديثه لموقع eRaqqa بتاريخ (28/11/2008)، وهو يلخص تجربة الفنان الضوئي والرسام "مصطفى أوقطاي".

هي عادةٌ بقيت مواظباً عليها مذ غادرت "الرقة" لأستقر في مدينة "حلب" في عام /1960/ إلى حينه، فبقيت مسكوناً بفراتها وناسها، ولم تبرح مخيلتي على مدى هذه السنوات الطويلة، أعود إليها كلّما سنحت الفرصة، لأزور الأهل والأقارب والأصدقاء، وفيهم من غادر الحياة الدنيا، حيث أعرج بزياراتي المتكررة صوب مقبرة "حطين" لأقرأ الفاتحة على قبري أمي وأبي، وهناك ليس ببعيد عنهما أذرف دمعة بالقرب من مثوى الأديب الكبير "عبد السلام العجيلي" الذي تربطني به صداقة لم تنفصم عراها إلى أن غيبها الموت جسداً، وبقيت روحينا تتواصل إلى ما شاء الله، فـ"العجيلي" رحمه الله لم تنقطع زيارته لي في "حلب" في كل مرَّة يأتيها زائراً أو محاضراً، وعادة دأبت عليها فما أن يحط رحاله هناك حتى أسارع بالتقاط صورة له، أكتفي بتكبيرها، ووضعها على الجدار الذي يقابلني ضمن إطار جميل، تزين محلي بأبهاء عظيم أفتخر به حضوراً وتخيلاً

"أوقطاي" لم يكن مجرد اسم عابرٍ في تحولات مدينة "الرقة" في منتصف القرن العشرين، وهي تشهد نهوضاً لافتاً في جميع مجالات الحياة، وبإمكاننا اعتباره أول مصور فوتوغرافي يفتتح محلاً في "الرقة"، يحمل شعاراً (مصور ورسام)، فالذي سبقه في هذه المهنة شخص واحد، لا يملك من مقدرات المهنة سوى الجزء اليسير منها، ما لبث أن ابتعد عنها شيئاً فشيئاً، بآلته الشمسية التي كان ينصبها على قارعة الطريق. فمن هو "مصطفى أوقطاي"؟.

من أعماله الفنية

خلال زيارة الفنان "مصطفى أوقطاي" إلى "الرقة" بتاريخ (29/11/2008)، التقاه موقعنا، وحاوره في حديث خاص عن خصوصية المكان في تجربته الفنية التي تجاوزت أكثر من نصف قرن، يقول: «هي عادةٌ بقيت مواظباً عليها مذ غادرت "الرقة" لأستقر في مدينة "حلب" في عام /1960/ إلى حينه، فبقيت مسكوناً بفراتها وناسها، ولم تبرح مخيلتي على مدى هذه السنوات الطويلة، أعود إليها كلّما سنحت الفرصة، لأزور الأهل والأقارب والأصدقاء، وفيهم من غادر الحياة الدنيا، حيث أعرج بزياراتي المتكررة صوب مقبرة "حطين" لأقرأ الفاتحة على قبري أمي وأبي، وهناك ليس ببعيد عنهما أذرف دمعة بالقرب من مثوى الأديب الكبير "عبد السلام العجيلي" الذي تربطني به صداقة لم تنفصم عراها إلى أن غيبها الموت جسداً، وبقيت روحينا تتواصل إلى ما شاء الله، فـ"العجيلي" رحمه الله لم تنقطع زيارته لي في "حلب" في كل مرَّة يأتيها زائراً أو محاضراً، وعادة دأبت عليها فما أن يحط رحاله هناك حتى أسارع بالتقاط صورة له، أكتفي بتكبيرها، ووضعها على الجدار الذي يقابلني ضمن إطار جميل، تزين محلي بأبهاء عظيم أفتخر به حضوراً وتخيلاً».

