للتضاريس الطبيعية المختلفة، أثر كبير في تسمية الكثير من المناطق، فمثلاً نجد اسم "الرقة البيضاء"، و"الرقة السمراء"، كما نجد اسم "الحمرات"، ولا ندري حقيقةً هل أُخذ هذا الاسم من طبيعة المنطقة ذات التربة الحمراء، أم أُخذ من "مضر بن نزار" المعروف بمضر الحمراء، لأنه ورث الذهب الأحمر من تركة أبيه "نزار بن معد"، ومن المعروف أن "معاوية بن أبي سفيان"، تولى ولاية الشام والجزيرة، زمن الخليفة "عمر بن الخطاب" رضي الله عنهما، وما فعله أن نقل إلى "الرقة" قبائل عربية من "مضر"، وكذلك إلى أرض الجزيرة الفراتية، فأصبحت المنطقة تعرف باسم "ديار مضر"، وكانت "الحمرات" تعرف باسم "الحمراء" كما ذكر ذلك "الجهشياري"، "أبو عبد الله محمد"، في كتابه "الوزراء والكتاب"، أما "ابن خلكان" فقد أطلق عليها في كتابه "الوفيات" اسم "الحمرات"، وهي مجموعة من القرى، تهجع على الضفة اليسرى لنهر الفرات، على بعد ما يقارب /10/ كيلو مترات من مدينة "الرقة"، وهي "حمرة بويطية"، التي يسكنها خليط أغلبهم من "البلاسم" وهم من "المدلج"، و"حمرة غنام"، ويسكنها الغنام" من "المدلج" أيضاً، و"حمرة جماسة" ويسكنها "الجماسة" من "البوظاهر"، و"حمرة ناصر"، التي يسكنها "الناصر" من "المدلج"، وكل هؤلاء القوم من "البوشعبان"، القبيلة العربية المعروفة، ولا توجد بين هذه القرى فواصل طبيعية، ولكنها فواصل تقوم على تموضع اجتماعي، تجعل من كل قرية مسماةً باسم قاطنيها.

وفي "الحمرات"، ولد "عبد الحميد الكاتب"، شيخ كتاب الدواوين بلا منازع، وحتى نقف على خبر الرجل، فإن موقع eRaqqa بتاريخ (17/11/2008)، التقى الباحث الأستاذ "حمصي فرحان الحمادة"، الذي بدأ تعريفنا بهذه الشخصية بالقول: «هو "عبد الحميد بن يحيى بن سعد العامري بالولاء، المعروف بالكاتب، وكان جده مولىً للعلاء بن وهب العامري، فنسب لأبي عامر ويكنى بأبي يحيى، والراجح أنه فارسي الأصل، أجداده من سبي القادسية، استقروا في منطقة الأنبار، ثم انتقل أهله وأقاربه، ونزلوا بالقرب من "الرقة" بموضع يعرف بـ "الحمراء"، ويرجح أن ولادته كانت في خمسينيات الهجرة، تعلم علوم عصره الشرعية والأدبية، حتى صار من البلغاء والفصحاء، كان في بداية حياته معلم صبية ينتقل بين البلدان، وفي "الرقة" نشأت بينه وبين "سالم بن عبد الرحمن"، صداقة تطورت لأن يتزوج "عبد الحميد" ابنة "سالم"، وكان "سالم" يكتب في ديوان "هشام" في "الرصافة"، فقدمه إلى "هشام" الذي أرسله سنة/106/هـ ، إلى أذربيجان ليكتب أخبار الجند، ووضع البلاد، حيث التقى هناك "غيلان الدمشقي"، وكان "غيلان" هذا أحد دهره في العلم والزهد، وكان يدعوه إليه فيما مضى، الخليفة "عمر بن عبد العزيز" ليعظه، وخرج بعد ذلك إلى أرمينيا، وكان يدعو دعوة المعتزلة، إلى العدل، وحرية العقل، والإرادة، بينما يذهب أمراء بني أمية إلى القول بالجبر الإلهي، وأرسل "عبد الحميد" برسالة إلى الخليفة "هشام بن عبد الملك"، يخبره بشأن "غيلان"، فاستدعى "هشام" "غيلاناً، وقتله، وعاد "عبد الحميد" إلى "الرصافة"، وبقي فيها إلى سنة /114/هـ، ليلتحق بـ"مروان بن محمد"، عندما ولي الأخير على "أذربيجان"، ولازمه حتى وفاة "هشام" بالذبحة الصدرية، سنة /126/هـ، فانتقل "مروان" والياً على "حرَّان"، واتخذها عاصمة له، وكتب "عبد الحميد" قبل ذلك لكثير من خلفاء بني أمية، فقد كتب لـ "عبد الملك بن مروان"، ثم لـ "يزيد بن عبد الملك"، وبقي كاتباً لبني أمية حتى آخر خليفة لهم وهو "مروان بن محمد"».

