"العفادلة" إحدى أكبر عشائر "البوشعبان الزبيدية"، ومنها برز رجالات كثر تشهد لهم البلاد السورية، وسطعت أسماء كثيرة منهم في سماء الوطن، وستبقى أفعالهم عالقة في أذهان الناس قاطبة، ومنهم الشيخ "بشير الهويدي" الذي عرف بتقواه وورعه وكرمه الذائع الصيت.

كان للشيخ شرف المشاركة في الثورة ضد المستعمر الفرنسي عام 1941 وقصة اعتقاله معروفة ومشهورة، وكيف حاول المستعمر إعدامه رمياً بالرصاص، ولكن كان للقدر كلمته، حيث فرَّ من الأسر ليتابع مسيرة حياته في إدارة شؤون عشيرته، ومواصلة النضال من أجل التحرير الذي تحقق على أيدي الشرفاء والمناضلين. وعندما توفاه الله تابع مسيرته في مشيخة "العفادلة والبوشعبان"، ولده الشيخ "مجحم البشير".

وبرز من أبناء الشيخ "بشير الهويدي" الشيخ "علي البشير الهويدي" الذي وصفه الناس بحاتم طي القرن العشرين، والذي تداعى الناس للمسير بجنازته من كل حدب وصوب، في يوم تاريخي لم تشهد مثله مدينة الرقة! ولد في محافظة الرقة عام 1918 وعاش وتربى على الكرم والشجاعة والمروءة والشهامة، حيث برز اسمه وانتشر في ربوع البلاد السورية، وتشهد له العشائر بكرمه الذائع الصيت والرجولة والوطنية، وله مواقف كثيرة لا تعد، ولا يمكن للزمن مهما طال أن يمحوها، وستبقى عالقة وحاضرة في أذهان الأجيال القادمة، فمنذ صغره شارك في موقعة الخفيَّة، وهي معركة وقعت بين عشائر البدو والعفادلة، وخصه شعراء كثر بقصائد ما زالت تتردد على الألسن:

صورة نادرة للدكتور عبد السلام العجيلي في جنازة الشيخ علي البشير

يا ليث يا ضراب بالهوش مشهور...شـيخ عديـم ما يهـاب البياحي

بكون الخفية وكوف ومجابل نحور...يوم الفشك حامي وضبيب طاحي

الشيخ علي مع رؤساء العشائر

امشهر بكطش الجوخ والبرنو يثور...وماطمن راس الشيخ كثر الصياحي

وتابع مشوار حياته ليزداد اسمه تألقا يوما بعد يوم، فقد أصبح من الرجال الوطنيين الأحرار المعروفين في سورية، المشهود لهم بحبهم الشديد لوطنهم سورية، وعدم المساومة عليه، وله مواقف عديدة أبرزها، حين ذهابه إلى لندن للعلاج عام 1982، فما كاد ينزل في فندق "البيكادلي" بلندن، حتى تلقى نبأ وجود "موشي دايان" وزير دفاع الكيان الصهيوني الأسبق في نفس الفندق، وعندها أصَّر على مغادرة الفندق، والنزول في فندق "تشرشل"، حتى لا يصدم برؤيته هناك.

وفي عام 1944 كان له الفضل في إيواء "أديب الشيشكلي" لمدة أربعة أشهر وأمَّن له طريق العودة إلى دمشق، عن طريق دير الزور، وعندما عاد واستلم السلطة أرسل بطلب الشيخ، وعرض عليه إصدار مرسوم جمهوري وإطلاق لقب باشا على "آل الهويدي"، لكنه رفض قائلاً: إننا باشاوات دون مراسيم، لسنا بحاجة للباشوية لأنها لا ترفع من شأننا!.

وفي عام 1945 زار الرئيس "شكري القوتلي" منزل آل "الهويدي"، فأقام له الشيخ "علي" وليمة كبرى، أحضر مستلزماتها من مدينة حلب، خصيصاً لهذه المناسبة. وبعد ثورة "سليم حاطوم" و"بدر جمعة" عام 1966 فرَّ معظم شيوخ العشائر إلى خارج سورية، لكن الشيخ علي البشير رفض الفرار، وفضل السجن على مغادرة أرض الوطن، وتم اعتقاله وسجنه لفترة من الزمن، وكان الشيخ معروفاً بمساعيه الحميدة لعقد الصلح بين العشائر وإيواء من يلجأ إليه إذ قال فيه الشاعر "محمود الشغيبي":