ويتابع حديث الذكريات بقوله: «ولدت في مدينة "البوكمال" عام /1938/ لأسرة تركية استقرت هناك في بداية الثلاثينيات من القرن العشرين بحثاً عن أسباب الرزق والعيش الكريم، وهناك قضيت معظم سني طفولتي وشبابي، وبرزت موهبتي في الرسم والكتابة والخط العربي منذ المرحلة الابتدائية، وفي إحدى المرات أخذني والدي رحمه الله إلى الحلاق، وهناك رأيت صوراً معلقة لشيوخ المنطقة، وطلبت من صاحب المحل إحدى الصور، وفي البيت قمت برسمها بقلم الرصاص، وفي اليوم الثاني ذهبت باللوحة المرسومة إلى المقهى حيث يجلس صاحبها مع ندمائه، وعرضتها عليهم، فشجعني صاحبها، وكافأني على موهبتي بليرتين، وكان هذا المبلغ يومها أكبر مبلغ يقع في يدي، وفي مرحلة مبكرة من شبابي امتهنت مهنة التصوير الكهربائي، حيث افتتحت في عام /1952/ محلاً صغيراً للتصوير لم يكن بقادر على إبراز موهبتي، وتحقيق تطلعاتي وطموحاتي الفنية، وفي عام /1955/ استقرت أسرتي في مدينة "الرقة"، وقمت باستئجار محل بالقرب من السرايا القديمة (متحف "الرقة" حالياً)، وافتتحته محلاً للتصوير، ولم يكن في "الرقة" آنذاك إلا مصوراً وحيداً يصور الناس على قارعة الطريق بآلة شمسية، أو كما يسمى (مصور على الماء)، وفي فترة قصيرة استطعت أن أنخرط في مجتمع المدينة، وأصبح من نسيجها، وأن أكوِّن صداقات مازلت إلى الآن أعتز بمعظمها، فمن له أن يكون صديقاً وفياً للدكتور "عبد السلام العجيلي"، والكثير من أبناء "الرقة" المحترمين، والذين لا يتسع المقام لذكر أسمائهم، وأنا أعتبر السنوات التي عشتها في "الرقة" من أجمل أيام حياتي، ففيها اكتمل نضجي الفني في الرسم والتصوير والخط، إضافة لبعض المحاولات الأدبية الخجولة التي لم ترَ الضوء إلاّ في الحدود الضيقة، فقد كنت أعرضها على المقربين، وعلى رأسهم "العجيلي" الذي كان يشجعني قائلاً: (إنك تمتلك مخيلة رائعة)، وبعضها نشرته في المجلات السورية آنذاك.

حديث الذكريات

في عام /1959/ سافرت إلى إيطاليا، لكني عدت سريعاً إلى لبنان، حيث بقيت عاماً كاملاً في "جونيه" أعمل في رسم وجوه الفنانين والأدباء، إضافة للموتيفات التي تنشرها الصحف والمجلات اللبنانية، لكني ما لبثت أن عدت إلى سورية، واستقريت في مدينة "حلب"، حيث افتتحت (أتيليه) للرسم، ثم تحولت إلى التصوير الضوئي والرسم في ستوديو خاص في شارع "بارون"، إلى أن اعتزلت العمل نهائياً في عام /2005/. وخلال هذه الفترة الطويلة، وبسبب حبي للفرات ولمدينة "الرقة" قمت في عام /1973/ بافتتاح فرع لي في المدينة التي أحببتها ومازلت، وآتي إليها لممارسة هوايتي بالرسم والتصوير يومي السبت والأحد من كل أسبوع، إضافة إلى ولعي الشديد بممارسة هواية الصيد مع بعض الأصدقاء والمقربين».

وعن الرسم ومشاركاته الفنية، يقول: «الفن يسري في عروقي، لكن ولعي بالسياسة، والانتصار للقضايا القومية والإنسانية، واهتمامي بمهنة التصوير جعلني أبتعد عن الأضواء، لكنني كنت مواظباً على الاشتراك بالعديد من المعارض الفنية الجماعية التي تقام بمدينتي "حلب" و"الرقة"، وأبرزت مشاركاتي قدرتي على رصد مفردات الحياة اليومية لمدينتي "الرقة" و"حلب"، وجمالية الطبيعة في مناطق الفرات وبيوت "الرقة" الطينية، والريف السوري، ومن أبرز اللوحات التي أعتز بها، لوحة (فرحة الوحدة)، ولوحة (شيخ الكتَّاب).

وعن مهنة التصوير بين اليوم والأمس، يقول: «بعد ظهور أجهزة الحاسوب، وآلات التصوير الديجيتال، فقد التصوير فنيته، فلقد كانت براعة المصور تبرز من خلال التصوير الأبيض والأسود، حيث التفنن بالإنارة، والقدرة على إبراز معالم الوجوه، والمقدرة في التلوين بالألوان الزيتية والمائية، وتركيب أدوية التصوير، وخصوصية المصور تبرز هنا من براعته في اختيار المقادير المحددة لتظهير الصور، اليوم أصبح التصوير بمتناول الجميع، وكنت وما أزال أنظر إلى الحياة بأنها لحظات عابرة وهاربة، يجب رصدها وتصويرها أو رسمها قبل أن يغيّبها الزمان، وتنحصر في زوايا المخيلة البشرية، لا يستطيع استردادها سوى من يمتلك المخيلة الواسعة، أو تُركن في الزوايا المظلمة».

بقي أن نشير بأن الفنان "أوقطاي" مقيم الآن بمدينة "حلب"، وهو متزوج وله من الأبناء "عمار"، و"ناصر"، و"سامر"، و"بشرى"، وهو يشرف حالياً على معمل لصناعة الأحذية بإدارة أبنائه الثلاث.