«يدخل القلب دون أن يطرق بابه، يمشي على الأرض الهوينى، لكأنها تحت قدميه أجداث طاهرة، متحدث بارع يستطيع إدارة الحوار بحرفية عالية، عاشق للتاريخ وأوابده الأثرية حتى الثمالة، ولشدة ولعه به سمى كلتا ابنتيه باسمين أثيرين لديه، "آثار" و"إيمار"».

بهذه العذوبة يتحدث لنا الشاعر والصحفي "نجم الدرويش" عن رفيقه الأثير، "محمد العزو"، أو كما يحب أن يكنى بـ "أبي آثار".

في كل محافظة "الرقة" لا تجد الآن أي دار لعرض الأفلام السينمائية، وقد كان في "الرقة" وحدها، خمس دور سينما بذاك الوقت، وكنت أقصدها برفقة "أبو آثار"، وبعضاً من رفاقنا الآخرين، لنقضي وقتاً ممتعاً، تفوق متعته ما تشعر به وأنت تشاهد "التلفاز"، وحقيقة الأمر أننا كنا نشعر بالسعادة المطلقة

منذ عقود خلت، وعلى تخوم تل "البيعة"، كان هناك طفل صغير يلهو ويلعب، غير مدرك بادئ الأمر أنه يمتطي ظهر أقدم مملكة من ممالك الأرض القديمة، ولم يكن يعني اسم "توتول" لهذا اليافع أيُّ معنىً سوى الطلاسم، ولو فُتحت له أبواب المستقبل البعيد لرأى نفسه ينقب بهذا التل كمشرف على بعثةٍ أثرية، مساهماً بكشف أسرار حضارة سادت في هذه المنطقة ردحاً طويلاً من الزمن.

منكباً على عمله في التوثيق

موقع eRaqqa التقاه في مكتبه، في دار الثقافة في محافظة "الرقة"، وقلَّبنا معه دفاتر الذكريات، نبشنا المفرح منها، وولجنا إلى المحزن، وكأننا بحديثنا معه نزور متحفاً مليئاً باللقى الأثرية، تحار أيَّاً منها تنتقي، سألناه بوجل عن "محمد العزو" فاستفاض قائلاً: «درست علم الآثار وتاريخ الفن بجامعة "شارلز" في مدينة "براغ" التشيكية، حيث غادرت القطر منذ العام /1971/م، وظللت هناك حتى العام /1980/م، حيث درست في السنة الأولى اللغة التشيكية، ثم أعقبتها في السنة الثانية بدراسة علم النفس الاجتماعي، ولاحقاً درست علم الآثار وتاريخ الفن، وخلال فترة دراستي زرت كثيراً من الأماكن التي كانت آثارها وعراقة فنونها تشغل بالي، فمن مجموعة الدول الاشتراكية سابقاً، مروراً بفرنسا، ثم النمسا، ثم ألمانيا، وبلجيكا، واليونان، فتركيا، لم أترك معلماً فيها إلا وزرته ودرسته، حتى أضحى لدي وأنا ما زلت طالباً مجموعة متواضعة من المعلومات كانت تثلج صدر أساتذتي، وكما نقول نحن أهل "الرقة" (الديره طلبت أهلها) في العام /1980/م، حيث عدت إلى الوطن، وعملت في دائرة آثارها بصفة مشرف على أعمال التنقيب الأثري، وكان لي شرف العمل مع الأستاذ الدكتور "قاسم طوير" في موقع "هرقلة" الأثري، مع البعثة الوطنية وفي أعمال التنقيب تلك تم الكشف عن مخطط القصر الذي حيكت حوله الأساطير والروايات بذاكرة أهل "الرقة"».

