منذ نحو ست سنوات، أطلق المركز الثقافي العربي في مدينة "تل أبيض" مسابقة "ثابت بن قره الحراني" للشعر والقصة، والتي أتت من باب الاعتراف والعرفان بفضائل "الحراني" على الثقافة والحضارة العربية، التي هو أحد أبرز أعلامها وجهابذتها كما يقول السيد "توفيق حاج إمام" رئيس المركز الثقافي في مدينة "تل أبيض" لموقع eRaqqa. ويضيف: «لقد كانت "للحراني" أياد بيضاء في مجالات عديدة في شتى مناحي الطب والعلوم، وقد عقدنا العزم على أن نرفع القيمة المادية للجائزة إلى جانب قيمتها المعنوية بحيث نخرجها عن إطار ومحدودية المشاركة على صعيد الكتاب في المحافظة، لتشمل جميع الكتاب في سورية وذلك بدءاً من العام القادم لتحظى الجائزة بصيت ذائع على مستوى الوطن وليذيع معها اسم "ثابت" حتى يعرفه القاصي والداني، وذلك أقل مما يجب فعله تجاه هذا الرجل الذي قدم الكثير وترك في صفحات الحضارة العربية آثاراً لا يمكن إلا أن ننظر لها وله بإعجاب وتقدير».

وفي العودة إلى أمهات كتب التراجم والسير والموسوعات العربية وجدنا ذكراً متفرقاً "للحراني"، وإن تشتت هذا الذكر بين بطون الكتب حتى جاء نسبه مختلفاً فيه، فقال بعضهم إنه "أبو الحسن ثابت بن قره بن مروان" أو"زهرون أو هرون بن ثابت بن كرايا بن إبراهيم بن كرايا بن ماريوس بن مالاغريوس". وجاء في رواية أخرى إنه: "ثابت بن قرة بن مروان بن ثابت بن إبراهيم بن كرّايا بن مارنيوس بن سلامانس"، وفي رواية ثانية أن اسمه: "ثابت بن قرة بن مروان بن قيورا بن مارينون بن سلومون الحراني"، ويعرف "بالحراني"، وكنيته "أبو الحسن".

لكن مكانته العلمية لم تلقَ هذا التفرق أو الاختلاف، فالجميع يجمع على أنه عالم بالرياضيات والطبيعة والفلسفة والطب والفلك والموسيقا، وقد اشتهر الرجل بسعة الاطلاع والعلم في المجالات آنفة الذكر، إلى جانب إلمامه بالموسيقا، وقد أفاد من معرفته للغات الأخرى فأضاف إلى رصيده السابق ترجمة الكتب إلى العربية والسريانية، والراجح أن الرجل قد عاش في الفترة بين (211-288هـ 827 – 900 ميلادي)، وكانت "حرَّان" الصائبة مسقط رأسه وسكنه الأول، إلى الشمال من "الرقة"، بين "الفرات والبليخ"، حيث تلقى فيها مجامع العلوم العربية من لغة ونحو وشعر وعلوم القرآن والدين.

توفيق حاج إمام رئيس المركز الثقافي بتل أبيض

يتحدر "الحراني" من أسرة عربية عريقة أنبتت في عصره طائفة كبيرة من العلماء والأطباء، ويعود الفضل إليه في نشر شهرتهم، لأنه كان أول عالم اشتهر من الصابئة في "بغداد"، كان "ثابت" من أعيان عصره في الفضائل، وقد جرى نزاع بينه وبين أهل مذهبه فرفعوا أمره إلى رئيسهم الذي أنكر عليه آراءه، ومنعه من دخول الهيكل، ثم استتابه فتاب، لكنه عاد ينشر آراءه ثانية، فحرموه من دخول مجمعهم، فيمم وجهته صوب قرية تدعى "كفر تُوثا" قرب "دارا" في الجزيرة الفراتية بين "رأس العين" و"حران".

ويذهب البعض أن سبب الحنق على الرجل هو تأثره بالفلسفة اليونانية التي كان يدرّس كتبها "أفلاطون"، و"سقراط"، وكان يقول بالحرية العقلية، مما أثار حفيظة بني جلدته وملته، فألَّبوا السلطة، وأوغروا صدر السلطان العباسي عليه.

المركز الثقافي في "تل أبيض"

وكان التعليم الأولي في "حران" منذ الفتح الإسلامي بالمساجد والمدارس (الكتاتيب)، وكانت اللغة العربية لغة التعليم في المراحل الأولى، ودخل "ثابت" هذه المدارس ونهل منها مجامع العلوم التي كانت بعصره وظل ينهل حتى أتم الخامسة عشرة من عمره، فالتحق بحلقات العلم في المسجد الجامع "بحران"، معبد "شارا" سابقاً، ليتلقى تعليمه العالي على أيدي الأساتذة باللغتين السريانية، واليونانية إلى جانب اللغة العربية، وتلقى بحلقات هذا المسجد دروس الفلسفة والرياضيات والفلك والمنطق والطب بهذه اللغات الثلاث، ودرس الكتب المعتمدة في العلوم البحتة، وهي كتب: "أرسطو"، و"أفلاطون"، و"إقليدس"، و"جالينوس".