مزبان للبلاش وللملتجي سور...ومرتاع للجوعان بسنين الشحاحي

عز لبني شعبان وزبيد وجبور...من ديرة الموصل ولحد الصباحي

كلها تكنى بيه بدو وأهل دور...والجماميس اللي بديـرة دناحـي

والبوشعبان وقوف تتنى هل الشور...تتنى أبو محمد تايعيج الرواحي

فقد تم انتدابه من قبل محافظ حلب "حسين البطاح" لعقد الصلح بين الحديدين في مدينة حلب، وهو من عقد الصلح بين الفردون وهي من قبائل البوشعبان مع "علاء الدين الجابري"، عندما قتل شيخهم "عبود العبد الحنان"، وفي منزله تم إيواء الشيخ "راغب البشير" شيخ البقارة في دير الزور، عندما قتل بعض رجال الشرطة في الخمسينيات، ويعود الفضل للشيخ "علي" في إصدار العفو عن "النوري بن مهيد"، والسماح له بالعودة من منفاه في الأردن عام 1964 وهناك نزاعات وخلافات كثيرة حُلت بفضله.

وكان الشيخ رجلاً عملياً ويملك رؤية اقتصادية، فهو أول من فكر بجر مياه نهر الفرات إلى منطقة شنينة شمال الرقة 17 كم، حيث سقيت الأراضي لأول مرة بمياه نهر الفرات، وكان يفكر بجرها لأبعد من ذلك، فهو محب للزراعة، وللأشجار عنده مكانة خاصة.

كثر هي مواقفه وكثر هي صفاته، فكرمه لا حدود له، ورجولته ذاع صيتها، وهيبته بين مشايخ الجزيرة السورية لم يملكها رجل قط فقال فيه أحد الشعراء:

هو عزنـا هو زعيـم بلادنـا...نور العشـيرة وعنبر الديـوان

صطمت البـولاد أبـو محمـد...أسطول سادس حامي الميـدان

عثوثج الصعبـات شـيال الثقل...امدرج الضالع والهازل العجزان

هزبـر الغابـات ليث ضـاري...يعرب عفدل من بنـي شـعبان

مالك من ايضاهيك ابعصرنا هذا...بالصخى يابرمكي ياحنظل العدوان

وكان رحمه الله قليل الكلام كثير الأفعال، ونادراً ما تراه يتحدث إن لم يكن للحديث مناسبة، وإن جلس فمجلسه ثابت إلى أن يغادره إلى مكان آخر. ومن شدة هيبته أثناء دخوله لأحد المجالس، فكل رجل في المجلس يظل واقفاً إلى أن يأخذ مكانه فيه. عاش حياته ولم يغادر أرض وطنه، إلا في أيامه الأخيرة في رحلة علاج إلى لندن وباريس، وعاد ليكمل علاجه في دمشق، إلى أن كان للقدر كلمته التي هزت الديار السورية، ووصفها الشاعر محمود الذخيرة في مطلع قصيدة، قالها في رحيله:

جبت الخبر ياحمود الله يجازاك...ثاري العلم ياحمود موت الجبيرة

علي البشير الماتعلاه سوى ذاك...شيخ الشيوخ الما يهاب الجريرة

حزنت عليك البيد واليم والفلاك...صيتك على مر الدهر نكتبو سيرة

وكل العرب ياأمير لجت لفركاك...والبوشعبان اليوم نامت حسيرة

ياويل قلب عانـس الهم مرداك...على فقيد زبيد سبع الجزيرة

كان ذلك في يوم الاثنين 20 آب عام 1984 حيث خرجت جموع أهالي الرقة تودعه إلى مثواه الأخير، وكتب شعراء كثر قصائد رثاء كثيرة منها:

انهزت جبال الشام والصدع بعراك...وباقصى اليمن صياح ينذر نذيره

والله ماانصرت عن الجود يمناك...وام العلا بعدك انزجت اسيرة

يالبيض ابكن على من جان مدهاك...رواك المثلث ابن سعد العشيرة

طول الدهر ابجن وارتدين شكاك...عكب أبو محمد روع حتف كسيرة

ومن أبرز قصائد الرثاء قصيدة لأحد الشعراء منها:

علي البشـير اليوم تنعاك العبـاد...حزنت عليك ياعظيم السجايا

بعدك يبو محمد مجازي من الزاد...الصبر بعدك يبو محمد دوايا

البيض ماتنجب بعدكـم ولا عاد...ليوم نكوم من المراكد عرايا

وبعد.. هذا بعض من مآثر الشيخ "علي البشير"، الشخصية الأثيرة، حيث ما تزال سيرته على ألسنة العامة والخاصة تتردد في مجالس العشائر والمضافات الكبرى إلى ما شاء الله.