يسترخي على كرسيه، ويعبث بأوراقه، والابتسامة الوادعة لا تفارق شفتيه مواصلاً القول: «عملت أيضاً مشرفاً على أعمال التنقيب الأثري، في تل "حلاوة" الواقع على بحيرة "الأسد"، ممثلاً للمديرية العامة للآثار والمتاحف، حيث كانت البعثة الألمانية تتولى أعمال التنقيب هناك، وكان هاجس السفر يراودني بين الفينة والأخرى، ولم أقاوم عرضاً قدم لي من جامعة "الرياض"، قسم الآثار والمتاحف حيث توجهت إلى هناك بصفة محاضر ومشارك في كتابة تاريخ وآثار قرية "الفاو" الأثرية السعودية، وكان ذلك في عام /1982/م، وتنوع عملي في جامعة "الرياض"، حيث تعاقدت مع مركز خدمة المجتمع والتعليم المستمر، واستمر عملي في الجامعة حتى العام /1986/م، وعدت للقطر مرةً أخرى حيث عُينت فور عودتي أميناً لمتحف "الرقة"، وبقيت على رأس عملي حتى العام /2002/م، وخلال هذه السنوات الست من عملي أميناً لمتحف "الرقة" شاركت بكافة أعمال التنقيب الأثري بالمحافظة، يدفعني لذلك تعلقي الشديد بعملي الذي وهبته أجمل سني عمري، وابتدأت بموقع له في حنايا النفس الكثيرَ الكثيرَ من الذكريات، "تل البيعة"، حيث حب الاكتشاف الأول كان هناك، وانتقلنا للتنقيب في القصور العباسية في مدينة "الرقة" الإسلامية، وأيضاً في موقع "تل صبي الأبيض" بالقرب من "حمام التركمان"، وفي مدينة "الفار" حصن "مسلمة بن عبد الملك"، بالقرب من "حمام التركمان"، كما شاركت في حفريات "تل السويحات" الواقع على ضفاف الفرات، وحفريات "تل البو حمد"، وموقع "سورا"، وتل "حموكار"، وموقع "الرصافة"، ولا أنسى عملي مع البعثة الأمريكية برئاسة البروفسور "جورجيو بوتشلاتي"، عندما تصادف العمل في أحد المواقع الأثرية بحلول شهر رمضان المبارك، حيث كان أفراد البعثة لا يأكلون، أو يشربون أمامي، احتراماً لمشاعري كمسلم، فإذا ما حلت ساعة الإفطار جلسوا يشاركوني إياه».

في مكتبه

نترك لضيفنا بعضَ فسحة من وقت، يسترد بها ذكرياته التي يتركز أغلبها حول عمله في التنقيب الأثري، فيحتسي فنجاناً من القهوة المرَّة، غارقاً بأوراقه مرةً أخرى، ونتوجه بالسؤال لصديقه السيد "عنتر الخلف" عن بيئة "العزو" الاجتماعية التي نشأ بها فيقول: «ينتمي "أبو آثار" لبيت عريق من بيوتات عشيرة "العفادلة"، التي تعتبر من كبرى عشائر المحافظة قاطبةً، ولها الأيادي البيضاء في حل أغلب نزاعات المنطقة، ولكنه رغم كل ذلك ممن يؤمنون بقول الشاعر:

لا تـقل أصلي وفصلي إنما أصل الفتى ما قد حصل

الشاعر نجم الدرويش

يقطنون قرية "المشلب" شتاءً، ويتوجهون إلى أرضهم الزراعية صيفاً، وهذه الأمكنة الصيفية التي يقصدها أغلب أهالي "الرقة"، تسمى "المقايظ"، حيث تكون جدرانها من الطين الذي يلطف جو الغرفة صيفاً، سقفها غالباً ما يكون من "الزَّل" ونبات "السوس"، تتصف بالبساطة مع لمسة جمال تجعل النفس تهدأ وتسترخي، وهو ككل أبناء جيله، عاشوا حياةً صعبةً للغاية في بدايتها، فالظروف الاقتصادية التي كانت سائدة في تلك الفترة كلها متشابهة، ولكن الحياة كانت أجمل وفيها من البركة الشيء الكثير».