هو بتصنيف من قبله ومن بعده لم يصنف من الخطاطين، إلا أن فرضية أنه كان كذلك تكاد تكون يقيناً، فهو كاتب دواوين دولة لعدد من الخلفاء، من بني أمية وآخرهم "مروان بن محمد"، وجميع كتاب الدواوين يجب أن يكونوا خطاطين، وليس أدل على ذلك من جمالية الخط الديواني، حيث كانت كل الدواوين تُخرج به ما يصدر عنها، لاستحالة أحرفه على التزوير، وقد وصفه "المسعودي" بقوله: (وكان جميل الخط، من وصاياه: "القلم أحسن اللسانين")

وعن معلمه، وتلامذته، وماذا حلَّ بأولاده، يتابع "الحمادة": «كان أستاذه في الكتابة هو "سالم" مولى "هشام بن عبد الملك"، ومن طلابه "يعقوب بن داوود"، وزير الخليفة "المهدي"، قبل قيام الدولة العباسية، كان يكتب بين يديه وعليه تخرج، كما كان ولده "إسماعيل" كاتباً ماهراً، معدوداً في جملة الكتاب المشاهير، أما أحفاده، فقد بقي أولاده في منطقة "الحمرات"، وتذكر لنا كتب التاريخ من أحفاده، "سعد بن يحيى بن يزيد بن عبد الحميد"، المولود في "الحمرات" سنة/292/هـ، كما مرَّ ذكرٌ لأولاده وأحفاده في مصر، حيث استخدمهم بعض الولاة في دواوينهم، ونلاحظ امتداد تأثير "عبد الحميد" ككاتب حتى أحفاده».

في رصافة "هشام" كانت بداية "عبد الحميد"

وعن الشهادات التي قيلت عنه في عصره، يجيبنا "الحمادة": «إنه شيخ الدواوين، ويضرب به المثل في الكتابة والبلاغة، وقد قيل (فُتحت الرسائل بعبد الحميد، واختتمت بابن العميد)، وقال عنه "ابن النديم"، في فهرسته: (أخذ عنه المترسلون، ولطريقته لزموا، وهو الذي سهل سبيل البلاغة، في الرسل وأحد دهره)، وسماه "الجاحظ" في بيانه، "عبد الحميد الأكبر"، ونصح الكتاب أن يأخذوا كتابته نموذجاً، وقال عنه "إبراهيم بن العباس الصولي"، عندما ذكر "عبد الحميد" عنده، (كان الكلام مُعاناً له، وما تمنيت كلامَ أحدٍ من الكتَّاب قطُّ أن يكون لي، مثل كلامه)، وكان في الكتابة وفي كل فن من العلم والأدب إماماً، ومجموع رسائله ألف ورقة، وقد طبع بعضها، ومن رسائله نذكر: "رسالة إلى الكتاب"، "رسالة في وصف الإخاء"، "رسالة في وصف الصيد"، "رسالة إلى أخ"، "رسالة في التعزية"، "رسالة في الشطرنج"، وغير ذلك الكثير مما يضيق المجال عن ذكره، ومن خلال رسائله نستطيع أن نعرف نوازع أدبه، فهو يريد أن يجعل من الكتابة صنعةً شريفةً تفيد الناس، وهي برأيه تحتاج إلى أدوات، ويتفرد "عبد الحميد" بإتقانه لهذه الأدوات، فهو يتمتع بعقل عظيم نجذته التجارب، وأيده العلم والأدب، وقد أوفى "عبد الحميد الكاتب"، الكتابة الديوانية حقَّها، من غزارة المعاني وروعة الأسلوب، وإعطائها حقوقها من الجزالة، والرونق، والطلاوة، ومضى يدبج رسائل أدبية لا يقصد بها السياسة، إنما يقصد بها إلى الأدب من حيث هو فن جميل، فاستحق أن يحمل بجدارة لقب "شيخ كتاب الدواوين"».