ومن الكتب التي درّسها "ثابت بن قرة" بالمسجد الجامع كتاب "المخروطات" "لأبولونيوس الصوري"، وكتاب "الإيقاع الهرموني"، "لأرستكسينوس التارنتي" الذي عاش حوالي 350ق.م. ومن الكتب التي درّسها "ثابت" بالمسجد الجامع الكبير في الطب كتب (جالينوس البرغامي)، الذي عاش بين عامي /130-202/ ق.م، وكان "ثابت" يسميه الحكيم الفاضل، كما كان يعتمد حكمة "أبقراط" القائلة: «إن حفظ الصحة في دفع المرض بما يضاده».

غادر "ثابت" "كفر توثا" إلى مدينة "الرقة"، وأنشأ فيها ما يشبه أن يكون مدرسة عليا لتعليم الفلسفة والفلك والطب، وانتسب إلى هذه المدرسة أبناء الطوائف: الحرانية، المسيحية، اليهودية، وكان من تلاميذه الحرانيين: ابناه: "سنان" و"إبراهيم"، وابن أخته "البتاني"، وبنو الصباح الحرانية: "محمد" و"إبراهيم" و"الحسين"، وكانوا من حُذاق المترجمين وعلماء الهندسة، و"قرة بن قُميطا"، و"أبو روح الصابئي"، و"إبراهيم بن زهرون" قريب "ثابت بن قرة"، و"أسيد بن عيسى" وقد لحق "بثابت" فيما بعد في "بغداد" وساعده في الترجمة، و"أيوب بن قاسم الرقيّ"، و"عثمان ابن عنبسة" وقد صارا فيما بعد مترجمين مشهورين في "بغداد"، وكان من تلاميذه "أبو الثناء"، الذي نبغ في الفلسفة والطب، وحين ذاع صيت "ثابت بن قرة" في أرض الجزيرة، سعى إليه أولاد "بني موسى" ليترجم لهم في "بغداد" الكتب، ويصحح بعض ما كان تُرجم منها، ويصلح لهم أرصادهم بمرصد الشماسية، ويشرح لهم الغامض من علم الحيل وعلوم الهندسة الأخرى.

التقى "محمد بن موسى بن شاكر" أكبر أبناء بني "شاكر" بـ "ثابت بن قرة" في "الرقة"، وأخذه "محمد" معه إلى بلاد الروم البيزنطيين لجلب الكتب اليونانية، ثم أخذه معه إلى "بغداد" عام 251هـ - 865م في عهد الخليفة "المستعين بالله"،

وفي "بغداد" صار ثابت صديقا للوزير "ابن بلبل"، وكان الخليفة "المعتمد" (256 - 279هـ / 869 - 892م) قد غضب على أخيه "المعتضد بالله"، وحبسه عند "ابن بلبل"، وكان "ثابت" يزوره في منزله ثلاث مرات يومياً، وأصبح "ثابت" صديقاً "للمعتضد"، وحين خرج وتولى الخلافة عام (279هـ - 892م) طلب "ثابتاً"، وأدخله في جملة الفلكيين ببلاط الخلافة، وكان "ثابت" قد أصبح عالماً موسوعياً صاحب فصاحة، بارعاً في الترجمة، وفي تصنيف الكتب بالعربية والسريانية، ولأنه كان مبجلا عند "المعتضد" علت مكانته، وذاع صيته أكثر إذ كان يجلَّه ويحبه، وقد أحسن وفادته، وأغدق عليه العطايا، واقتطعه ضيعاً باسمه، رغم كونه صابئياً، وهو مؤسس علم الهندسة التحليلية، ومكتشف علم التفاضل والتكامل، إضافة إلى كونه طبيباً حاذقاً، وعالماً من علماء الطب وكتاب البصر والبصيرة خير شاهد على حذقه في علم الطب. إذ يحتوي الكتاب على مقدمة من ستة عشر باباً هي أبواب: تشريح العين، جملة أمراض العين، وأمراض الجفن، وأمراض المآق، وأمراض الملتحمة، وأمراض القرنية، وأمراض العنبية، وأمراض ثقب العنبية، وأمراض الرطوبة البيضية، وأمراض الرطوبة الجليدية، وأمراض الروح الباصر، وأمراض العصب المجوف، وأمراض الرطوبة الزجاجية، وأمراض الطبقة الشبكية، كما يضم باباً للتداوي والأدوية.

الذخيرة في علم الطب – المباني الهندسية – رسالة الشكل القطاع، رسالة مساحة المخروط، آلات الساعات في الزوال، تركيب الأفلاك، مسائل في الموسيقا، طبائع الكواكب، الهيئة، علَّة الكسوف والخسوف، الرصد، تصحيح مسائل الجبر، مراتب العلوم، أصول الأخلاق، العمل في الكرة، تولد النار بين الحجرين، المسائل الطبية، كتاب الهندسة.

وقد توفي "الحراني" عن سبعة وستين عاماً، وقد خلَّف في أثره نحو مئة وخمسين كتاباً، وقد جاءت آثار الرجل وأخباره في بطون جملة من الكتب التي نضعها بين يدي القارئ إذا أراد الاستزادة وهي: عيون الأنباء لابن "أبي صبيعة"، سير النبلاء "للذهبي"، وفيات الأعيان "لابن خلكان"، تاريخ الحكماء "للقفطي"، الفهرست "لابن النديم"، الأعلام "لخير الدين الزركلي"، معجم المؤلفين "لرضا كحالة" بالإضافة للمواقع الالكترونية في المحافظة والتي جمعت أخباره وأثاره.