ولدى سؤالنا السيد "عنتر" عن وسائل الراحة والترفيه بذاك الوقت أجاب: «في كل محافظة "الرقة" لا تجد الآن أي دار لعرض الأفلام السينمائية، وقد كان في "الرقة" وحدها، خمس دور سينما بذاك الوقت، وكنت أقصدها برفقة "أبو آثار"، وبعضاً من رفاقنا الآخرين، لنقضي وقتاً ممتعاً، تفوق متعته ما تشعر به وأنت تشاهد "التلفاز"، وحقيقة الأمر أننا كنا نشعر بالسعادة المطلقة».

ويحدثنا الشاعر "نجم الدرويش": «كان وحيداً لوالديه مدة ثلاث عشرة سنة، وهي مدة كافية لإفساد أي طفل بكثرة تدليله، ولكن وبشهادة والديه كان هذا الفتى صاحب اهتمامات غريبة بعض الشيء، فالذاكرة الشعبية كانت تربط كل الصروح الأثرية بعوالم "الجن"، ولم يكن "أبو آثار" ليترك ولعه بهذه الصروح، والتي حسبما أذكر ما قاله لي مرةً بأنها كانت تروي له تاريخها، وهو يصغي باهتمام بالغ، ولأكثر من مرة يضبطه والده رحمه الله بهذه الوضعية، فنقل مخاوفه لوالدته التي أوصت بأن يؤخذ الولد إلى "أويس القرني" لعمل حجاب له، فالولد قد مُسّ، عندما يتذكر "أبو آثار" تلك الحادثة يبتسم ويترحم على والديه، لا أذكر أن هناك عزاءً يقام في محافظة "الرقة" إلا ويكون أول السبَّاقين لتقديم واجبه، لكثافة علاقاته الاجتماعية، ولم يتخل حتى اللحظة عن عشقه للبساطة التي نشأ عليها، مازال مولعاً برائحة خبز "الصاج"، تسكره رائحة القهوة العربية، ويطرب لحكايا الجن وقصر "هرقلة"، ومنذ أن أنهى خدمته المتميزة كأمين لمتحف "الرقة"، تفرغ وبشكل كلي للبحث والتأليف، حيث يغرق الساعات الطوال يتحرى المعلومات ويوثقها بشكل أكاديمي، وأستطيع القول بأننا عندما نتحدث عن الآثار في محافظة "الرقة"، فسيكون ما يقوله الأستاذ "محمد العزو" هو الفصل بكل الحديث».

كما تحدث لنا السيد "أنس الخابور" أمين متحف "الرقة" السابق، الذي يجهز نفسه للسفر إلى اسبانيا للحصول على الدكتوراه في علم الآثار، فيقول: «عندما كنت أسمع باسمه تتملكني الرغبة بالذهاب إليه كي أستزيد من علم الآثار الذي أعشقه، وكان مثالاً للتواضع الذي يميز كل الكبار بأي مجال، ودارت الأيام وصرت أميناً لمتحف "الرقة"، ولم أنس موقع الرجل أو فضله بهذا المجال، بحيث أرجع لرأيه بما يستعصي علي ويستدعي التشاور مع أصحاب المهنة الواحدة، ولا أذكر بعثةً تلفزيونية تأتي إلى "الرقة" يكون ضمن برنامجها التجول في المواقع الأثرية، ولا يكون الأستاذ "محمد العزو" دليلها، بالنسبة لي أعتبره إرثاً من المعلومة يجب الحفاظ عليه والاستفادة منه».

كثيرة هي الجوانب في شخصية الرجل تستحق التنويه والإشادة، ولكن تواضعه وجه معظم حديثنا نحو العموميات، ويذكر أنه من مواليد محافظة "الرقة" عام /1950/م، درس الابتدائية في مدرسة "الرشيد"، وكذلك الإعدادية والثانوية، متزوج منذ عام /1984/م، لديه ثلاث بنات وصبي، متفرغ وبشكل كامل منذ العام /2002/م للتوثيق والبحث، له عدة كتب تحت الطبع وسترى النور قريباً، منها كتاب "حضارة البليخ ووادي الفرات الأوسط"، كما يعمل حالياً رئيساً لجمعية العاديات فرع "الرقة".