ليس ببعيد عن قرية الكرين الواقعة على ضفاف الفرات، شهدت الحضارات الإنسانية ولادة أول مسكن في التاريخ البشري، وتحديداً في الألف التاسع قبل الميلاد، وفي موقع تل المريبط على نهر الفرات، الذي يبعد عنها بضعة أميال، هناك في الكرين ولد حسن العساف عام 1959.

وقد شهدت هذه القرية سلسلة من التحولات، حيث غمرت كلياً بمياه بحيرة الأسد، وغيبها الماء ولم يُبقِ لها على أثر، فدفعه الحنين إلى طفولته الأولى ويفاعته، وظلال الأمس القريب، وما يحتوي من متروكات وإرث سيغيبه النسيان، إلى التمسك بكل شيء يتعلق بالماضي، وهو يرى الجرافات ومعاول العمال تدك بيته وبيوت القرية وآثار الأولين، وولدت لديه فكرة إعادة إحياء الموروث الشعبي والمتروكات عبر تجميع كل ما يقع بين يديه، فاندفع بحماسة الأطفال إلى الاقتناء والتقصي والبحث والجمع عن كل ما يتعلق بإرث الآباء والأجداد، ولسان حاله يقول: لا يمكن لهذا الإرث أن يغيب في غياهب النسيان، فكانت البداية الأولى التي شغلت حيزاً من منزله الذي تحول إلى نواة متحف صغير بدأ يكبر شيئاً فشيئاً، فضاقت به الزوجة، وتبرمت بشكوى صامتة، وكأنها تقول :أليس البيت والأولاد أولاً؟ لكن العساف لم تضعف عزيمته، واستمر يدفع الغالي والنفيس للحصول على متروكات الأمس من أزياء وفلكلور وأدوات للصيد والقنص والزراعة والحصاد والرعي والصناعات التقليدية ،وكذلك الوثائق والصور القديمة، وأدوات الإنارة المستخدمة في ريف ومدينة الرقة قديماً، وتطورت إلى جمع العملات والطوابع، واللقى الأثرية التي لها علاقة بإنسان الفرات.

حسن العساف ليس إنساناً عادياً، فعلى الرغم من حصوله على شهادة جامعية في علم النفس، استمرت هوايته معه، ترافقه في الشارع والبيت، والوظيفة، وبدأ بترجمتها على أرض الواقع فحصل على قاعة في مديرية الثقافة بالرقة لعرض مقتنياته التي لم يفكر في يوم من الأيام ببيعها أو التفريط بها رغم ضيق الحال واشتداد الفاقة، فهي تمثل الهوية والبصمة لإنسان الفرات، الجذر الحقيقي والحضاري لأبناء المنطقة.

في عام 2004 تكللت مساعي العساف بالحصول على قرار رسمي من السيد محافظ الرقة بتسمية البيت الريفي الكائن بحديقة الرشيد ،بدار التراث، وتكليفه رئيساً على هذه المنشأة الحضارية، وبدأت الفكرة التي ولدت من رحم الماضي بالنمو بقوة، وحظيت الدار بالزوار الذين بدؤوا بالتقاطر من كل حدب وصوب، من المحافظة والمحافظات السورية والأقطار العربية، وجاءها السياح الأجانب الذين راحوا يمتعون أنفسهم برؤية تراثنا الجليل.

ثمة امرأة عجوز تكللت بظلال الماضي، تتساقط الدموع من عينيها وهي تنظر إلى الهودج، وتردد وهي تنتحب: كان زفافي على مثل هذا الهودج، وامرأة أخرى تمني النفس بتدوير حجر الرحى، أوأن تلقي بالدلو في البئر لتخرجه مليئاً بالماء الرقراق، ورجل يرجو أحد العاملين أن يضع يده على الغراف، أو يمسك بخنجر أو فأس أو طبنجة، فتعود إليه أيام الماضي فتأتلق عيناه وتقدحان بالشرر وهو يقارع الغزاة والمستعمرين . كل شيء يعيدك إلى الماضي بعبقه الآسر، وروحه المؤتلقة ، فتنحني بتواضع وإجلال أمام عظمة هذا الرجل الذي جمع ما يختصر الماضي في هذه الدار التي حملت سمة جميلة تنتظر أن يزورها الناس من كل أصقاع الأرض.