وعن المقولة التي تقول بأنه كان خطاطاً، يقول "الحمادة": «هو بتصنيف من قبله ومن بعده لم يصنف من الخطاطين، إلا أن فرضية أنه كان كذلك تكاد تكون يقيناً، فهو كاتب دواوين دولة لعدد من الخلفاء، من بني أمية وآخرهم "مروان بن محمد"، وجميع كتاب الدواوين يجب أن يكونوا خطاطين، وليس أدل على ذلك من جمالية الخط الديواني، حيث كانت كل الدواوين تُخرج به ما يصدر عنها، لاستحالة أحرفه على التزوير، وقد وصفه "المسعودي" بقوله: (وكان جميل الخط، من وصاياه: "القلم أحسن اللسانين")».

الباحث "الحمادة"

وعن وفاته، يحدثنا ضيفنا "الحمادة"، فيقول: «اتفقت جميع المصادر على وصفه بأفضل الخصال وعلى رأسها الوفاء، وجميع الروايات تتفق أيضاً أنه قضى مقتولاً، ولكنها تختلف في المكان والزمان، وتقول إحدى الروايات، أن "مروان" قال له حين أيقن بزوال مُلكهِ، كإيحاءٍ منه على دعوة "عبد الحميد" لتخليص نفسه من القتل: (قد احتجتَ أن تصير مع عدوي، وتظهر الغدر بي، فإن إعجابهم بأدبك وحاجتهم إلى كتابتك، يحوجهم إلى حسن الظن بك)، فقال له "عبد الحميد": (إن الذي أشرت به عليَّ أنفعُ الأمرين لك، وأقبحهما بي، وما عندي إلا الصبر حتى يفتح الله تعالى، أو أُقتل معك)، وأنشد يقول:

أسرُّ وفاءً ثم أظهر غدرةً فمن لي بعذر يوسع الناس ظاهره

ويقال أيضاً أن "مروان بن محمد"، قال له قولته المشهورة: (انج بنفسك يا "عبد الحميد"، فإني إن قتلوني خسرني أهلي، وإن قتلوك خسرك العرب جميعاً)

ثم إنه قتل مع "مروان"، في يوم الاثنين، الثالث عشر من ذي الحجة، سنة /132/هـ، في قرية يقال لها "بوصير"، من أعمال "الفيوم"، بالديار المصرية، وهناك روايات أخرى عن مقتله، تنسب قتله للسفاح بصور مختلفة، والنتيجة أنه قضى مقتولاً».

ويختتم "الحمادة" حديثه عن "عبد الحميد الكاتب"، بذكر إحدى رسائله، التي قيل بأنه كتبها لأهله يعزيهم بها بنفسه: «من رسائله نختار تلك التي أرسلها لأهله وهو منهزم مع "مروان"، وكانوا يقيمون في "الحمرات"، وفيها يعزيهم بنفسه، إذ يقول: (أما بعد: فإن الله جعل الدنيا محفوفةً بالكره والسرور، وجعل فيها أقساماً مختلفة بين أهلها، فمن درَّت له بحلاوتها، وساعده الحظ فيها، سكن إليها ورضي بها، وأقام عليها، ومن قرصته بأظفارها، وعضته بأنيابها، قلاها نافراً عنها، وذمَّها ساخطاً عليها، وشكاها مستزيداً لها، وقد كانت أذاقتنا أفاويق استحليناها، ثم جمحت بنا نافرةً، ورمحتنا موليةً، فملح عذبها، وخشن لينها، فبعدتنا عن الأوطان، وفرقتنا عن الإخوان، فالدار نازحة والطير بارحة، وقد كتبت والأيام تزيدنا منكم بعداً، وإليكم صبابةً ووجداً، فإن تتم البلية إلى أقصى مدتها، يكن آخر العهد بكم وبنا، وإن يلحقنا ظُفر جارح من أظفار من يليكم، نرجع إليكم بذل الإسار، والذل شر جار، نسأل الله الذي يعز من يشاء، ويذل من يشاء، أن يهب لنا ولكم، أُلفةً جامعة، في دار آمنة، تجمع سلامة الأديان والأبدان، فإنه ربُّ العالمين وأرحم الراحمين)».