يقول العساف: لقد باركت الشرائع السماوية أرضنا العربية على مرَّ العصور، حاملة معها المبادئ والقيم والأخلاق الحميدة، وكان لأجدادنا العرب شرف الريادة ومكان الصدارة في محراب التاريخ الحضاري المقدس، وبشريعة السماء ظل التعامل والمعاملة المقياس السائد للمحبة ، وحملت أرضنا العنوان الحضاري للتعاون والألفة والكرم والصدق والشهامة والأصالة، وكان وطننا الغالي ومازال مهداً لهذه الحضارة الأصيلة التي نتج عنها ثقافة عمرّت الأرض والإنسان، ويكفي شاهداً أن الحضارة البشرية الأولى شهدت ولادتها الأولى على نهر الفرات، وأن ابن الفرات شيد أول مسكن في التاريخ في تل المريبط، حيث عرف الإنسان الأول ، وميز بين ما هو ضار وما هو نافع في طعامه وشرابه، وبنى المخازن والعنابر لحفظ النباتات البرية والحبوب، والمأوى للحيوانات التي قام بتدجينها منذ عام 8300 ق.م ، وزاول الصيد والزراعة وعرف المحراث والعجلة الخشبية وطور حياته منذ القديم.

وبما أن التراث يشكل ذاكرة الأمة وماضيها العريق وهوية تفردها، اهتمت القيادة الحكيمة في وطننا بالتراث، وشجعت التمسك به وإحياء الجوانب الأصيلة منه، وقد كانت البداية الأولى بعرض متروكاتي من خلال مهرجان التراث بالرقة عام 1998، حيث شيدت خيمة عربية (بيت الشعر) مع كافة مستلزماتها التراثية، وكانت معي فرقة إحياء التراث الشعبي تحيي السهرات التراثية والمحاضرات والمعارض طيلة أيام المهرجان، ثم شاركت بمعارض خارج المحافظة وداخلها حيث نلت الجائزة الأولى في مهرجان حماة عام 2000 في جناح الوثيقة، والجائزة الأولى في السويداء والأولى في الرقة، ثم أنشأت متحفاً للتراث والتقاليد الشعبية مع صالة للوثيقة في دار الأسد للثقافة، ونلت جائزة ابن البلد عام 2002، وفي عام 2003 بادرت لنشر وعرض التراث كمادة سياحية جاذبة في البيت الريفي الذي تطور فيما بعد، ليصبح داراً للتراث يرتادها السياح والوفود الرسمية والشعبية وطلاب المدارس والمعاهد والجامعات من دون رسم أو مقابل مادي، وفي عام 2004 أصدر السيد المحافظ قراراً بتسليمي الدار، وعملت ليلاً ونهاراً لأجعل منها متحفاً يضاهي المتاحف الرسمية ويتفوق عليها في بعض الجوانب. ورغم غنى الدار بما تحتويه إلاّ أنها ظلّت دون طموحي الذي أنشده في سبيل الوطن الغالي.

عن أقسام دار التراث والتقاليد الشعبية، يقول العساف: تحتوي الدار على المسكن البدائي لابن الفرات، حيث وثق على شكل مجسمات للكهوف والدبابة والقاووش والكوخ، والمسكن الريفي الذي يتألف من القبب والجمالون والبناء المسطح والشونة والحابوسة، والسيباط، والمسكن البدوي الذي يتألف من بيت الشعر (الخيمة العربية) وفيها المضافة (الربعة) للرجال، والخدرة للنساء، وهو مقسم بعيدان (الزرب) المصنوع من البردي الملفوف بخيط الصوف الملون والمنسوج على شاكلة البساط الصوفي.

كما تحتوي الدار مقصورات المهن اليدوية، وهي من القبب الطينية المبنية على الطراز الإسلامي العباسي، ومجسمات الأوابد التاريخية مثل باب بغداد، والسور القديم، ومأذنة المسجد الجامع، والبحرة المثمنة في قصر البنات، وتمثال ربة الينبوع.

مقتنيات الدار:

وهي تشمل مقصورات المهن اليدوية التي نشاهد بأولها مهنة السدو العربي، ثم النول النسيجي، وصناعة الحليب والألبان، والنجارة والحدادة، وصناعة خبز الصاج والتنور، والشعيرية والحبوب والفخار والخزف الفراتي، والفن الفطري..

قسم السكن الفراتي وسكن البليخ : حيث نشاهد طريقة المعيشة والأواني المنزلية للمعيشة اليومية واللباس الذي يرتديه الرجل والزي الذي تلبسه المرأة أثناء المناسبات والحياة اليومية، وفي هذا القسم نشاهد المناسف والقدور النحاسية والأباريق والصحون والصواني والمغاريف والملاعق (الخواشيق) الخشبية والنحاسية، والأسرجة والأباريق، وبوابير الكاز وغيرها من الأدوات والأواني التي يستخدمها ابن الفرات والبليخ في حياته اليومية مثل المزبد والجود، والشجوى والدن الخزفي والخابية الفخارية، ونشاهد كذلك لباس المرأة الريفية المؤلف من ثوب الشلاليح والزبون والدراعة والهباري والملفع ومحزم الشويحي (الجميلي) وكذلك لباس العروس المخاط من الحرير (المحرحر) والصانجان والدانتيل وبعض اللباس المزين يدوياً بخيط الحرير والمشغول بالأبرة على شكل الغنوشية. ولباس الرجل الفراتي المؤلف من لباس الرأس الشريفي أو العقال والكوفية من الكضاضة البيضاء والشماغ الأحمر أو الأزرق، والسمسمية والكسروان ولباس الظهر من الثوب الكلابية أو الكصيرة المخاطة من الجوخ أو التركال، فالعباءة الخاجية من الوبر أو من الصوف، والدراعة، والمحزم الصوفي أو الجلدي، والمجند والصف والخنجر، وأخيراً لباس القدمين (الداسومة الحمراء) و(الكلاش) الجلدي.

الإيوان: وهو بناء طيني من اللبن مسقوف بالخشب والزل، ومفروش بالنسيج الصوفي والبسط والوسائد، وعلى الجدار معرض صور ضوئية يمثل بعض العادات والتقاليد المحلية.

المضافة الفراتية: وهي مفروشة بالنسيج الصوفي واللبابيد والوسائد، وتحتوي على النفيلة ودلال القهوة المرة، والمهباش والمحماس ومنفاخ النفيلة، والنرجيلة، والأسرجة، والربابة والدفوف.. ونجد في المضافة الشعبية قسماً للأسلحة الذي يحتوي على كافة الأدوات والأسلحة القتالية التي كان يحملها ابن الفرات لاتقاء شر الحيوانات المفترسة، ولحماية نفسه من قطاع الطرق، مثل السيف والقوس والنشاب والدرع والرمح والدبوس والخنجر والفأس والبارودة والطبنجة والمسدس (الفرد) والمجند والصف.

قسم النقود والصكوك النقدية والطوابع: حيث نشاهد فيه توثيقاً للنقود العربية والإسلامية، وخاصة الأوراق النقدية لدولة سورية، وإصدارات بنك سورية ولبنان من القرش ونصف القرش، والفرنك ونصف الفرنك، والطابع السوري منذ صدوره الأول ومناسباته الوطنية والقومية، والطوابع العربية والأجنبية.

قسم الوثيقة الوطنية: ونشاهد في هذا القسم الأوابد التاريخية قبل ترميمها، وصور الحياة الفراتية، والعادات والفلكلور والتقاليد الشعبية، ومخطوطات ووثائق وصوراً لوجوه قادة وزعماء ووجهاء وأعلام منذ الانتداب الفرنسي والعهد الوطني وعهد الاستقلال، ثم أخيراً نعرج على الحياة البدوية داخل بيت الشعر (الخيمة العربية) المصنوع من شعر الماعز، والمقسم إلى ربعة (المضافة) والخدرة المفروشتين بالنسيج واللبابيد والمراكي، والقهوة المرة وأدوات صناعتها، ونشاهد كذلك العائلة البدوية بلباسها الشعبي، وهناك امرأة تدير الرحى لتعد الطحين. والخيمة ملفوفة بعيدان البردي المنسوجة بخيط الصوف الملون..

وبعد هذه الجولة، ماذا يقول الزوار عن دار التراث وعن حسن العساف؟

لقد دوّن الآلاف من الزوار ملاحظاتهم، وأشادوا بهذا المعلم الحضاري.. من المحافظات السورية والبلاد العربية وأوربا وأمريكا، وسنقبس بعضاً من هذه الآراء علّها تعطي صورة عن محتوياتها وما تحمله من مضامين حضارية..

يقول الدكتور محمد السعيد إدريس من جمهورية مصر: "أمة بدون تراث هي أمة بدون ماض والماضي هو سر الحاضر، ومنه تتحدد معالم المستقبل.. هكذا يكون حفظ التراث طريقنا إلى مستقبل لائق بحاضرنا، ومنه نستمد معالم الحضارة، إلى هذا الحد تحفظ دار التراث في مدينة الرقة مستقبلاً مازلنا ننتظره ونحلم به".

ويقول محمد قجة رئيس جمعية العاديات: في الرقة العريقة.. مدينة حضارة توتول، كان لي شرف زيارة متحف الوثيقة، وقد سررت جداً بما شاهدته من جهد فريد يعطي صورة حية عن تراث هذه المدينة الجميلة.

أما الشاعر ميشيل جحا من لبنان، فيقول: إن إحياء التراث هو الوفاء عينه، فما شاهدته في الرقة من لملمة أشلاء حضارة الأمس القريب والبعيد على يد حسن العساف ، لدليل ساطع على أصالته وتشبثه بما يقدمه لنا الأجداد.